ولا الجهاد

ولا الجهاد

 

ولا الجهاد

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:

فإن من فضل الله على عباده أن جعل لهم مواسم الطاعات، يستكثرون فيها من الأعمال الصالحة ويتنافسون فيها بما يقربهم إلى ربهم سبحانه وتعالى.

وحريٌّ بالمسلم الحريص على الخير أن يستقبل مواسم الخير عامة بالتوبة الصادقة النصوح، وبالإقلاع عن الذنوب والمعاصي، فإن الذنوب هي التي تحرم الإنسان فضل ربه، وتحجب قلبه عن مولاه.

كما ينبغي للمسلم أن يستقبل مواسم الخير عامة بالعزم الصادق الجاد على اغتنامها بما يرضي الله -عز وجل- فمن صدق الله صدقه الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (69) سورة العنكبوت، وقال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (133) سورة آل عمران.

وسنقف مع حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين فيه فضيلة الأيام العشر.

نص الحديث:

عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام) -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء).1

 

فضل عشر ذي الحجة:

يدل على فضل هذه العشر أمور:

1- أن الله تعالى أقسم بها، وقسم الله بها يدل على فضلها وعظيم مكانتها، قال تعالى: {وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (1-2) سورة الفجر، قال غير واحد من المفسرين {وليالٍ عشر}هي عشر ذي الحجة.

2- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن أنها أفضل أيام الدنيا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيام الدنيا العشر).. الحديث.2 يعني عشر ذي الحجة..

3- أن العمل الصالح فيها أفضل من غيرها كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق.

4- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر. فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)3.

5- كان سعيد بن جبير رحمه الله -وهو الذي روى حديث ابن عباس السابق- إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه.4

4- اجتماع العبادات المتنوعة في هذه الأيام: قال ابن حجر رحمه الله: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره".5

7- قال المحققون من أهل العلم: أيام عشر ذي الحجة أفضل الأيام، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل الليالي.

 

ما يستحب فعله في هذه الأيام:

1- الصلاة: يستحب التبكير إلى الفرائض، والإكثار من النوافل، فإنها من أفضل القربات. فعن ثوبان –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله يقول: (عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد سجدة إلا رفعك إليه بها درجة، وحط عنك بها خطيئه)6 وهذا عام في كل وقت.

2- الصيام: لدخوله في الأعمال الصالحة، فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي، قالت: كان رسول الله يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر.7

قال الإمام النووي عن صوم أيام العشر: إنه مستحب استحباباً شديداً.

3- ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام المباركات: كثرة الذكر، يقول تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (27) سورة الحـج.

ومن الذكر: التكبير والتهليل والتحميد: لما ورد في حديث ابن عمر السابق: (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد).

قال الإمام البخاري رحمه الله: كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.8

 

وقال أيضاً: "وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً".

وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميع9، والمستحب الجهر بالتكبير؛ لفعل عمر وابنه وأبي هريرة.

فحريٌّ بنا -نحن المسلمين- أن نحيي هذه السنة التي هُجرت في هذه الأيام، وتكاد تُنسى حتى من أهل الصلاح والخير بخلاف ما كان عليه السلف الصالح.

 

وينبغي للمسلم أن يكثر من قراءة القرآن فإنه أفضل الذكر، وفيه الهدى والرحمة والبركة والعظمة والتأثير والشفاء، وليعلم المسلم بأن الذكر هو أحب الكلام إلى الله تعالى، وهو سبب النجاة الفلاح في الدنيا والآخرة، وهو سبب لحفظ صاحبه من الكفر ومن الشيطان ومن النار، وبه يذكر العبد عند الله، ويصلي الله وملائكته على الذاكر، وهو أقوى سلاح، وهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها في الدرجات، وخير من النفقة، به يضاعف الله الأجر، ويغفر الوزر، ويثقل الميزان، ومجالسه هي مجالس الملائكة ومجالس الرسل ومجالس المغفرة والجنة والإيمان والسعادة والرحمة والسكينة، وفضائله كثيرة لا تحصى.

4- صيام يوم عرفة: فإنه يتأكد صوم يوم عرفة لغير الحاج؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن صوم عرفة: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)10

5- فضل يوم النحر: يغفل عن ذلك اليوم العظيم كثير من المسلمين مع أن بعض العلماء يرى أنه أفضل أيام السنة على الإطلاق حتى من يوم عرفة.

