جوامع الخير

جَـوَامعُ الخَــيْرِ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

نصُّ الحديثِ: عن أبي هُرَيْرَة  عن النَّبِّي قال: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْيَةً من كُرَبِ يْومِ القيامَةِ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ في الدنْيا والآخِرَةِ، ومَنْ سَتَرَ مُسلِمَاً سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُنْيَا والآخِرَة، واللهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كانَ الْعَبْدُ في عَونِ أخيهِ، ومَنْ سلكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ له بِهِ طَرِيقاً إلى الجنَّةِ، وَمَا اجتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، ويَتَدارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إلَّا نَزَلَتْ عليهمُ السَّكيِنَةُ، وغَشَيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وحَفَّتهُمُ المَلائِكَةُ، وذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه، وَمَنْ بَطَّأ بِه عَمَلُهُ لمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ 1 مفردات الحديث:

نَفَّسَ: أي خفف أو أزال ما في نفسه من أثرها، ونفس من التنفيس وهو أن يخفف عنه منها، مأخوذ من تنفيس الخناق وهو إرخاؤه حتى يأخذ نفساً. وفرج من التفريج، وهو أبلغ من التنفس، وهو أن يزيل عنه أثر الكربة بحيث يزول همه وغمه.

كُرْيَةً: أي الشدة العظيمة.

يَسَّرَ على مُعْسِرٍ: المعسر من أثقلته الديون، وعجز عن وفائها، والتيسير عليه مساعدته على إبراء ذمته من تلك الديون.

يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ: أموره وشؤونه.

ستر مسلماً بأن رآه على فعل قبيح شرعاً فلم يظهر أمره للناس.

عَوْنِ الْعَبْدِ: إعانته، وتسديده لقضاء شؤونه النافعة.

مَا كانَ الْعَبْدُ أي: مدة دوام كونه كذلك.

وذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه أي باهى بهم ملائكة السماء، وأثنى عليهم، وقبل عملهم، ورفع شأنهم.

بَطَّأ بِه عَمَلُهُ:  كان عمله الصالح ناقصاً، وقليلاً، فقصر عن رتبة الكمال.

لمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ: لا يعلي من شأنه شرف النسب، ولا تبلغه وجاهة الآباء ما فاته وقصر عنه من المنازل العالية التي يبلغها أصحاب الأعمال الكاملة عند الله ​​​​​​​.

أهمية الحديث:

قال النووي – رحمه الله تعالى – في شرح مسلم: وهو حديث عظيم جامع لأنواع من العلوم، والقواعد، والآداب2، زاد ابن علان: “والفضائل، والفوائد، والأحكام” فرغب بأداء حقوق أخوة الإسلام، وبطلب العلم، وبالاهتمام بدستور السماء من حيث قراءته، وفهمه، والعمل به، وتبليغه للناس.3

المعنى العام للحديث:

إن أفراد مجتمع الإيمان والإسلام أعضاء من جسد واحد، يتحسس كل منهم مشاعر الآخرين، وتنبعث فيه أحاسيسهم، فيشاركهم أفراحهم وأحزانهم: يُسر لما يحظون به من فرح وسرور وبهجة، وما يتمتعون به من أنس وصحة وسعادة، ويتألم لما ينالهم من أذى، وما يُصيبهم من مرض، وما يقع بهم من فاقة وفقر، وضيق عيش وكرب، وصدق رسول الله  إذ يقول: مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم؛ مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر، والحمى 4. اشتكى: مرض، تداعى: دعا بعضه بعضاً إلى المشاركة فيما حصل، سائر: باقي، الحمى: الألم وما يُصاحبه من ارتفاع حرارة الجسم ونحو ذلك، ومن أهمِّ ما يجب على المسلم تجاه أخيه المسلم أنْ يسارع في تفريج كربه، وإزالة ما يقع فيه من هم أو غم.

شرح الحديث:

قوله : من نفَّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة أي: أزالها، وخففها عنه، مأخوذ من  تنفيس خناق الثوب وإرخاؤه، حتى يأخذ نفساً، والتفريج أعظم من ذلك وهو أن يزيل كربه، فتفرج عنه كربته، ويزول همه وغمه، والكربة: هي الشِّدَّةُ العظيمة التي تُوقعُ صاحبَها في الكرَب، وتنفيسُها أن يُخفَّفَ عنه منها، والتفريج أعظمُ من ذلك وهو أن يُزيلَ عنه الكُربةَ، فتنفرج عنه كربتُه، ويزوله همُّه وغمُّه، فجزاءُ التَّنفيسِ التَّنفيسُ، وجزاءُ التَّفريجِ التفريجُ.

