إنه لا يُرحم من لا يَرحم
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، والصلاة والسلام على من أرسله ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، أما بعد:
فإن الرحمة سبب واصل بين الله وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله، وأنزل إليهم كتبه، وبها هداهم، وبها أسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم.1 وقد حث النبي ﷺ على الرحمة والتراحم، وعاتب بعض الناس على قسوته، وترك رحمة الصغير والضعيف كما فعل مع الأقرع بن حابس فعن أبي هريرة أن الأقرع بن حابس أبصر النبي ﷺ يقبل الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال رسول الله ﷺ : إنه من لا يَرحم لا يُرحم2
وإليكم شرح مختصر لهذا الحديث:
مفردات الحديث:
قوله: (وعنده الأقرع بن حابس): الأقرع لقب، واسمه فيما نقل ابن دريد: فراس بن حابس بن عقال – بكسر المهملة وتخفيف القاف -، وكانت وفاة الأقرع بن حابس في خلافة عثمان، وهو من المؤلفة، وممن حسن إسلامه.3
قوله: (إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً): زاد الإسماعيلي في روايته (ما قبلت إنساناً قط).4
شرح الحديث:
الرحمة: لغة: الرِّقَّة، والتَّعَطُّف، و”الرحمة”: المغفرة، يقول الله تعالى وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (سورة يونس:57) أي فصلناه هادياً وذا رحمة، يقول تعالى: وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا (سورة التوبة:61). واصطلاحاً: اللطف والإحسان، أي التخلص من كل آفة أو نزعة تدفع الإنسان إلى الشر، مع إيصال الخير إلى الناس، فمساعدة الضعيف رحمة، ومد يد العون للمحتاج رحمة، وتخفيف آلام الناس رحمة، وعدم القسوة على من – وما – تحت يد المرء، ومعاملة الأرحام – وخاصة الوالدين – بالحسنى.
وقد ذكرت كلمة “رحمة” في القرآن الكريم (79) مرة توزعت في سوره، ابتداء من قوله تعالى: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (سورة البقرة:157)، وحتى قوله تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً (سورة الحديد:27)، وتدور معانيها حول رحمة الله بعباده، وذلك بإنزال النعم عليهم في الدنيا والآخرة، وفى مقدمتها بعث الله محمداً ﷺ لهم بالهدى والرحمة يقول تعالى: فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ (سورة الأنعام:157)، وغيرها من آيات الكتاب العزيز.
وردت كلمة “رحمة” ومشتقاتها في أحاديث عديدة، وكلها تدور حول: التواصل بين الناس، ووصف المؤمنين بالتراحم والتعاطف فيما بينهم مثل: ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم؛ كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى5، والراحمون يرحمهم الرحمن6، كما تنفرهم من القسوة وعدم الرحمة مثل قوله ﷺ : من لا يرحم الناس لا يرحمه الله7، ولهذا نص عليها في رد السلام: “وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته” ليتذكرها الناس دائماً فيسود التعاطف والتآلف بينهم.8
وجاء عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال: تقبلون الصبيان!! فما نقبلهم، فقال النبي ﷺ : أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة9 فهذا الحديث، وحديث أبي هريرة السابق في الأقرع بن حابس؛ يبين مدى قلة الرحمة، وقسوة القلب عند بعض أهل البادية يقول ابن حجر – رحمه الله – في الفتح: لقد أجاب النَّبيّ ﷺ الأقرع بن حابس أن تقبيل الولد وغيره من الأهل والمحارم وغيرهم من الأجانب إنما يكون للشفقة والرحمة.10
والأقرع بن حابس استغرب من النبي ﷺ أن قبَّل الحسن بن علي – رضي الله عنهما -، وذكر أنه لم يقبَّل واحداً من أولاده العشرة، فرد النبي ﷺ عليه بأبلغ رد وأحسنه، فمن هذا الحديث نتعلم الرحمة بالأولاد، وكيف ينبغي أن يعامل الأب الأبناء، فهم يقبلونهم صغاراً، ويحسنون إليهم كباراً، والولد ريحانة الوالد، قال بعض الحكماء: “ذهبت من الدنيا ملذاتها إلا من ثلاث: شم الصبيان، وملاقاة الإخوان، والخلوة مع النسوان”، وقال الأحنف بن قيس: “أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، وبهم نصول على كل جليلة، فإن غضبوا فارضهم، وإن سألوا فأعطهم، وإن لم يسألوا فابتدئهم، ولا تنظر إليهم شزراً فيملون حياتك، ويتمنون وفاتك”.
