ازهد في الدنيا

New Page 1

 أزهد في الدنيا

 

 الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى أله وصحبه ومن اقتفى.

أما بعد:

فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أعطي جوامع الكلم؛ كما أخبر بذلك في السنة الصحيحة.

ومن تلك الأحاديث التي تعد من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم

الحديث الذي يرويه سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه – قال: جاء رجلٌ إلى النبي – صلى الله عليه-  وسلم – فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد بما في أيدي الناس يحبك الناس"[1].

الوصية الأولى:

"ازهد في الدنيا يحبك الله".

 قال ابن رجب- رحمه الله – اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين: الزهد في الدنيا، وأنه مقتض لمحبة الله – عز وجل- لعبده. والثانية: الزهد فيما في أيدي الناس، وأنه مقتضى لمحبة الناس[2].

في الوصية الأولى يجيب النبي – صلى الله عليه وسلم – على سؤال الصحابي الذي وجهه إليه، حينما قال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس؟.

والآيات والأحاديث في مدح الزهد وأهله، وذم الدنيا والرغبة فيها وأهلها كثيرة جداً، ومنها:

قوله تعالى: ((بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خيرٌ وأبقى)) الأعلى 16-17.

وقال: (( تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة)) الأنفال 67.

وقال: ((ما عندكم ينفذ وما عند الله باق)) النحل 96.

وقال: ((اعلموا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينة…)) الحديد 20.

وقال: (( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى…)) النساء 77.

وقال تعالى في قصة قارون: ((فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)) إلى قوله تعالى:((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )) القصص (79)-(83) .

وقال تعالى: (( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) طـه(131) .

وقال حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه: ((وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)) غافر(38)-(39) .

وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مر بسوق والناس كنفته، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله، فأخذ بإذنه فقال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟" فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: " أتحبون أنه لكم؟" فقالوا: والله لو كان حياً عيباً فيه؛ لأنه أسكُ، فكيف وهو ميت؟ فقال: "والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم"[3].

وعن سهل بن سعد – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء"[4]

 وعن المستورد الفهري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: " ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بماذا ترجع"[5].

وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له"[6].

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : "يدخل فقراء المسلمين الجنة، قيل أغنيائهم بنصف اليوم، وهم خمسمائة عام"[7].

والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جداً.

درجات الزهد:

قال الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله- : الزهد على ثلاثة أوجه:

الأول: ترك الحرام: وهو زهد العوام.

والثاني: ترك الفضول من الحلال: وهو زهد الخواص.

والثالث: ترك ما يشغل عن الله: وهو زهد العارفين.

وجاء نحوه عن أبي إسماعيل الهروي – رخمه الله – حيث قال:  وهو – أي الزهد في الدنيا-: على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الزهد في الشبهة، بعد ترك الحرام، بالحذر من المعتبة، والأنفة من المنقصة، وكراهة مشاركة الفساق.

قال ابن القيم – رحمه الله – : "أما الزهد في الشبهة" فهو ترك ما شبه على العبد هل هول حلال أم حرام؟ فالشبهات برزخ بين الحلال والحرام، ولا يكون ترك الشبهة إلا بعد ترك الحرام، وتركه للشبهة حذراً من توجه عتب الله عليه، وأنفسه لنفسه من نقصه عند ربه وسقوطه من عينه، لا أنفته من نقصه عند الناس، وسقوطه من أعينهم.

قلت: رحم الله ابن القيم حيث نبه على مسألة مهمة وهي أن بعض الناس قد يترك الدنيا ويزهد فيها وليس زهداً حقيقاً، وإنما خوفاً من نقص منزلته ومرتبته عند الناس، وذلك كأن يكون صاحب وجاهة أو ولاية على أناس فيتظاهر بالزهد الكاذب من أجل المحافظة وجاهته وولايته عندهم أو عليهم.

ثم يقول ابن القيم: " وكراهة مشاركة الفساق" يعني أن الفساق يزدحمون على مواضع الرغبة في الدنيا، ولتلك المواقف بهم كظيظ من الزحام، فالزاهد يأنف من مشاركتهم في تلك المواقف، ويرفع نفسه عنها، لخسة شركائه فيها؛ كما قيل لبعضهم: ما الذي زهدك في الدنيا؟ قال: قلة وفائها، وكثرة جفائها، وخشية شركائها.

إذا لم أترك الماء اتقـاءً *** تركت لكثرة الشركاء فيه

إذا وقع الذباب على طعام *** رفعت يدي ونفسي تشتهيه

وتجنب الأسود ورود ماء *** إذ كان الكلاب يلغن فيه

الدرجة الثانية:" الزهد في الفضول" وهو ما زاد على المسكة والبلاغ من القوت، باغتنام التفرغ إلى عمارة الوقت، وحسم الجأش، والتحلي بحلية الأنبياء والصديقين".