كرب الدنيا عديدة، وطرق تنفيسها متنوعة: إن الحياة ملأى بالمتاعب والأكدار، وكثيراً ما يتعرض المسلم لما يوقعه في غم وهم، وضيق وضنك، مما ينبغي على المسلمين أن يخلصوه منه، ومن ذلك:

1- نصرته وتخليصه من الظلم: فمن شأن المسلم أن لا يوقع ظلماً على أخيه المسلم، ولكن هذا لا يكفيه لنيل رضا الله ​​​​​​​ إذا لم يسعى جاهداً في تخليصه أيضاً مما يقع فيه من ظلم غيره قال عليه الصلاة والسلام: المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه5 أي: لا يتركه للظلم، ولا يترك نصرته كما قال : انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه، أو تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره6.

2- تحليصه من الأسر: إذا وقع المسلم أسيراً في قبضة العدو كان على المسلمين أن يسارعوا في تخليصه من الأيدي الآثمة التي قد تسعى في فتنته عن دينه فعن أبي موسى الأشعري  قال: قال رسول الله : أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني7.

3- إقراضه المال إن احتاج إلى المال: فقد يقع المسلم في ضائقة مالية فيحتاج إلى النفقة في حوائجه الأصلية من طعام، وشراب، ومسكن، وعلاج ونحو ذلك، فينبغي على المسلمين أن يسارعوا لمعونته، وعلى الأقل أن يقرضوه المال قرضاً حسناً بدل أن يتخذوا عوزه وسيلة لتثمير أموالهم وزيادتها كما هو الحال في مجتمعات الربا، والاستغلال قال الله – تعالى -: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (سورة البقرة:245) وقال : من أقرض مسلماً درهماً مرتينكان له مثل أجر أحدهما لو تصدَّقَ به 8

كرب يوم القيامة والخلاص منها:

ما أكثر كربات يوم القيامة، وما أشد أهوالها، وأفظع مخاوفها، وما أحوج المسلم لأن يجد لنفسه عملاً صالحاً في ذلك اليوم يخلصه من شيء منها، ويكشف له متنفساً للنجاة، وينير طريق الفوز بالجنة أمامه، قال – عليه الصلاة والسلام -: يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيُسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس منهم، فيبلغ الناس من الكرب والغم ما لا يطيقون، ولا يحتملون، فيقول الناس بعضهم لبعض: ألا ترون ما بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم عند ربكم 9.

التيسير على المعسر:

قوله : ومن يسَّر على مُعسِرٍ يسَّرَ الله عليه في الدُّنيا والآخرة يدل هذا على أن الإعسار قد يحصُل في الآخرة، وقد وصف الله يومَ القيامة بأنه يومٌ عسير، وأنَّه على الكافرين غيرُ يسير، فدلَّ على أنَّه يسير على غيرهم قال الله – تعالى -: وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً (سورة الفرقان: من الآية 26)، والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين:

1- إمّا بإنظاره إلى الميسرة: أي ينظر الدائنُ مدينه إلى وقت يملك به ما يفي دينه، ويصبح ذا يسار، وذلك واجب قال الله – تعالى -: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (سورة البقرة:280).

2- أنْ يُبرئ الدائنُ مدينَهُ من الدَّينِ، أو يضع جزءاً منه، أو يعطيه غير الدائن ما يزول به إعساره من تراكم دين أو نفقة، فهذا التيسير مندوب إليه فقد جاء عن النبي أنه قال: من أنظر معسراً، أو وضع عنه؛ أظلَّه الله10، وقال : من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسرٍ، أو يضع عنه 11.

