اليدُ العلْياَ خيرٌ مِنْ اليدِ السُّفْلَى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن وآلاه، أما بعد:
نص الحديث:
عن حكيم بن حزام قال: “سألت رسول الله ﷺ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيمُ! إنَّ هذاَ المَالَ خَضِرُ حُلْوٌ، فَمَنْ أخذَه بسخاوةِ نفسِ بُورِكَ لَهُ فيه، وَمَنْ أخذَه بإشْرَافِ نفْسٍ لَمْ يُبَارَكَ لهُ فِيهِ، وكانَ كالَّذِي يأكلُ ولا يَشْبَع، واليدُ العلْياَ خيرٌ مِن اليدِ السُّفْلىَ قال حكيم: فقلت يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعو حكيماً ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئاً، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل. فقال يا معشر المسلمين! أشهدكم على حكيم، إني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي ﷺ حتى توفي “(1).
معاني الكلمات:
“سألت” أي طلبت منه مالاً.
“خضر حلو” بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين أي غض شهي، يميل الطبع ولا يميل عنه كما لا تمل العين من النظر إلى الخضرة، والفم من أكل الحلو.
“سخاوة نفس” أي عدم الإشراف إلى الشيء.
“بورك فيه” أي أغناه القليل منه عن الكثير.
“إشراف النفس” تطلعها وطمعها بالشيء.
“يَرزَأُ” براء ثم زاي ثم همزة: أي لم يأخذ من أحد شيئاً، وأصل الرزء: النقصان: أي لم ينقص أحداً شيئاً بالأخذ منه.
“اليد العليا” أي المعطية.
“اليد السفلى” أي السائلة.
المعنى العام:
كان النبي ﷺ أحسن الناس خلقاً، وأهداهم إلى الخير طرقاً، فهو الذي لايرد سائلاً، ولا يخيب مؤملاً، ولا يمسك المال حباً فيه، وحرصاً عليه، ولا ينفقه إلا في وجوه البر والإحسان، كما يأمره الله، فيتألف به القلوب، ويستميل به الأهواء، فالمئات من الإبل، والألوف من الغنم، والعدد الكثير من الدراهم والدنانير؛ دفعها إلى الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وعباس بن مرادس من الأعراب، وإلى أبي سفيان، وصفوان ابن أمية، وحكيم بن حزام من قريش وغيرهم؛ فكان أعظم عامل في هدايتهم، وأكبر سبب في إسلامهم؛ وعلموا منه أنه يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، وأنه لم يجعل الدنيا إلا مطية توصل إلى الآخرة، فلو قال لحكيم: لا، وقد سأله المرة بعد المرة، أو منعه العطاء؛ لوجد في نفسه شيئاً عليه، ولظن به الظنون، ولكنه في أدبه المفرد، وتعليمه السامي، وأسلوبه الحكيم؛ دفع إليه الكثير، وذم له المال، وإشراف النفس إليه، فأصبح قانعاً بعد الطمع، وزاهداً في الدنيا بعد التفاني في حبها.
فأي كلمةٍ أبلغ في ذم المسألة، والتعرض لما في أيدي الناس من قوله ﷺ : اليد العليا خير من اليد السفلى قال الشاعر:
أبا مالك لا تسأل الناس والتمس | بكفيك فضل الله فالله أوسع |
ولو سئل الناس التراب لأوشكوا | إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا |
شرح الحديث:
إن حكيم بن حزام سأل النبي ﷺ مالاً فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فكان من هدي النبي ﷺ ، وكرمه، وحسن خلقه؛ أنه لا يرد سائلاً سأله شيئاً، فما سئل شيئاً إلا أعطاه – عليه الصلاة والسلام -، ثم قال لحكيم: إن هذا المال خضر حلو خضر يسر الناظرين، حلو يسر الذائقين، فتطلبه، وتحرص عليه، وقال القرطبي: أي: “روضة خضراء أو شجرة ناعمة غضة، مستحلاة الطعم”(2)، وقال النووي: “شبهه في الرغبة فيه، والميل إليه، وحرص النفوس عليه؛ بالفاكهة الخضراء الحلوة المستلذة، فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده، فاجتماعهما أشد، وفيه إشارة إلى عدم بقائه؛ لأن الخضروات لا تبقى، ولا تراد للبقاء(3).
فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه سخاوة نفس أي بغير شره، ولا إلحاح، وفي رواية: بطيب نفس فإن قلت السخاوة إنما هي في الإعطاء لا في الأخذ قلت (أي النووي): السخاوة في الأصل السهولة والسعة قال القاضي: “فيه احتمالان أظهرهما أنه عائد إلى الآخذ أي من أخذه بغير حرص، وطمع، وإشراف عليه، والثاني: إلى الدافع أي من أخذه ممن يدفعه منشرحاً بدفعه، طيب النفس، بورك له فيه أي انتفع به في الدنيا بالتنمية، وفي الآخرة بأجر النفقة قاله القرطبي(4)، وقيل:”هو عائد إلى الآخذ أي بغير سؤال، ولا تطلع، ولا حرص، وقيل: إلى الدافع أي أخذه ممن يدفعه منشرحاً بدفعه إليه لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس الدافع(5).
ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه فكيف بمن أخذه بسؤال؟ يكون أبعد وأبعد، ولهذا قال النبي ﷺ لعمر بن الخطاب : ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف، ولا سائل؛ فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك(6) يعني: ما جاءك بإشراف نفس، وتطلع، وتشوف؛ فلا تأخذه، وما جاءك بسؤال فلا تأخذه.
والإشراف على الشيء الإطلاع عليه، والتعرض له، وقيل معنى إشراف نفس أن المسؤول يعطيه عن تكره، وقيل يريد به شدة حرص السائل، وإشرافه على المسألة(7).
وقوله: لم يبارك له فيه الضمير في “له” يرجع إلى الآخذ، وفي فيه إلى المعطى بفتح الطاء، ومعناه: إذ لم يمنع نفسه المسألة، ولم يصن ماء وجهه؛ لم يبارك له فيما أخذ وأنفق(8).
فالمكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها، بل همته جمعها وذلك لعدم الفهم عن الله – تعالى -، ورسوله ﷺ، فإن الفتنة معها حاصلة، وعدم السلامة غالبة، وقد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً(9).
قوله: كالذي يأكل ولا يشبع أي: كمن به “الجوع الكاذب” وقد يسمى بـ”جوع الكلب” كلما ازداد أكلاً ازداد جوعاً؛ لأنه يأكل من سقم كلما أكل ازداد سقماً، ولا يجد شبعاً، ويزعم أهل الطب أن ذلك من غلبة السوداء، ويسمونها “الشهوة الكلبية” وهي صفة لمن يأكل ولا يشبع، قلت أي (العيني): الظاهر أنه من غلبة السوداء وشدتها، كلما ينزل الطعام في معدته يحترق، وإلا فلا يتصور أن يسع في المعدة أكثر ما يسع فيه، وقد ذكر أهل الأخبار أن رجلاً من أهل البادية أكل جملاً، وامرأته أكلت فصيلاً، ثم أراد أن يجامعها؛ فقالت: بيني وبينك جمل وفصيل كيف يكون ذاك(10).
قال النبي ﷺ لحكيم بن حزام : اليد العليا خير من اليد السفلى اليد العليا هي يد المعطي، واليد السفلى هي يد الآخذ، فالمعطي يده خير من يد الآخذ؛ لأن المعطي فوق الآخذ، فيده هي العليا كما قال النبي ﷺ، والحديث في البخاري.
