إنما كان يتبسم

إنما كان يتبسم

       إنما كان يتبسم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أما بعد:

فقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الخلق والسمت والرحمة، وصفه ربه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (107) سورة الأنبياء، فهو رحمة للبشرية جميعاً.

كان رحمة على القريب والبعيد، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة، فهو عزيز عليه أن يدخل على الناس مشقة، فكان يخفف بالناس مراعاة لأحوالهم، وربما أراد أن يطيل في الصلاة فيسمع بكاء الطفل فيخفف لئلا يشق على أمه.

ومن مظاهر حسن خلقه وحسن سمته ورحمته بأمته ما روته عنه عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، قالت: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف في وجهه، قالت: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية فقال: (يا عائشة ما يؤمِّني أن يكون فيه عذاب، عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} (24) سورة الأحقاف).1

مفردات الحديث:

قولها: (حتى أرى منه لهواته): بالتحريك جمع لهاة وهي اللحمة المتعلقة في أعلى الحنك، ويجمع أيضاً على لهى بفتح اللام مقصور.

قولها: (عرفت في وجهه): عبرت عن الشيء الظاهر في الوجه بالكراهة؛ لأنه ثمرتها.2

شرح الحديث:

إذا قرأت سيرة هذا النبي الكريم علمت ما كان عليه من الأخلاق الفاضلة، وأنه صفوة الله ومختاره من البشر، ففعله حق وقوله صدق، ليس بغماز، ولا عياب ولا نمام ولا مغتاب ولا خائن ولا كذاب، ولا فاحشاً ولا متفحشاً ولا بخيلاً ولا جبانا ولا كسولاً ولا عبوساً، بل كان جواداً حليماً، شجاعا كريما عفواً صفوحاً لا يؤاخذ بالزلة ولا يعاقب في غير حد من حدود الله، حريصاً على هداية الخلق رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين، طيب الحديث حسن العشرة سريع النجدة يصل الرحم ويحمل الكل ويكسب المعدوم ويعين على نوائب الحق ويقول: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساًُ يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون) قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: (المتكبرون)3 ويوصي بعض أصحابه بقوله: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)4، وربما فرش رداءه لبعض الداخلين عليه أو الوافدين إليه وقال: (إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه)5، ويضحك قليلاً ويقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)6 وإذا ضحك تبسم، لا يسترسل في لهو ولا يستغرق في العجب بشيء من هذه الدنيا وزخارفها.7

وقول عائشة رضي الله عنها في بعض الروايات: "مستجمعا قط ضاحكا" وفي رواية "مستجمعاً ضحكاً" أي مبالغا في الضحك لم يترك منه شيئاً، يقال استجمع السيل: اجتمع من كل موضع، واستجمعت للمرء أموره: اجتمع له ما يحبه، فعلى هذا قوله "ضاحكا" منصوب على التمييز، وإن كان مشتقا مثل لله دره فارساً: أي ما رأيته مستجمعاً من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكاً تاماً مقبلا بكليته على الضحك، واللهوات بفتح اللام والهاء جمع لهاة، وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم.8

قولها: (إنما كان يتبسم): لا ينافي هذا ما جاء في الحديث الآخر (أنه ضحك حتى بدت نواجذه)؛9 لأن ظهور النواجذ -وهي الأسنان التي في مقدمة الفم أو الأنياب- لا يستلزم ظهور اللهاة.10

ووقع في رواية عطاء عن عائشة في أول هذا الحديث " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)11.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سر به، وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته فقال: (إني خشيت أن يكون عذاباً سلط على أمتي) ويقول إذا رأى المطر: (رحمة)12.13

وكل هذا من رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمة، ومن حسن أخلاقه، التي منها تبسمه وضحكه المؤدب الذي أثر في أصحابه أيما تأثير..

لقد كان كل ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسماً، وهذا قمة الأدب والذوق، وسننقل هنا مواقف من تبسمه صلى الله عليه وسلم:

عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ فَكَشَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ، كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنْ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ.14

وعَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي، وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا)15.