ستر المسلم:

قوله : ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة لقد كثرت النصوص التي تحث على ستر المسلم، وتحذر من تتبع عوراته وزلاته ليفضح بين الناس فعن ابن عباس   عن النبي : من ستر عورةَ أخيه المسلم ستر الله عورته يومَ القيامة، ومن كشفَ عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته 12، وقد روي عن بعض السلف أنه قال: أدركت قوماً لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس فذكر الناس عيوباً، وأدركت قوماً كانت لهم عيوب، فكفُّوا عن عيوب الناس فنُسيت عيوبهم، وشاهد هذا حديث أبي بَرْزَةَ عن النبي  أنه قال: يا معشرَ من آمن بلسانه ولم يدخُلِ الإيمانُ في قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعُوا عوراتهم، فإنَّه من اتَّبع عوراتهم تتَّبع الله عورته، ومن تتَّبع الله عورته يفضحه في بيته 13.

بل إن تتبع عورات المسلمين علامة من علامات النفاق، ودليل على أن الإيمان لم يستقر في قلب ذلك الإنسان الذي همه أن ينقب عن مساوئ الناس ليعلنها بين الملأ كما تقدم في الحديث، لأن الأصل في المسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإذا رأى عيباً أو تقصيراً في أخيه  المسلم أن يدعو له بالاستقامة والصلاح، وأن ينصحه في السر فهذا أحرى لقبول النصيحة كما قال الشَّافعيُّ:

تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة
فإنَّ النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه14

لا أن يفرح ويسعد بزلة أخيه وسقطاته، ويجعل منها حديثاً يتلذذ به في المجالس، فيفضح أخاه بذلك، ويخالف أمر ربه ورسوله.

فالمسلم إذا اطلع على زلة أخيه المسلم فهل يسترها عليه أم يعلنها؟ فإن هذا يختلف باختلاف أعمال الناس، والناس في هذا على ضربين:

1- من كان مستوراً لا يُعرف بشيءٍ من المعاصي: فإذا وقعت منه هفوة أو زلة؛ فإنه لا يجوز كشفها، ولا هتكها، ولا التحدُّث بها؛ لأنَّ ذلك غيبة محرَّمةٌ، وإشاعة للفاحشة، والله – تعالى – يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (سورة النور:19) قال العلماء : المراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن فيما فرط منه، أو اتهم بهم مما هو بريء منه، وقال بعضهم: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب، والمراد بالعصاة هنا العصاة المستورن الذين لم يعلنوا بمعاصيهم، وعلى هذا تحتمل النصوص الواردة في الحث على ستر المسلم.

2- من كان مشتهراً بالمعصية، مستعلناً بها بين الناس: إن من لا يبالي بما يرتكب، ولا يكترث لما يقال عنه؛ فهذا فاجر مجاهر بفسقه، فلا غيبة له، بل يندب كشف حاله للناس، وربما يجب حتى يتوقوه، ويحذروا شره، وإن اشتد فسقه ولم يرتدع من الناس؛ وجب رفع حاله إلى ولي الأمر حتى يؤدبه بما يترتب على فسقه من عقوبة شرعية؛ لأن الستر عليه يجعله وأمثاله يطمعون في مزيد من المخالفة، فيعيثون في الأرض فساداً، ويجرون على الأمة الشر المستطير، بل مثل هذا يبحث عنه ويتتبع لتستأصل جذور الفتنة من مجتمع المسلمين بقوله : واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها 15 وذلك حين احتكم إليه رجلان قد زنى ولد أحدهما بامرأة الثاني.

التعاون بين المسلمين في كل وجوه الخير:

قوله : والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه إن المجتمع لن يكون سوياً قوياً، ولن يكون متماسكاً؛ إلا إذا قام على أساس من التعاون والتضامن والتكافل فيما بين أفراده، فسعى كل منهم في حاجة غيره بنفسه، وماله، وجاهه، حتى يشعر الجميع أنهم كالجسد الواحد، وهذا ما دعا إليه الإسلام، وأمر به القرآن، وجعلته السنة المطهرة عنواناً لمجتمع الإيمان قال – تعالى -: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى (سورة المائدة: من الآية 2)، وقال : إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً16. ولما كان التعاون له أثر في بناء المجتمعات، وحياة الأمم والأفراد؛ كان من أفضل الأعمال عند الله ​​​​​​​، وكان عبادة لها من الأجر والثواب مثل ما للصلاة والصيام والصدقة ونحو ذلك أو يزيد قال – عليه الصلاة  والسلام -: وتعين الرجل في دابته: فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعة؛ صدقة17، وعن أنس  قال: “كنا مع رسول الله في سفر، فصام بعض وأفطر بعض، فتحزم المفطرون وعملوا” وفي رواية: “فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب”، وضعف الصوام عن بعض العمل فقال في ذلك: ذهب المفطرون اليوم بالأجر18 أي جاوزه واستصحبوه، ومضوا به، ولم يتركوا لغيرهم شيئاً منه، وهذا على المبالغة، والمراد: أن لهم من الأجر مثل ما للصوام أو أكثر؛ لأنهم بعملهم أعانوا الصوام على صومهم.

