لم يرفث ولم يفسق

لم يرفث ولم يفسق

لم يرفث ولم يفسق

الحمد لله الذي فرض الحج على عباده إلى بيته الحرام، ورتب على ذلك جزيل الأجر ووافر الإنعام، فمن حج البيت، فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه نقياً من الذنوب والآثام, والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة دار السلام, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وزكى وحج وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام، وسلَّم تسليماً كثيراً… أما بعد:

فإن الحج من أفضل العبادات وأعظمها ثواباً، فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ)1.

ولنا هنا وقفة مع حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ).

وفيما يلي بيان وتوضيح يسير لما في هذا الحديث العظيم من الفوائد والأحكام مما قاله أهل العلم -رحمهم الله- فنقول مستعينين بالله:

قوله -عليه الصلاة والسلام-: (فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ).

اختلفوا في الرفث، فروي عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أنه قال: الرفث في الحج: ما كلم به النساء، وروي مثله عن ابن عمر وعطاء، وروي عن ابن عباس أيضا أن الرفث: الجماع، وهو قول مجاهد والزهري، وقال ابن عباس: الفسوق: السباب. وقال مجاهد والزهري: الفسوق: المعاصي. وقال ابن عباس: الجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه. وقال طاووس: هو جدال الناس2.

قال القاضي: "هذا من قوله تعالى:{فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } (197) سورة البقرة. والرفث: اسم للفحش من القول، وقيل: هو الجماع، وهذا قول الجمهور في الآية، قال الله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} (187) سورة البقرة. يقال : رفث ورفث بفتح الفاء وكسرها، يرفُث ويرفِث ويرفَث بضم الفاء وكسرها وفتحها، ويقال أيضاً:أرفث بالألف. وقيل: الرفث: التصريح بذكر الجماع، قال الأزهري: هي جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة، وكان ابن عباس يخصصه بما خوطب به النساء3.

والجمهور على أن المراد بالرفث في الآية: الجماع.قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك وإليه نحا القرطبي، وهو المراد بقوله في الصيام: (فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ)4. انتهى.

قوله: (وَلَمْ يَفْسُقْ): أي لم يأت بسيئة ولا معصية، وأغرب ابن الأعرابي فقال: إن لفظ الفسق لم يسمع في الجاهلية ولا في أشعارهم وإنما هو إسلامي، وتُعقِّب بأنه كثر استعماله في القرآن وحكايته عمن قبل الإسلام. وقال غيره: أصله انفسقت الرطبة إذا خرجت فسمي الخارج عن الطاعة فاسقاً.

قال ابن باز رحمه الله-: "والرفث: يطلق على الجماع وعلى الفحش من القول والفعل. والفسوق: المعاصي. والجدال: المخاصمة في الباطل أو فيما لا فائدة فيه, فأما الجدال بالتي هي أحسن لإظهار الحق ورد الباطل فلا بأس به, بل هو مأمور به؛ لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (125) سورة النحل"5.

قوله: (كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) وفي اللفظ الآخر: (كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ): أي بغير ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات، وهو –كما يقول الحافظ ابن حجر- من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك، وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري6.

ومثل هذا الحديث مما يبين سعة رحمة الله ومغفرته جراء ما يفعل العبد من الطاعات الواجبة منها والنوافل سواء الحج والعمرة أو غيرهما: ما رواه عمرو بن العاص –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ, وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا, وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ)7.

وعن أبي قتادة –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في صوم عاشوراء ويوم عرفة: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ, وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)8.

وخرج الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً أُخْرَى فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ أُخْرَى حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ)9.

وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ)10.

وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ, وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)11. والأحاديث في هذا كثيرة جداً يطول ذكرها.

وقد سئل الإمام أحمد –رحمه الله- عن رجل اكتسب مالاً من شبهة: "صلاته وتسبيحه يحط عنه شيئاً من ذلك؟" فقال: "إن صلى وسبح يريد به ذلك، فأرجو؛ قال تعالى: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} (102) سورة التوبة.

وقال مالك بن دينار: "البكاء على الخطيئة يحط الخطايا كما تحط الريح الورق اليابس".

وقال عطاء: من جلس مجلساً من مجالس الذكر، كفّر به عشرة مجالس من مجالس الباطل".

وقال شويس العدوي -وكان من قدماء التابعين-: "إن صاحب اليمين أمير -أو قال: أمين- على صاحب الشمال، فإذا عمل ابن آدم سيئة، فأراد صاحب الشمال أن يكتبها، قال له صاحب اليمين: لا تعجل لعله يعمل حسنة، فإن عمل حسنة، ألقى واحدة بواحدة، وكتبت له تسع حسنات، فيقول الشيطان: يا ويله من يدرك تضعيف ابن آدم.

وعن أبي الأحوص قال: قال عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه-: "وددت أني صولحت على أن أعمل كل يوم تسع خطيئات وحسنة". وهذا إشارة منه إلى أن الحسنة يمحى بها التسع خطيئات، ويفضل له ضعف واحد من ثواب الحسنة، فيكتفي به، والله أعلم.