وانظر أخي إلى موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كعب بن مالك في تخلفه عن غزوة تبوك كيف استقبله النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع من الغزوة قال كعب رضي الله عنه: فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: (تَعَالَ) فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي: (مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟) فَقُلْتُ: بَلَى.. الحديث.16

وكان صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه يتذاكرون تاريخهم  وينشدون الشعر فيضحك معهم ويتبسم بوجه يعلوه البهاء والجلال، فهذا جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه يحكي لنا ذلك فيقول:

جَالَسْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ وَيَتَذَاكَرُونَ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ سَاكِتٌ فَرُبَّمَا تَبَسَّمَ مَعَهُمْ.17

وعَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانَ قَالَ:

كُنَّا عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ تَبَسَّمَ فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ مِمَّا ضَحِكْتُ قَالَ فَقَالَ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَوَضَّأْتُ ثُمَّ تَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ضَحِكْتُ؟) قَالَ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَتَمَّ وُضُوءَهُ ثُمَّ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ خَرَجَ مِنْ صَلَاتِهِ كَمَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ الذُّنُوبِ).18

وكانت حياته كلها بسمة حانية هدفها الأعظم مؤانسة الصاحب وهداية الحائر، تقول أم الدرداء رضي الله عنها: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا حَدَّثَ حَدِيثًا تَبَسَّمَ فَقُلْتُ: لَا يَقُولُ النَّاسُ إِنَّكَ، أَيْ أَحْمَقُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَوْ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا إِلَّا تَبَسَّمَ.19

هذه بعض المواقف وإلا فكل حياته ابتسامة وبشارة وخير وآمال يحملها للأمة، ما يئس صلى الله عليه وسلم يوماً قط، ولقد كان يبشر أصحابه وهو في أحلك الظروف ويبتسم وكأنه في نعيم الجنة وما ذاك إلا لنور الإيمان واليقين الذي يحمله في صدره صلى الله عليه وسلم فكان ذلك القلب الطاهر يظهر ما بداخله من نقاء وصفاء وحب بالتبسم، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيراً.

فـ"والله إنه لعظيم الأخلاق، كريم السجايا، مهذب الطباع، نقيّ الفطرة، جمّ الحياء، حيّ العاطفة، جميل السيرة، طاهر السريرة.

وهو قمة الفضائل، ومنبع الجود، ومطلع الخير، وغاية الإحسان {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم.

يظلمونك فتصبر، يؤذونك فتغفر، يشتمونك فتحلم، يسبّونك فتعفو، يجفونك فتصفح. {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم، يحبّك الملك والمملوك، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، والقريب والبعيد؛ لأنك ملكت القلوب بعطفك، وأسرت الأرواح بفضلك، وطوّقت الأعناق بكرمك.

هذبّك الوحي، وعلمك جبريل، وهداك ربك، وصاحبتك العناية، ورافقتك الرعاية، وحالفك التوفيق.

البسمة على محياه، البِِشر على طلعته، النور على جبينه، الحب في قلبه، الجود في يده، البركة فيه، الفوز معه".20

من زار بابك لم تبرح جوارحه فالعين عن قرّة والكف عن صلة

 

 

تروي أحاديث ما أوليت من منن والقلب عن جابر والسمع عن حسن

 

 

من فوائد حديث الموضوع:

1-              حسن أدب النبي صلى الله عليه وسلم، وعظمة خلقه عليه الصلاة والسلام.

2-              رحمته بأمته، وخوفه عليها من الهلاك والنكال والعذاب.

3-              عدم الأمن من مكر الله تعالى، فقد خاف النبي وهو بين أظهر المسلمين، فكيف الحال بنا اليوم؟!

4-      أن رفع الصوت بالضحك وفتح الفم بشكل غير لائق لم تكن من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فينبغي للمسلم الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا الخلق الرفيع.

هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 


 


1 رواه البخاري (4454).

2 فتح الباري لابن حجر (13/395).

3 رواه الترمذي (1941)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم(791).

4 رواه الترمذي (1910) وحسنه الألباني في المشكاة برقم (5083)، والروض النضير(855).

5 رواه ابن ماجة(3702) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1205)، وفي الروض النضير برقم (268).

6 رواه البخاري (6004).

7 إصلاح المجتمع لمحمد بن سالم البيحاني. ط: 1425هـ- 2005م: دار الفكر- (1/198).

8 فتح الباري لابن حجر (17/265).

9 رواه البخاري (6086) ومسلم (272).

10 فتح الباري لابن حجر (13/395).

11 رواه مسلم (1496).

12 رواه مسلم (1495).

13 فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/395) بتصرف.

14 رواه البخاري (639).

15 رواه البخاري (2809).

16 رواه البخاري (4066).

17 رواه الترمذي وهو حديث صحيح، انظر السلسلة الصحيحة برقم (434) للألباني.

18 رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (403). وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.

19 رواه الإمام أحمد في مسنده (20739). وذكره الألباني في ضعيف الجامع.

20 من مقال بعنوان: "النبي محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه" للشيخ: عايض القرني، المصدر: www/gooh.net