ولا شك أن أعظم ثمرة يجنيها المسلم من إعانته لأخيه هي ذاك العون والمدد من الله – تبارك وتعالى -: “والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه”، وكيف لا, ولا حول للإنسان ولا قوة إلا بالله ​​​​​​​، وهو – سبحانه – المتصرف في هذا الكون، وهو المعطي والمانع، بيده قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، فيلهم الناس ليسارعوا إلى معونة من يبذل العون لغيره، ويسعوا في خدمته، وقضاء حوائجه، والاهتمام بشؤونه، والفضل منه وإليه سبحانه، ولكن سخر الناس بعضهم لبعض.

طريق الجنة:

قوله : ومن سلك طريقاً يلتمسُ فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة قد يكون المراد السلوك الحقيقي للطريق وهو المشي بما هيأ الله لنا من وسائل إلى مجالس العلماء، وقد يكون سلوك الطريق المعنوي المؤدي لحصول العلم مثل حفظه، ومدارسته، ومذاكرته، ومطالعته، وكتابته، والتفهم له ونحو ذلك من الطرق، أما قوله : سهل الله به طريقاً إلى الجنة قد يراد به تسهيل حصوله على العلم الذي هو طريق الجنة، أو يسهل له – إذا ابتغى به وجه الله – الانتفاع به، والعمل بمقتضاه، فيكون العلم سبباً لهدايته ولدخوله الجنة، أو يسهل الله له طريق الجنة يوم القيامة من اجتياز الصراط، وما بعده من الأهوال، وما قبله، والله أعلم.

فالعلم النافع هو طريق معرفة الله ​​​​​​​، والوصول إلى رضوانه والفوز بقربه قال – تعالى -: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (سورة فاطر: من الآية 28).

ذكر الله ​​​​​​​: قوله : وما جلس قومٌ في بيت من بيوتِ الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهمُ السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده إن ذكر الله ​​​​​​​ من أعظم العبادات قال – تعالى -: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (سورة العنكبوت:45)، وذلك أن ذكر الله ​​​​​​​ يحمل الإنسان على التزام شرعه في كل شأن من شؤونه، ويشعره برقابة الله – تعالى – عليه، فيكون له رقيب من نفسه، فيستقيم سلوكه، ويصلح حاله مع الله – تعالى -، ومع الخلق، ولذا أمر المسلم بذكر الله – تبارك وتعالى – في كل أحيانه وأحواله قال- سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (سورة الأحزاب:41) أي صباحاً ومساءً، والمراد: في كل الأوقات، قال – سبحانه -: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ (سورة النساء:103)، وخير ما يذكر به الله ​​​​​​​ كلامه المنزل على المصطفى  لما فيه – إلى جانب الذكر – من بيان لشرع الله – تعالى -، وما يجب على المسلم التزامه، وما ينبغي عليه اجتنابه، فيأخذ منه المنهج الذي يقوم عليه سلوكه، ويأخذ به إلى الفوز والسعادة، وخير الأماكن لذكر الله ​​​​​​​ وتلاوة القرآن، وتعلم العلم؛ هي المساجد بيوت الله – سبحانه – يعمرها في أرضه المؤمنون، وعمارتها الحقيقية إنما تكون بالعلم، والذكر؛ إلى جانب العبادة من صلاة، واعتكاف ونحوها.