من رحمة النبي ﷺ بالصغار:
ومما يذكر من رحمة النبي ﷺ بالصغار ما روي عن أبي بكرة قال: كان النبي ﷺ يصلي بنا، فيجيء الحسن وهو ساجد – صبي صغير – حتى يصير على ظهره أو رقبته، فيرفعه رفعاً رفيقاً، فلما صلى صلاته قالوا: يا رسول الله إنك لتصنع بهذا الصبي شيئاً لا تصنعه بأحد؛ فقال: إن هذا ريحانتي، وإن ابني هذا سيد، وعسى أن يصلح الله تبارك وتعالى به بين فئتين من المسلمين فقال الحسن: فوالله والله بعد أن ولي لم يهرق في خلافته ملء محجمة من دم)11، وعن أنس قال: ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله ﷺ .12
وعن ابن مسعود قال: كان رسول الله ﷺ يصلَّي، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا أرادوا أن يمنعوهما، أشار إليهم أن دعوهما، فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره وقال: من أحبني فليحبَّ هذين13 .
وعن أنس مرفوعاً: إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبيِّ؛ فأجوز في صلاتي، مما أعلم من شدةِ وجد أمه ببكائه14 وعنه قال: من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامةِ أنا وهو وضمَّ أصابعه.15 وكان النبي ﷺ يُقبِّلُ الأطفال، ويمازحهم، ويعطيهم، بل ويبكي ويتأثر عندما يموت أحدهم، وهو الذي يقول: إنما أنا لكم مثل الوالد لولده، أعلمكم16
وعن أبي هريرة قال: خرج النَّبيّ ﷺ في طائفة النهار لا يكلمني ولا أكلمه حتى أتى سوق بني قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة فقال: أَثَمَّ لُكَع، أَثَمَّ لُكَع؟! فحبسته شيئاً، فظننت أنها تلبسه سخاباً (قلادة من خرز)، أو تغسله؛ فجاء يشتد حتى عاتقه وقبله، وقال: اللهم أحبه، وأحب من يحبه17
ومما يذكر أيضاً في الرحمة بالصغار ما ذكره صاحب الحلية عن أحمد بن عطاء أبو عبد الله اليربوعي قال: نازعت عتبة الغلام نفسه لحماً، فقال لها: اندفعي عني إلى قابل، فما زال يدافعها سبع سنين؛ حتى إذا كان في السابعة أخذ دانقاً ونصف أفلاس، فأتى بها صديقاً له من أصحاب عبد الواحد بن زيد خبازاً؛ فقال: يا أخي إن نفسي تنازعني لحماً منذ سبع سنين، وقد استحييت منها، كم أعدها وأخلفها، فخذ لي رغيفين وقطعة من لحم بهذا الدانق والنصف؛ فلما أتاه به إذا هو بصبي قال: يا فلان ألست أنت ابن فلان، وقد مات أبوك؟ قال: بلى؛ قال: فجعل يبكي، ويمسح رأسه، وقال: قرة عيني من الدنيا: أن تصير شهوتي في بطن هذا اليتيم؛ فناوله ما كان معه، ثم قرأ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (سورة الإنسان:8)18
وفي معنى الرحمة العام يقول عمر بن عبد العزيز – رحمه الله -: “اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فإن رحمتك أهل أن تبلغني، رحمتك وسعت كل شيء، وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنك خلقت قوماً فأطاعوك فيما أمرته، وعملوا في الذي خلقتهم له، فرحمتك إياهم كانت قبل طاعتهم لك يا أرحم الراحمين”.19
من فوائد الحديث:
1- أنه لا يستحق الرحمة من الله – تعالى – إلا الراحمون الموفقون.
2- تثمر الرحمة محبة الله – تعالى -، ومحبة الناس.
3- الرحمة دليل رقة القلب، وسمو النفس.
قال ابن حجر -رحمه الله- معلقاً على الحديث: قال ابن بطال: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام، والسقي، والتخفيف في الحمل، وترك التعدي بالضرب.20
جعلنا الله وإياكم من أهل رحمته، وممن يرحمون خلقه، والحمد لله رب العالمين.
1 موسوعة نظرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (6/2101).
2 رواه البخاري (5538) مسلم (4282).
3 فتح الباري لابن حجر (ج13/ص415).
4 فتح الباري لابن حجر (ج17/ص129) بتصرف.
5 رواه البخاري (5552).
6 رواه أبو داود (4290) والترمذي (1847) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب(2256) قال: حسن لغيره.
7 رواه مسلم (4283)
8 مفاهيم إسلامية أ.د/محمد شامة (1/159) بتصرف.
9 رواه البخاري (5539).
10 فتح الباري (10/430).
11 رواه أحمد (19550)وغيره، ورجال أحمد رجال الصحيح غير مبارك بن فضالة وقد وثق. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (4/167).
12 رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك (4/1808) رقم (2316).
13 أخرجه أبو يعلى في مسنده وابن خزيمة في صحيحه، وحسنه الألباني في الصحيحة (312) وصحيح ابن خزيمة (887).
14 أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي (2/236).
15 رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات (4/2027) رقم (2631).
16 أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة، برقم (8).
17 أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق رقم (2122).
18 حلية الأولياء (6/230).
19 حلية الأولياء (ج2/ص403).
20 فتح الباري لابن حجر (ج17/ص152).