قال ابن القيم: "الفضول": ما يفضل عن قدر الحاجة. "والمسْكة": ما يمسك الإنسان من القوت والشراب واللباس والمسكن والمنكح إذا احتاج إليه. و" البلاغ" هو البُلغة من ذلك يتبلغ به المسافر في منازل السفر، فيزهد فيما رواء ذلك، اغتناماً لتفرغه لعمارة وقته.

قال صلى الله عليه وسلم: "إن أمامكم عقبة كئوداً، لا يجوزها إلا المثقلون" [8].

وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب"[9]

وقال عليه الصلاة والسلام: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"[10].

قال ابن القيم- رحمه الله- : إن الزهد لأهل هذه الدرجة أعلى وأرفع، وهو اغتنام الفراغ لعمارة أوقاتهم مع الله؛ لأنه إذا اشتغل بفضول الدنيا، فاته نصيبه من انتهاز فرصة الوقت، فالوقت سيفٌ إن لم تقطعه قطعك.

وأما "حسم الجأش": فهو قطع اضطراب القلب المتعلق بأسباب الدنيا، رغبة ورهبة وحباً وبغضاً وسعياً، فلا يصحُّ الزهد للعبد حتى يقطع هذا الاضطراب من قلبه، بأن لا يلتفت إليها، ولا يتعلق بها في حالتي مباشرته لها وتركه، فإن الزهد زهد القلب، لا زهد الترك من اليد، فهو تخلي القلب عنها لا خلو اليد منها.

وأما "التحلي بحلية الأنبياء والصديقين" فإنهم أهل الزهد في الدنيا حقاً، إذ هم مستمرون إلى علم قد رفع لهم غيرها، فهم زاهدون، وإن كانوا لها مباشرين.

الدرجة الثانية: "الزهد في الزهد": وهو بثلاثة أشياء: استحقار ما زهدت فيه، واستواء الحالات فيه عندك، والذهاب عن شهود الاكتساب، ناظراً إلى وادي الحقائق. للاستزادة انظر مدارج السالكين 2/19-20.

وقال الغزالي – رحمه الله -: أعلم أن الزهد في نفسه يتفاوت بحسب تفاوت قوته على درجات ثلاث:

الدرجة الأولى: وهي السفلى منها: أن يزهد في الدنيا وهو لها مشته، وقلبه إليها مائل، ونفسه إليها ملتفتة، ولكنه يجاهدها ويكفُّها، وهذا يسمى المتزهد، وهو مبدأ الزهد، والمتزهد على خطر عظيم، فإنه ربما تغلبه نفسه وتحذبه شهوته، فيعود إلى الدنيا.

الدرجة الثانية: الذي يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها؛ بالإضافة إلى ما طمع فيه، كالذي يترك درهماً لأجل درهمين، فإنه لا يشق عليه ذلك.

لكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويتلفت إليه، فيكاد يكون معجباً بنفسه وبزهده، ويظن في نفسه أنه ترك شيئاً له قدره، لما هو أعظم قدراً منه وهذا أيضاً نقصان.

والدرجة الثالثة وهي العليا: أن يزهد طوعاً، ويزهد في زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنه ترك شيئاً، إذ عرف أن الدنيا لا شيء، فيكون كم ترك زخرفة وأخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة، ولا يرى نفسه تاركاً شيئاً، والدنيا بالإضافة إلى الله تعالى ونعيم الآخرة، أخسُّ من زخرفة بالإضافة إلى جوهرة، فهذا هو الكمال في الزهد[11].

الزهد المشروع:

قد يظن ظان أويتخيل متخيل أن الزهد ترك الدنيا كاملة، والإقبال على الاعتكاف في المساجد وترك العيال والأولاد يتكففون الناس، أو أن الزهد لبس الثياب الخشنة، أو تعذيب النفس وتجويعها، كما يفعله بعض المتصوفة أو.. وليس الأمر كذلك.

 إنما الزهد المشروع في الدنيا هو ما فسره به بعض السلف، فقد سئل بعضهم – ولعله الإمام أحمد- عمن معه مال: هل يكون زاهداً؟ قال: إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه، أو كما قال.

وقال أحمد بن أبي الحواري: قلت لسفيان بن عيينة: من الزاهد في الدنيا؟ قال: من إذا أنعم عليه شرك وإذا ابتلي صبر، فقلت: يا أبا محمد قد أنعم عليه فشكر وابتلي فصبر، وحبس النعمة، كيف يكون زاهداً؟ فقال: اسكت، من لم تمنعه النعماء من الشرك، ولا البلوى من الصبر، فذلك الزاهد.

 وقال ربيعة: رأس الزهاد جمع الأشياء بحقها ووضعها في حقها.