لقد كان فضل الله ​​​​​​​ عظيماً على أولئك الذين جلسوا يتلون كتابه، إذ حباهم بمكرمات أربع كل منها دليل على علو شأنهم عنده، ورفعة منزلتهم، وكفيل لهم برضوان الله – تبارك وتعالى -، ومغفرته، وقبوله:

1- قوله: نزلت عليهم السكينة عن البراء بن عازب  قال: “قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، فذكر ذلك للنبي  فقال: اقرأ فلان، فإنها السكينة تنزلت 19، وبهذه السكينة يطمئن القلب، وتهدأ النفس، وينشرح الصدر، ويستقر البال والفكر قال – تعالى-: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (سورة الرعد:28).

2- قوله: غشيتهم الرحمة عن سلمان : أنه كان في عصابة يذكرون الله – تعالى -، فمرَّ بهم رسول الله  فقال: ما كنتم تقولون؟ فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأردت أن أشارككم فيها20 فهذه الرحمة هي أعظم ما يحظى به المؤمن، وخير ما يناله المسلم كثمرة لجهده في هذه الحياة قال – تعالى -: َ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون (سورة يونس:58) فطوبى لهؤلاء الذين نالتهم الرحمة فكانت تلاوتهم لكتاب الله ​​​​​​​، ومدارستهم له؛ عنواناً أنهم من المحسنين: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (سورة الأعراف: من الآية 56).

3- قوله : حفتهم الملائكة عن أسيد بن حضير  قال: “بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكنت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي  فقال: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريباً، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم 21.

4- قوله : ذكرهم الله فيمن عنده قال الله – سبحانه وتعالى-: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (سورة البقرة:152)، فإذا ذكر العبد المؤمن ربه بتلاوة كتابه، وسماع آياته؛ قابله الله ​​​​​​​ على فعله من جنسه، فذكره – سبحانه – في عليائه، وشتان ما بين الذكرين، ففي ذكر الله – تعالى – لعبده الرفعة، والمغفرة، والرحمة، والقبول، والرضوان. عن أبي هريرة  قال: قال النبي : يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني: فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة 22.

الجزاء على الأعمال لا على الأنساب:

قوله : ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه قال النووي رحمه الله تعالى: “من كان عمله ناقصاً لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال فينبغي ألا يتكل على شرف النسب، وفضيلة الآباء، ويقصر في العمل” 23.، ويشهد لذلك قوله – تعالى -: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا (سورة الأنعام:132)، وقال – تعالى -: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ (سورة المؤمنون:101).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله حين أنزل عليه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (سورة الشعراء:214): يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف! اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً 24، فمنزلة الإنسان يوم القيامة على قدر إيمانه، وعمله، سواء أكان ذا نسب رفيع أو وضيع، وحول هذا المعنى قال بعضهم:

لعمرك ما الإنسان إلا بدينه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب25

 ومما يرشد إليه الحديث:

1. أن الجزاء عند الله – تعالى – من جنس العمل، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج، والعون بالعون، والستر بالستر، والتيسير بالتيسير.

2. الترغيب في الإحسان إلى العباد.

3. المسارعة للتوبة من الذنوب والخطايا.

4. الاهتمام بكتاب الله – تعالى-.

5. فضل الجلوس في بيوت الله لمدارسة العلم.

6. طلب العون من الله – تعالى- والتيسير.

7. ملازمة تلاوة القرآن والاجتماع لذلك.

8. الحذر من تطرق الرياء في طلب العلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


1صحيح مسلم (2699)، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار – باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.

2شرح مسلم.

3– راجع: قواعد وفوائد ص 308.

4متفق عليه.

5– متفق عليه.

6– متفق عليه.

7– رواه البخاري.

8– رواه ابن حبان.

9رواه البخاري (4712). ومسلم (94).

10– صحيح مسلم (3006)

11– رواه مسلم .

12رواه ابن ماجه

13– رواه أبو داود (4859)، وأحمد (4/420-421)، وقال شعيب الأرناؤوط  في تحقيقه كتاب جامع العلوم والحكم الحديث صحيح.

14– كتاب  ديوان الإمام الشافعي ص56

15– متفق عليه.

16 ­متفق عليه.

17 متفق عليه.

18صحيح مسلم.

19 متفق عليه.

20– رواه الحاكم في المستدرك (1/122)، وصححه، ووافقه الذهبي.

21صحيح مسلم.

22– متفق عليه.

23راجع: شرح مسلم كتاب الذكر (15/551).

24– متفق عليه.

25– انظر: جامع العلوم والحكم (2/310).