القرض .. حسنه وقبيحه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فإن معاملة الإقراض والاقتراض مسألة قديمة لازمت الإنسان منذ عصره الأول؛ ذلك لأن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع أن يعيش وحده مستغنياً عن بني جنسه؛ فلم يزل الناس يقرض بعضهم بعضاً، كما كانوا يبيعون ويشترون ويتبادلون المنافع. لكن هذا الأمر مع مرور الزمان تغيرت صورته وتطورت عمليته، وخاصة في القرن الثامن عشر إلى التاسع عشر الميلادي، حيث خرج من شكله الفردي الضروري، إلى صورة جماعية رفاهية؛ إذ صار التقارض اليوم بين الشعوب والمجتمعات والحكومات الدولية. وأنشئت شركات ومنظمات أهلية ومحلية ودولية تقوم بهذا الشأن، تحت قيود إلزامية، وقواعد ديكتاتورية، تجعل الناس في حرج دائم ومرج.1
وفي هذا الدرس نلقي بعض الضوء حول موضوع القرض وقسميه الحسن والسيئ، ونشرع في درسنا بتعريف القرض. تعريف القرض: القرض: هو المال الذي يعطيه المقرض للمقترض ليرد مثله إليه عند قدرته عليه، وهو في أصل اللغة: القطع.
وسمي المال الذي يأخذه المقترض بالقرض؛ لأن المقرض يقطعه قطعة من ماله. مشروعيته:
وهو قربة يتقرب بها إلى الله سبحانه، لما فيه من الرفق بالناس، والرحمة بهم، وتيسير أمورهم، وتفريج كربهم. وإذا كان الإسلام ندب إليه وحبب فيه بالنسبة للمقترض فإنه أباحه للمقترض، ولم يجعله من باب المسألة المكروهة لأنه يأخذ المال لينتفع به في قضاء حوائجه، ثم يرد مثله.
الترادف بين القرض والسلف والدّيْن:
إن القرض والسلف كلمتان مترادفتان؛ فكما أن القرض يرد فيه المقترض بدل ما أخذ من المقرِض؛ فكذلك السلف.
أما الدَّيْن فهو عامٌّ؛ حيث إنه يطلق على القرض، والسَّلَم، وبيع الأعيان إلى أجل، فهو عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً، والآخر نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضراً والدَّيْن ما كان غائباً.2
عقد القرض:
وعقد القرض عقد تمليك فلا يتم إلا ممن يجوز له التصرف، ولا يتحقق إلا بالإيجاب والقبول كعقد البيع والهبة. وينعقد بلفظ القرض والسلف، وبكل لفظ يؤدي إلى معناه.
وعند المالكية أن الملك يثبت بالعقد ولو لم يقبض المال.
ويجوز للمقترض أن يرد مثله أو عينه، سواء أكان مثلياً أم غير مثلي، ما لم يتغير بزيادة أو نقص، فإن تغير وجب رد المثل.3
فضله:
1- روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).4
2- وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة).5
3- وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (دخل رجل الجنة فرأى على بابها مكتوباً: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر).6 هذا كله لما في القرض من الرفق بالمحتاجين والرحمة بهم وتفريج كربهم، وكان سليمان بن أذنان يقرض علقمة ألف درهم إلى عطائه، فلما خرج عطاؤه تقاضاها عنه واشتد عليه فقضاه.
وكأن علقمة غضب، فمكث أشهراً، فقال: أقرضني ألف درهم إلى عطائي، فقال: نعم وكرامة! يا أم علقمة! هلمي تلك الخريطة المختومة التي عندك، فجاءت بها، فقال: أما والله إنها لدراهمك التي قضيتني ما حركت منها درهماً واحداً. قال: “فلله أبوك! ما حملك على ما فعلت بي؟ قال: ما سمعت منك: قال: ما سمعت مني؟ قال سمعتك تذكر عن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقتهما مرة)7 قال: -أي علقمة- كذلك أنبأني ابن مسعود.8 اشتراط الأجل فيه:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز اشتراط الأجل في القرض؛ لأنه تبرع محض. وللمقرض أن يطالب ببذله في الحال، فإذا أجل القرض إلى أجل معلوم لم يتأجل وكان حالاً، وقال مالك: يجوز اشتراط الأجل، ويلزم الشرط، فإذا أجل القرض إلى أجل معلوم تأجل، ولم يكن له حق المطالبة قبل حلول الأجل، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} (282) سورة البقرة. ولما رواه عمر وبن عوف المزني عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (المسلمون على شروطهم).9،10
أنواع القرض:
القرض في الإسلام ينقسم إلى قسمين: قرض حسن، وقرض ربوي.
فالقرض الحسن هو: ما يعطيه المقرض من المال إرفاقاً بالمقترض ليرد إليه مثله دون اشتراط زيادة، ويطلق هذا اللفظ كما جاء في القرآن على المال الذي ينفق على المحتاجين طلباً لثواب الآخرة.