وقد اختلف الناس في مسألتين: إحداهما: هل تكفر الأعمال الصالحة الكبائر والصغائر أم لا تكفر سوى الصغائر؟ فمنهم من قال: لا تكفر سوى الصغائر, وقد روي هذا عن عطاء وغيره من السلف في الوضوء أنه يكفر الصغائر، وقال سلمان الفارسي في الوضوء : إنه يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفر أكبر من ذلك، والصلاة تكفر أكبر من ذلك.

وأما الكبائر، فلابد لها من التوبة ؛ لأن الله أمر العباد بالتوبة، وجعل من لم يتب ظالماً، واتفقت الأمة على أن التوبة فرض ، والفرائض لا تؤدى إلا بنية وقصد، ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء والصلاة، وأداء بقية أركان الإسلام، لم يحتج إلى التوبة ، وهذا باطل بالإجماع.

وأيضاً فلو كفرت الكبائر بفعل الفرائض لم يبق لأحد ذنب يدخل به النار إذا أتى بالفرائض، وهذا يشبه قول المرجئة وهو باطل, هذا ما ذكره ابن عبد البر, وحكى إجماع المسلمين على ذلك، واستدل عليه بأحاديث منها:

قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ)12. وهذا يدل على أن الكبائر لا تكفرها هذه الفرائض.

وقد حكى ابن عطية في " تفسيره " في معنى هذا الحديث قولين:

أحدهما:-وحكاه عن جمهور أهل السنة-: أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر، فإن لم تجتنب، لم تكفر هذه الفرائض شيئاً بالكلية.

والثاني: أنها تكفر الصغائر مطلقاً، ولا تكفر الكبائر وإن وجدت، لكن بشرط التوبة من الصغائر، وعدم الإصرار عليها، ورجح هذا القول، وحكاه عن الحذاق.

وقوله: بشرط التوبة من الصغائر، وعدم الإصرار عليها، مراده أنه إذا أصر عليها، صارت كبيرة، فلم تكفرها الأعمال.

ومما استدل به ابن عبد البر: حديث عثمان –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ)13.

وعن سلمان –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا يَتَطَهَّرُ الرَّجُلُ فَيُحْسِنُ طُهُورَهُ ثُمَّ يَأْتِي الْجُمُعَةَ فَيُنْصِتُ حَتَّى يَقْضِيَ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ إِلَّا كَانَ كَفَّارَةً لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا اجْتُنِبَتْ الْمَقْتَلَةُ)14. وغيرها من الأحاديث.

وعن سلمان قال: "حافظوا على هذه الصلوات الخمس، فإنهن كفارات لهذه الجراح ما لم تصب المقتلة". وقال ابن عمر لرجل: أتخاف النار أن تدخلها، وتحب الجنة أن تدخلها؟ قال: نعم، قال: بر أمك فوالله لئن ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات". وقال قتادة: "إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر".

وذهب قوم من أهل الحديث وغيرهم إلى أن هذه الأعمال تكفر الكبائر، ومنهم: ابن حزم الظاهري، وإياه عنى ابن عبد البر في كتاب "التمهيد" بالرد عليه وقال: "قد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في هذا الباب، لولا قول ذلك القائل، وخشيت أن يغتر به جاهل، فينهمك في الموبقات، اتكالاً على أنها تكفرها الصلوات دون الندم والاستغفار والتوبة."15.

ونختم درسنا هذا فنقول: من اتقى الله وقام بحقه حق القيام وقاه، ومن توكل عليه قائماً بالأسباب النافعة كفاه، ومن اعتصم به وبحبله حفظه من الشرور وحماه، ومن أخلص له الأعمال بلَّغه من كل خير غايته ومنتهاه، ومن أعرض عن أمره فلا يلومنَّ إلا نفسه إذا لقي حتفه، وذلك بما قدمت يداه, واللهَ نسأله العصمة من الزلل والتوفيق لما يرضاه, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 رواه البخاري -1650- (6/274) ومسلم -2403- (7/71).

2 شرح صحيح البخاري لـ(ابن بطال) (8/62).

3 شرح النووي على مسلم (للنووي)- (5/13).

4 رواه البخاري -1771- (6/474) ومسلم -1944- (6/17).

5 التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنة (1/34) لـ(ابن باز).

6 فتح الباري لابن حجر – (5/157), تحفة الأحوذي لـ(محمد عبد الرحمن المباركفوري) (2/355)وحديث العباس بن مرداس هذا رواه الإمام أحمد -15618- (32/434), وضعفه العلَّامة الألباني في: ضعيف الترغيب والترهيب -742- (1/186).

7 رواه مسلم -173- (1/304).

8 رواه مسلم -1976- (6/55).

9 رواه أحمد -16669- (ج 35 / ص 179) وصححه الألباني في: صحيح الترغيب والترهيب -3157- (3/125).

10 (رواه البخاري -5926- (20/20) ومسلم -4857- (13/201).

11 رواه البخاري -1875- (7/140) ومسلم -1268- (4/146).

12 رواه مسلم -344- (2/23).

13 رواه مسلم -335- (2/13).

14 رواه أحمد -22603- (48/227) وانظر: صحيح الترغيب والترهيب للألباني-689- (1/168).

15 جامع العلوم والحكم لـ(ابن رجب الحنبلي –رحمه الله- (19/35).