وقال ابن القيم: ومتعلق الزهد ستة أشياء، لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي:

1.   المال

2.    والصور

3.    والرياسة

4.    والناس

5.    والنفس

6.    وكل ما دون الله.

وليس المراد رفضها من الملك، فقد كان سليمان وداود – عليهما السلام – من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء ما لهما.

 وكان نبينا – صلى الله عليه وسلم – من أزهد البشر على الإطلاق وكان له تسع نسوة.

وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان – رضي الله عنهم – من الزهاد، مع ما كان لهم من الأموال.

 وكان الحسن بن علي  من الزهاد، مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحاً لهن وأغناهم.

 وكان عبد الرحمن بن المبارك من الأئمة الزهاد مع مال كثير.

 وكذلك الليث بن سعد من أئمة الزهاد، وكان له رأس مالٍ، يقول: لولا هو لتمندل بنا هؤلاء.

ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن البصري أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة – إذا أصبت بها- أرغب منك فيها لو لم تصبك.

يقول ابن القيم: فهذا من أجمع الكلام في الزهد وأحسنه.[12]

وقد سئل شيخ الإسلام  ابن تيمية – قدس الله روحه – عن رجل تفقه وعلم ما أمر الله به وما نهى عنه، ثم تزهد وترك الدنيا والمال والأهل والأولاد خائفاً من كسب الحرام والشبهات، وبعث الآخرة وطلب رضا الله ورسوله، وساح في أرض الله والبلدان، فهل يجوز أن يقطع الرحم ويسيح كما ذكر أم لا؟

فأجاب: الحمد لله وحده.

الزهد المشروع : هو ترك كل شيء لا ينفع في الآخرة، وثقة القلب بما عند الله. كما في الحديث الذي في الترمذي: "ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون ما في يد الله أوثق بما في يدك، وأن تكون في ثواب الله المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك"[13]؛ لأن الله – تعالى- يقول: ((لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)) الحديد23 . فهذا صفة القلب.

وأما في الظاهر فترك الفضول التي لا يستعان بها على طاعة الله من مطعم وملبس ومال وغير ذلك، كما قال الإمام أحمد:" إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وصبر أيام قلائل.

وجماع ذلك خلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ؛ كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: "خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"[14]وكان عادته في المطعم أنه لا يرد موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، ويلبس من اللباس ما تسير من قطن وصوف وغير ذلك، وكان القطن أحب إليه، وكان إذا بلغه أن بعض أصحابه يريد أن يتعدي فيزيد في الزهد، أو العبادة على المشروع. ويقول: أينا مثل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ؟! يغضب لذلك، ويقول: "والله إني لأخشاكم لله، وأعلمكم بحدود الله – تعالى-"[15]. وبلغه أن بعض أصحابه قال: أما أنا فأصوم فلا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم فلا أنام، وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال آخر: أما أنا فأقوم فلا أنام، فقال صلى الله عليه وسلم: "لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني"[16].

 فأما الإعراض عن الأهل والأولاد فليس مما يحبه الله ورسوله، ولا هو من دين الأنبياء، بل قد قال الله: ((ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلتا لهم أزواجاً وذرية)) والإنفاق على العيال والكسب لهم يكون واجباً تارة ومستحباً أخرى، فكيف يكون ترك الواجب أو المستحب من الدين؟!

وكذلك السياحة في البلاد لغير مقصود مشروع؛ كما يعانيه بعض النساك أمر منهي عنه.

وقال يحيى بن معاذ الرازي: كيف لا أحب دينا قدر لي فيها قوت أكتسب به حياة  أدرك بها طاعة أنال بها الآخرة[17].

أقسام الزهد في الدنيا:

لقد اختلفت عبارات السلف في تفسير الزهد في الدنيا، وبيان أقسامها، ولكن أجمعها ثلاثة أقسام:

أحدهما: أن يكون العبد بما يد الله أوثق منه بما في يد نفسه، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته، فإن الله ضمن أرزاق عباده، وتكفل بها، كما قال: (( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها)) هود 6. وقال: (( وفي السماء رزقكم وما توعدون)) الذاريات22. وقال: ((فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه)) العنكبوت17.

قال الحسن: إنَّ من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله – عز وجل-.

وروي عن ابن مسعود قال: إن أرجى ما أكون للرزق إذ قالوا ليس في البيت دقيق. وقال مسروق: إن أحسن ما أكون ظناً حين يقول الخادم: ليس في البيت قفيز من قمح ولا درهم.

وقال الإمام أحمد: أسرُّ أيامي إليّ يوم أصبح وليس عندي شيء…

والثاني: أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه من ذهاب مال أو ولد، أو غير ذلك، أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه في الدنيا أن يبقى له، وهذا أيضاً ينشأ من كمال اليقين.