والقرض الربوي: هو القرض الذي يشترط فيه المقرض شيئاً زيادة على ما أقرض.11
كل قرض جر نفعاً فهو ربا:
إن المقصود من عقد القرض الرفق بالناس، ومعاونتهم على شؤون عيشهم، وتيسير وسائل حياتهم، وليس وسيلة للاستغلال، ولهذا لا يجوز أن يرد المقترض للمقرض إلا ما أقرضه منه أو مثله عملاً بالقاعدة الفقهية القائلة: “كل قرض جر نفعاً فهو ربا”. والحرمة مقيدة هنا بما كان نفع القرض مشروطاً أو متعارفاً عليه، فإن لم يكن مشروطاً ولا متعارفاً عليه، كانت الزيادة جائزة ودليل ذلك حديث أبي رافع قال: استلف رسول الله من رجل بكراً فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكراً، فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً، فقال النبي: (أعطه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاء).12،13
ومن رحمة الله بخلقه أن حرم عليهم كل ما من شأنه أن يضرهم، ولو نظرنا إلى القرآن الكريم والسنة النبوية لوجدنا أن الربا المحرم في عصر النزول كان في القرض: وهو الذي سماه القرآن ربا فهو تلك الزيادة المشروطة في القروض والديون؛ لأن هذه المعاملة هي ما يرجع إليه لفظ الربا في ذلك العصر. وقد كانت معاملة شائعة ومعروفة بينهم، قال الجصاص: “الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله، إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل، بزيادة على قدر ما استقرض، على ما يتراضون به.. هذا كان المتعارف المشهور بينهم” ثم قال: “ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على هذا الوجه الذي ذكرنا، من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل، مع شرط الزيادة”.14
وقال الرازي: “أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهوراً متعارَفاً في الجاهلية؛ وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً، ويكون رأس المال باقياً، ثم إذا حلّ الدين طالبوا المدين برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل؛ فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به”.15
فنفهم مما تقدم أن الربا المتعامل به في عصر النزول، والذي جاءت الآيات القرآنية بتحريمه كان على القرض، وهو نوعان:
النوع الأول: هو تلك الزيادة التي تشترط في أول العقد في عقد القرض، وهي المشهورة بهذا الاسم كما سبق.
النوع الثاني: هو الزيادة الثانية أو المكررة، في دين البيع، وهو الذي يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخّر عنه، وهو ما يسمى البيع الآجل، وإن كان ذلك لا يعني أنهم لا يزيدون في ثمن البيع على قيمته نقداً.
صور للقرض الذي يدر منفعة: صور ذلك كثيرة جداً لا حصر لها، منها:
أ- أن يقرض ألفين أو ثلاث على بيعه داره، أو على أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه.
ب- أن يقرضه مالاً على أن يسعى له أو لوالده أو قريبه في عمل أو وظيفة.
ج- أن يقرضه مالاً على أن يؤجره بيتاً أو دكاناً أو غير ذلك.
إلى غير ذلك من الصور الشائعة بين الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سلف وبيع.16
وروي عن ابن كعب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم جميعاً أنهم نهوا عن قرض جر منفعة؛ لأن القرض عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه، فيجب على المسلم أن ينتبه لذلك ويحذر منه ويخلص النية في القرض وفي غيره من الأعمال الصالحة، فإن القرض ليس القصد منه النماء الحسي، وإنما القصد منه النماء المعنوي، وهو التقرب إلى الله عز وجل، بدفع حاجة المحتاج، واسترجاع رأس المال، فإذا كان هذا القصد في القرض، فإن الله تعالى ينزل في المال البركة والنماء والطيب”.17
البنوك الربوية والقروض:
في عصرنا هذا يوجد ربا القرض في البنوك الربوية بوضوح وجرأة على الله حتى في الدول الإسلامية. وإن التعامل بالقروض التي يكسب بعدها البنك فوائد كثيرة عند السداد هي السمة المتعامل بها في بنوك اليوم، إلا ما ندر كما في البنوك الإسلامية، وقد دخل بعضها دخن من معاملات ربوية أخرى، قد تخفى على البعض. بل إن تعاملات كثير من الدول وقروضها التي تأخذها من دول أخرى يتم على الربا الصريح، وهذا ما أثقل كاهل تلك الدول وتحملت الأمم والشعوب تبعات تلك القروض من الديون والحالة الاقتصادية السيئة.. وهذه عقوبة من تعامل بالربا ولم يستحِ من الله ولا من خلقه، لقد أخبر الجبار جل جلاله أن من تعامل بالربا فقد بارزه بالمحاربة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (278-279) سورة البقرة، وأي خير وسعادة لمن حاربه الله تعالى؟! نسأل الله السلامة والعافية. هذا ما تيسر جمعه في هذا الدرس والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 مجلة البيان- العدد [200 ص: (14)، بتصرف.
2 مجلة البيان- العدد [200 ص: (14).
3 فقه السنة للسيد سابق دار الفكر للطباعة والنشر، ط1: (1418هـ/1997م) (3/131).
4 رواه مسلم (2699) وغيره.
5 رواه ابن ماجه (2430) صححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع وانظر حديث رقم: (5769).
6 رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (7976) وغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3407).
7 سبق تخريجه.
8 الجامع الأحكام القرآن: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي (3/225).
9 رواه أبو داود برقم: (3594) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6714).
10 فقه السنة (3/132).
11 مجلة البيان العدد: (200) ص: (14).
12 رواه البخاري (2183) ومسلم (1601).
13 فقه السنة (3/132).
14 أحكام القرآن للقرطبي: (1/465).
15 التفسير الكبير للرازي (4/25).
16 رواه الترمذي برقم (1234) وأبو داود (3504) والنسائي (4611) وحسنه الألباني في المشكاة برقم (2870).
17 المصدر: موقع كلمات.