المصلَّيَـات

المصلَّيَـات

المصلَّيَـات

 

الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..أما بعد:

فقد شرع الله -سبحانه وتعالى- في الإسلام صلوات في أوقات محددة، وسن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكاناً تصلى فيه، وإن صحت صلاتها بالمساجد، فإن هذا المصلى هو المكان الأصلي المشروع أن تقام فيه, وهذه الأماكن هي:

 

أولاً: مصلى البيت:

وهو المكان المخصص في البيت للصلاة فيه، بحيث يحافظ على أرضه من النجاسات والأقذار بشكل أكثر اهتماماً، فيجوز اتخاذه للرجل.

أما المرأة فيسن لها باتفاق المؤمنين أن تتخذ مصلى في دارها؛ لأن ذلك أفضل, وقيل : إن الصلاة في البيت من خصائص المسلمين, والأدلة على جواز اتخاذ المصلى في البيت ما يلي:-

1- عن عتبان بن مالك –رضي الله عنه- أنه أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله, إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي, فَإِذَا كَانَتْ الْأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ, لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ لَهُمْ فَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ تَأْتِي فَتُصَلِّي فِي بَيْتِي فَأَتَّخِذُهُ مُصَلًّى. فَقَالَ: (سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ). قَالَ عِتْبَانُ: فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَذِنْتُ لَهُ, فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ, ثُمَّ قَالَ لِي: (أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟). فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَبَّرَ فَصَفَفْنَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ… الحديث »1.

ووجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقر لهذا المعذور اتخاذ مصلى في بيته؛ وذلك يدل على أنه يجوز للرجل المعذور شرعاً المتخلف عن الجماعة أن يتخذ مصلى في بيته، وإذا جاز ذلك للرجل فهو جائز للمرأة من باب أولى.

2- قوله -صلى الله عليه وسلم-: «اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا»2.

الشاهد قوله: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم…". ووجه الدلالة: أن الخطاب في ظاهر الحديث موجه إلى الرجال، وأنه كما تبين بالأدلة الشرعية أن صلاة النافلة في البيت أفضل، وإذا كان كذلك فإنه يجوز للرجال اتخاذ المصلى في البيوت؛ ولأن في الصلاة بالبيوت إحياء لها بذكر الله تعالى، وحصناً لها من الشياطين بإذن الله تعالى.

 

ثانياً: مصلى العيد:

وهو المكان المخصص لصلاة العيد المعد خارج المسجد في الصحاري ونحوها، ويوضع فيه منبر لتحديد القبلة، وليقف عليه الخطيب، وفي المدن يوضع على المكان المخصص لصلاة العيد سور من الحجارة أو الحديد أو اللبن.

وصلاة العيد مسنونة فيه إن كان في الجبانة -صحراء- قريبة من البلد, أما إن كانت البلاد مترامية الأطراف، فيصلى في مصليات العيد المهيأة، أو في جوامع البلد الكبيرة.

ويدل لهذا ما يلي:-

1- عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر –رضي الله عنه- كَانَ يَنْحَرُ فِي الْمَنْحَرِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ مَنْحَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»3.

وعن عبد الله بن عمر –رضي الله عنه- قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى»4.

الشاهد قوله: "ينحر في المنحر . . . يذبح وينحر بالمصلى". ووجه الدلالة: أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يعلمون مكاناً مخصصاً لصلاة العيد، ويسمونه المصلى، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينحر فيه أضحيته.

2- عن عباد بن تميم عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.5

الشاهد: "خرج إلى المصلى فاستسقى". ووجه الدلالة: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – خرج لصلاة الاستسقاء في المصلى الذي تؤدى فيه صلاة العيدين؛ مما يدل على أن المصلى كان مكاناً معلوماً معروفاً عند الصحابة -رضي الله عنهم- وهو مغاير للمسجد.

3- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى وَالْعَنَزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ تُحْمَلُ وَتُنْصَبُ بِالْمُصَلَّى بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا"6.

4- عن عبد الرحمن بن عابس قال: "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ: أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ, وَلَوْلَا مَكَانِي مِنْ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ, حَتَّى أَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ فَصَلَّى, ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ بِأَيْدِيهِنَّ يَقْذِفْنَهُ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَبِلَالٌ إِلَى بَيْتِهِ»7.

الشاهد قوله: "حتى أتى العلم". ووجه الدلالة: أنهم -رضوان الله عليهم- جعلوا للمصلى علماً- وهو الشيء الشاخص- يعرفون المصلى به؛ مما يدل على جواز تحديد مكان معين ليجعل مصلى.

5- عن حفصة -رضي الله عنها- قالت: "أَمَرَنَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنْ نُخْرِجَ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ أَوْ قَالَتْ: الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ وَيَعْتَزِلْنَ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى»8.