وقد روي عن ابن عمر أن النبي- صلى الله عليه وسلم – كان يقول في دعائه: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا" وهو من علامات الزهد في الدنيا، وقلة الرغبة فيها، كما قال علي – رضي الله عنه- : من زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات.

والثالث: أن تستوي عند العبد حامده وذامُّه في الحق، وهذا من علامات الزهد في الدنيا، واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، فإن من عظمت الدنيا عنده أحبّ الممدح وكره الذم، فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذمّ، وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح، فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق، دل على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه، وامتلائه من محبة الحق، وما فيه رضا مولاه، كما قال ابن مسعود: اليقين أن لا ترضى الناس بسخط الله.

 وقد مدح الله الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم[18].

الوصية الثانية:

 "وازهد بما في أيدي الناس يحبك الناس".

 ويروى عن سهل بن سعد مرفوعاً: "شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس"[19].

 وقال الحسن: لا تزال كريماً على الناس، أولا يزال الناس يكرمونك مالم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك وأبغضوك.

وقال أبو أيوب السختياني:  لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عما يكون منهم.

 وكان عمر يقول في خطبته على المنبر: إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وأن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه.

قال ابن رجب الحنبلي: وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم- بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم، فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه، لأن المال محبوب لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك.

وأما من كان يرى المنة للسائل عليه، ويرى أنه لو خرج له عن ملكه كله، لم يف له ببذل سؤاله له وذلته له، أو كان يقول لأهله: ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم، ودوابكم تحت غيركم أحسن منها تحتكم، فهذا نادرٌ جداً من طباع بني آدم، وقد انطوى ببساط ذلك من أزمان متطاولة.

وأما من زهد فيما في أيدي الناس، وعف عنهم، فإنهم يحبونه ويكرمونه ولذلك ويسود به عليهم، كما قال أعرابي لأهل البصرة: من سيَّد أهل هذه القربة؟ قالوا: الحسن، قال: بما سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم[20].

 وما أحسن قول بعض السلف في وصف الدنيا وأهلها:

    وما هي إلا جيفـة مستحيلـة *** عليها كلاب همُّهن اجتذابها

    فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] قال النووي: حديث حسن رواه ابن ماجة وغيره بأسانيد حسنة. وتكلم على الحديث ابن رجب – رحمه الله – وقال محققا جامع العلوم والحكم – شعيب الأرناؤوط- إبراهيم باجس رواه ابن ماجة (4102)، وابن حبان في روضة العقلاء ص 141، والطبراني في الكبير (5972) والقضاعي في مسند الشهاب (643)، وأبو نعيم في الحلية( 3/252-253 و7/136) وفي تاريخ أصبهان (2/244-245)، وابن عدي في الكامل( 3/902)، والعقيلي في الضعفاء (2/11)، والحاكم ( 4/313) من طرق عن خالد بن عمرو القرشي، عن سفيان الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد.

وكأنهما يضعفانه وذلك استنباطاً من قولهما في التحقيق للمتابعات التي ذكرها ابن رجب في الشرح حيث يقولا مثلاً: وهاتان المتابعتان أيضاً لا يفرح بهما.

ولكن الإمام المحدث الألباني يصححه انظر صحيح الجامع برقم (922).

[2] – جامع العلوم 2/177. 

[3] – رواه مسلم.

[4] – رواه الترمذي وابن ماجة، وقال محققا جامع العلوم والحكم (2/178) : حديث صحيح.

[5] – رواه مسلم.

[6] رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (651).

[7] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه ، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (8076). 

[8] – رواه الحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2001.

[9] – رواه الطبراني في الكبير عن خباب وصححه الألباني في صحيح الجامع 2384.

[10] رواه البخاري عن ابن عمر.

[11] إحياء علوم الدين (4/239-241).

[12] انظر مدارج السالكين 2/12-13.

[13] – ضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجة برقم (393).

[14] – رواه مسلم.

[15] – رواه مسلم بزيادة " وأعلمكم بما أتبع ".

[16] – روه البخاري ومسلم.

[17] مجموع الفتاوى (10/641).

[18] – جامع العلوم والحكم 2/180- 183 ملخصاً.

[19] قال محققا جامع العلوم والحكم: رواه أبو نعيم في الحلية 3/253، والقضاعي في مسند الشهاب (151) وصححه الحاكم 4/324-325، ووافقه الذهبي مع أن فيه زافر بن سليمان وهو ضعيف، ولذا قال أبو نعيم: غريب، ورواه العقيلي في الضعفاء 2/37-38. ومن حديث أبي هريرة، وقال: هذا يروي عن الحسن وغيره من قولهم وليس له أصل سند. والحديث حسنه الألباني في الصحيحة برقم(831). 

[20] جامع العلوم والحكم (2/205-206).