 

قال ابن القيم رحمه الله: "خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر"11 كما في سنن أبي داود عنه: (إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر)12 -يوم القر هو يوم الاستقرار في منى، وهو يوم الحادي عشر- وقيل يوم عرفة أفضل منه؛ لأن صيامه يكفر سنتين، وما من يوم يعتق الله فيه الرقاب أكثر من يوم عرفة؛ ولأنه سبحانه وتعالى يدنو من عباده، ثم يباهي ملائكته بأهل الموقف، وسواء كان هو أفضل أم يوم عرفة، فليحرص المسلم حاجاً كان أم مقيماً على إدراك فضله، وانتهاز فرصته.

 

وينبغي أن يكثر العبد المؤمن من الصدقة في العشر، إذ الصدقة فيها أفضل من الصدقة في رمضان، وما أكثر حاجات الناس في العشر من النفقة والاستعداد للحج وللعيد وطلب الأضحية ونحوها، وبالصدقة ينال الإنسان البر ويضاعف له الأجر ويظله الله في ظله يوم القيامة، ويفتح بها أبواب الخير ويغلق بها أبواب الشر، ويفتح فيها باب من أبواب الجنة، ويحبه الله ويحبه الخلق، ويكون بها رحيماً رفيقاً، ويزكي ماله ونفسه، ويغفر ذنبـه، ويتحرر من عبـودية الـدرهم والديـنار، ويحفـظه الله في نـفسـه ومـاله وولده ودنياه وآخرته.

فيا أخي المسلم: احرص على اغتنام هذه الفرصة السانحة، قبل أن تفوت عليك فتندم ولات ساعة مندم. فإن الدنيا أيام قلائل ونحن في دار العمل وغداً دار الجزاء والحساب وجنة ونار، وكن من الذين عناهم الله عز وجل بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (90) سورة الأنبياء.

 

فوائد من الحديث:

وفي نهاية شرح هذا الحديث ننوه على بعض فوائده ومنها:

1-          أفضلية العمل الصالح في هذه الأيام، ولا يعكر على ذلك كونها أيام عيد كما في حديث عائشة، ولا ما صح من قوله: (إنها أيام أكل وشرب)13 لأن ذلك لا يمنع العمل فيها، بل قد شرع فيها أعلى العبادات وهو ذكر الله تعالى، ولم يمتنع فيها إلا الصوم.14

2-          قوله: (ولا الجهاد في سبيل الله) يدل على تقرير أفضلية الجهاد عندهم، وكأنهم استفادوه من قوله صلى الله عليه وسلم في جواب من سأله عن عمل يعدل الجهاد فقال: (لا أجده)15 كما في البخاري من حديث أبي هريرة.16

3-          قرن الله تعالى بين الفجر والليالي العشر في القسم، وأحسن ما قيل فيه: إن الفجر في الليالي العشر زمن يتضمن أفعالا معظمة من المناسك، وأمكنة معظمة وهي محلها، وذلك من شعائر الله المتضمنة خضوع العبد لربه، فإن الحج والنسك عبودية محضة لله وذل وخضوع لعظمته.17

هذا ما تسير جمعه، والحمد لله رب العالمين.

 


 


1 رواه أبو داود (2438) والترمذي (757) قال الشيخ الألباني: صحيح: انظر صحيح أبي داود (2130).

2 رواه ابن حبان وصححه الألباني: انظر حديث رقم: 1133 في صحيح الجامع.

3 رواه أحمد برقم (6154): مؤسسة قرطبة – القاهرة، قال الأرنؤؤط معلقا على الحديث: صحيح.

4 رواه الدارمي بإسناد حسن برقم (1774).

5 فتح الباري شرح صحيح البخاري (2/ 460).

6 رواه مسلم (753).

7 رواه أبو داود (2437) وغيره، وصححه الألباني، انظر صحيح سنن أبي داود (5/437).

8 شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/186).

9 فتح الباري لابن رجب (7/56).

10 رواه مسلم (1976).

11 زاد المعاد لابن القيم (1/54)

12 رواه أبو داود (1765).

13 رواه مسلم (1141).

14 نيل الأوطار للشوكاني(6/2)

15 رواه البخاري (2633).

16 نيل الأوطار (6/3).

17 التبيان في أقسام القرآن (1/21).