الشاهد قولها: "يعتزلن الحيض المصلى". ووجه الدلالة: أن المصلى محدود معلوم، يمكن للحيض سماع الذكر وهن قد اعتزلنه.

 

ثالثاً مصلى الجنائز:

ثبت بالسنة تخصيص مصلى للجنائز, ويدل لهذا ما يلي:-

1 – عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ»9.  

الشاهد قوله: "فخرج بهم إلى المصلى". ووجه الدلالة: أن الجنائز كان لها مكان خاص يصلي فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عليها.

2- ورد في قصة ماعز -رضي الله عنه- "فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ بِالْمُصَلَّى"10. ولمسلم: "فَأَمَرَنَا أَنْ نَرْجُمَهُ, فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ"11. فبقيع الغرقد: هو المكان الذي يقبر فيه، وقوله بالمصلى نصٌّ في أن المصلى كان في المقبرة ليصلى على الجنائز فيه.

 

حكم هذه المُصَلَّيات:

اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- في هذه المصليات، إذا أوقفت على قولين:-

القول الأول: أن هذه المصليات لا تأخذ حكم المساجد؛ سواء أوقفت للصلاة فيها أو لم توقف, وبه قال جمهور العلماء.

القول الثاني: أن هذه المصليات لا تأخذ حكم المساجد، إلا إذا أوقفت فإذا جعلها صاحبها وقفاً، صارت مسجداً تأخذ حكم المسجد, وبه قال عياض والدارمي.

استدلال الفريقين:

احتج الجمهور بما يلي:-

1- أن هذه المصليات ليس لها جماعة راتبة يقيمون الصلاة المفروضة أصلاً، فما لا تقام فيه هذه الصلوات لا يعتبر مسجداً، فلا تكون له أحكام المسجد.

2 – ولأن هذه المصليات كانت تنزل فيها القوافل، ويلعب الصبيان بها وتمكث فيها الدواب، ولو كان السلف يعتقدونها مسجداً لصانوها عن مثل هذه الأحداث.

واستدل الفريق الثاني بقول حفصة -رضي الله عنها-: «ويعتزلن الحيض المصلى». وهذا عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو لم يكن مسجداً له حكم المساجد، لما منعت الحائض منه، فإذا أوقف للصلاة فهو مسجد.

المناقشة:

أجاب الجمهور عن قول حفصة: بأنه إنما أمرهن ليتميزن، ولئلا يلوثن المصلى، وليتسع لغيرهن وهذا إنما هو في الأحكام المتعلقة بذات المسجد, أما في طهارة المصلى، فيجب أن يكون طاهراً، صالحاً للصلاة عليه، ومثل هذه المصليات مساجد الطرق العامة التي لا يصلي فيها الجماعة.

أما المسجد الذي هجره أهله : فإنه لا يزال على أصله، حتى ينقل وقفه حال تعطله لمسجد آخر. ومسجد الحوض: وهو مكان يخصص في بعض البلاد لصلاة المتوضئ من حوض الماء الخاص بالوضوء،وكان يصنع قديماً؛ لأن السنة وردت بصلاة ركعتين بعد كل وضوء.

وأما مسجد البيت: فإن كان إذا أغلق البيت عليهم؛ صلى فيه جماعة بأن كانوا مستمرين فيه فهو مسجد له حكم المساجد إذا أوقفه رب الدار لذلك.

وتأخذ هذه المصليات أحكام المساجد في تواصل الصفوف، والاقتداء بالإمام، وطهارة أرضها؛ لأنها أعدت للصلاة. ويشترط للصلاة طهارة الموقع، وصلاة العيدين والاستسقاء والجنازة كصلاة الفريضة.

وبهذا تعرف الفرق بين المصلى والمسجد, فالمسجد له أحكام خاصة، كتحية المسجد ومنع البيع والشراء ودخول الحائض ، إلى غير ذلك.

أما المصلى فليس له شيء من هذه الأحكام؛ إلا طهارة الأرض للصلاة, وبالله التوفيق

وصلى الله على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين12.


 


1 رواه البخاري -4982- (17/8) ومسلم -1052- (3/396) وهذا لفظ البخاري.

2 رواه البخاري -114- (4/374)ومسلم -1296- (4/178).

3 رواه البخاري -1595- (6/183).

4 رواه البخاري -5126- (17/246).

5 رواه البخاري -956- (4/102).

6 رواه البخاري -920- (4/41).والعنزة -بفتحتين- أطول من العصا وأقصر من الرمح، وفيها زج كزج الرمح.(مختار الصحاح (ص457).

7 رواه البخاري -924- (4/49).

8 رواه البخاري -921- (4/43).

9 رواه البخاري -1247- (5/105) ومسلم -1580- (5/50).

10 صحيح البخاري -6321- (21/93).

11 صحيح مسلم -3206- (ج 9 / ص 67).

12 استفيد الموضوع من كتاب(أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية -إبراهيم بن صالح الخضيري). بتصرف.