فأقسم حكيم بن حزام بالذي بعث النبي ﷺ بالحق ألا يسال أحداً شيئاً، فقال:” يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا”، فتوفى الرسول – عليه الصلاة والسلام -، وتولى الخلافة أبو بكر فكان يعطيه العطاء فلا يقبله، ثم توفي أبو بكر ، فتولى عمر فدعاه ليعطيه فأبى، فاستشهد عمر عليه، فقال: اشهدوا أني أعطيه من بيت مال المسلمين فلا يقبله، قال ذلك لئلا يكون له حجة على عمر يوم القيامة بين يدي الله ، وليتبرأ من عهدته أمام الناس، ولكن مع ذلك أصر حكيم ألا يأخذ منه شيئاً حتى توفي.
وفي لفظ آخر أن الرسول ﷺ قال: اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول(11) فالإنسان يبدأ بمن يعول يعني بمن يلزمه نفقته، فالإنفاق على الأهل أفضل من الصدقة على الفقراء؛ لأن الإنفاق على الأهل صدقة، وصلة، وكفاف، وعفاف، فكان ذلك أولى، والإنفاق على نفسك أولى من الإنفاق على غيرك كما جاء في الحديث: ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك(12)“(13).
ذم المسألة:
عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي ﷺ قال: لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله – تعالى -، وليس في وجهه مزعة لحم(14)، والمزعة بضم الميم وإسكان الزاي وبالعين المهملة: القطعة، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ : من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر(15)، وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله ﷺ : إن المسألة كدُّ يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطاناً، أو في أمر لا بد منه(16) و”الكد” الخدش ونحوه، وقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده إن كنت لحالفاً عليهن: لا ينقص مال من صدقة، فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة إلا زاده الله بها عزاً، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر(17)، وعن ابن عمر : أن رسول الله ﷺ قال وهو على المنبر وذكر الصدقة، والتعفف عن المسألة: اليد العليا خير من اليد السفلى، والعليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة(18).
فقوله ﷺ : والذي نفسي بيده فيه القسم على الشيء المقطوع بصدقه، لتأكيده في نفس السامع، وفيه الحض على التعفف عن المسألة، والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق، وارتكب المشقة في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها، وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال، ومن ذل الرد إذا لم يعط، ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل.
فوائد من الحديث:
1- الحث على العطاء بسخاوة، وعدم البخل والشح، ولاسيما إذا كان في العطاء تألف القلوب.
2- الحرص على المال لغير حاجة علة تحمله مسؤولية من غير فائدة، كمن به سقم الجوع يأكل ولا يفيده الأكل شبعاً.
3- أخذ المال وجمعه بطرق مشروعة لا يتعارض مع الزهد في الدنيا؛ لأن الزهد سخاوة النفس، وعدم تعلق القلب بالمال.
4- التنفير من مسألة الناس ولاسيما لغير حاجة.
5- الحرص على أن يكون المرء معطياً لا سائلاً آخذاً.
6- فضيلة حكيم وغيره من أصحاب رسول الله ﷺ، ومدى التزامهم العهد مع الله ورسول الله ﷺ .
7- واجب الحاكم في إيصال الحقوق لأصحابها.
8- ضرب المثل بما هو معروف لتقريب المعنى إلى نفس السامع(19).
9- قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها تقول سخت بكذا أي جادت وسخت(20).
1 – البخاري (3 /1145) (2974)، كتاب الخمس، باب ما كان للنبي ﷺ يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (2 /717)(1035)، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة، وأن السفلى هي الآخذة.
2 – راجع: شرح السيوطي على مسلم (3 /115).
3 – المصدر السابق.
4 – عمدة القارئ (9-52).
5– الديباج شرح صحيح مسلم ابن الحجاج (3 /115).
6– متفق عليه.
7– عمدة القارئ (9-52).
8– المصدر السابق.
9– راج تفسير القرطبي (10 /307).
10– عمدة القارئ (9-53).
11– متفق عليه.
12– صحيح مسلم.
13– راجع: شرح رياض الصالحين (2 /210-211).
14– متفق عليه.
15– رواه مسلم.
16– رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1947).
17– مسند أحمد (1 /193)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3024).
18– متفق عليه.
19– راجع: نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1 /460-461).
20– فتح الباري (3 /336).