محظورات الإحرام ومباحاته

محظورات الإحرام ومباحاته

محظورات الإحرام ومباحاته

الحمد لله الذي خلق الثقلين لعبادته, وأرسل الرسل بذلك عليهم الصلاة والسلام، وبين في كتابه العزيز وسنة رسوله الأمين تفاصيل هذه العبادة التي خلقوا لها, وأوجب على العباد أداء ما فرض عليهم منها وترك ما حرم عليهم عن إخلاص له سبحانه ورغبة ورهبة, ووعدهم على ذلك الأجر العظيم والنعيم المقيم في دار الكرامة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله, صلى الله وسلم عليه وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين… أما بعد:1

فنستعرض في هذا الدرس شيئاً من الأحكام المتعلقة بالحج؛ ليستفيد من يطلع على هذا الموضوع بما قاله العلماء حول الإحرام بالحج وما يتعلق به من المحظورات والمباحات؛ وكيف يؤدي الحاج عبادته وافية على علم وبصيرة, ونسأل الله العظيم أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا, إنه جواد كريم, فنقول مستعينين بالله:

لا يجوز للمحرم بعد نية الإحرام -سواء كان ذكراً أو أنثى- أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره أو يتطيب. ولا يجوز للذكر خاصة أن يلبس مخيطاً على جملته, يعني على هيئته التي فصل وخيط عليها كالقميص أو على بعضه كالفانلة والسراويل والخفين والجوربين, إلا إذا لم يجد إزاراً جاز له لبس السراويل، وكذا من لم يجد نعلين جاز له لبس الخفين من غير قطع لحديث ابن عباس –رضي الله عنهما- الثابت في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل)2. وأما ما ورد في حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- من الأمر بقطع الخفين إذا احتاج إلى لبسهما لفقد النعلين فهو منسوخ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بذلك في المدينة لما سئل عما يلبس المحرم من الثياب, ثم لما خطب الناس بعرفات أذن في لبس الخفين عند فقد النعلين ولم يأمر بقطعهما، وقد حضر هذه الخطبة من لم يسمع جوابه في المدينة, وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز كما قد علم في عِلْمَي أصول الحديث والفقه؛ فثبت بذلك نسخ الأمر بالقطع, ولو كان ذلك واجباً لبينه -صلى الله عليه وسلم- والله أعلم.

ويجوز للمحرم لبس الخفاف التي ساقها دون الكعبين لكونها من جنس النعلين, ويجوز له عقد الإزار وربطه بخيط ونحوه لعدم الدليل المقتضي للمنع. ويجوز للمحرم –أيضاً- أن يغتسل ويغسل رأسه ويحكه إذا احتاج إلى ذلك برفق وسهولة فإن سقط من رأسه شيء بسبب ذلك فلا حرج عليه.

ويحرم على المرأة المحرمة أن تلبس مخيطاً لوجهها كالبرقع والنقاب أو ليديها كالقفازين؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ)3. والقفازان: ما يخاط أو ينسج من الصوف أو القطن أو غيرهما على قدر اليدين.

ويباح لها من المخيط ما سوى ذلك, كالقميص والسراويل والخفين والجوارب ونحو ذلك، وكذلك يباح لها سدل خمارها على وجهها إذا احتاجت إلى ذلك بلا عصابة، وإن مس الخمار وجهها فلا شيء عليها لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحْرِمَاتٌ فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ)4.

كذلك لا بأس أن تغطي يديها بثوبها أو غيره, ويجب عليها تغطية وجهها وكفيها إذا كانت بحضرة الرجال الأجانب؛ لأنها عورة لقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}… الآية (31) سورة النــور. ولا ريب أن الوجه والكفين من أعظم الزينة,  والوجه في ذلك أشد وأعظم, وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (53) سورة الأحزاب. وأما ما اعتادته الكثيرات من النساء من جعل العصابة تحت الخمار لترفعه عن وجهها فلا أصل له في الشرع فيما نعلم، ولو كان ذلك مشروعاً لبينه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمته ولم يجز له السكوت عنه.

ويجوز للمحرم من الرجال والنساء غسل ثيابه التي أحرم فيها من وسخ أو نحوه، ويجوز له إبدالها بغيرها ولا يجوز له لبس شيء من ثياب مسه الزعفران أو الورس؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك في حديث ابن عمر.

ويجب على المحرم أن يترك الرفث والفسوق والجدال لقول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (197) سورة البقرة.

وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)5.

والرفث: يطلق على الجماع وعلى الفحش من القول والفعل, والفسوق: المعاصي.  والجدال: المخاصمة في الباطل أو فيما لا فائدة فيه, فأما الجدال بالتي هي أحسن لإظهار الحق ورد الباطل فلا بأس به بل هو مأمور به؛ لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (125) سورة النحل.

ويحرم على المحرم الذكر تغطية رأسه بملاصق كالطاقية والغترة والعمامة أو نحو ذلك, وهكذا وجهه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الذي سقط عن راحلته يوم عرفة ومات: (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا)6.

وأما استظلاله بسقف السيارة أو الشمسية أو نحوهما فلا بأس به, كالاستظلال بالخيمة والشجرة؛ لما ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ظلل عليه بثوب حين رمى جمرة العقبة، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه ضربت له قبة بنمرة فنزل تحتها حتى زالت الشمس يوم عرفة.

ويحرم على المحرم من الرجال والنساء قتل الصيد البري والمعاونة في ذلك وتنفيره من مكانه، وعقد النكاح والجماع, وخطبة النساء ومباشرتهن بشهوة لحديث عثمان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ)7.

وإن لبس المحرم مخيطاً أو غطى رأسه أو تطيب ناسياً أو جاهلاً فلا فدية عليه، ويزيل ذلك متى ذكر أو علم, وهكذا من حلق رأسه أو أخذ من شعره شيئاً أو قلم أظافره ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه على الصحيح.

ويحرم على المسلم -مُحرِماً كان أو غير محرم, ذكراً كان أو أنثى- قتل صيد الحرم والمعاونة في قتله بآلة أو إشارة أو نحو ذلك, ويحرم تنفيره من مكانه, ويحرم قطع شجر الحرم ونباته الأخضر ولقطته, إلا لمن يعرِّفها لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ, فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحْلِلْ لِي قَطُّ إِلَّا سَاعَةً مِنْ الدَّهْرِ لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ)8.

والمنشد هو الْمُعَرِّف، والخلا: هو الحشيش الرطب.

واعلم أن منى ومزدلفة من الحرم, وأما عرفة فمن الحل. والله أعلم9.

وبمكن تلخيص القول في محظورات الإحرام فنقول:

المحظورات هي الأعمال الممنوعة التي لو فعلها الحاج أو المعتمر وجب عليه فيها فدية، أو صيام، أو إطعام, ومحظورات الإحرام هي:

1-  حلق الشعر من أي جزءٍ من بدنه.

2-  تقليم الأظفار.

3-  تغطية الرأس، وتغطية الوجه من الأنثى إلا إذا مر بها رجال أجانب.

4-  لبس الذكر للمخيط, وهو ما يخاط على حجم العضو، كالثوب والسروال ونحوهما.

5-  الطيب.

6-  قتل الصيد البري المأكول.

7-  عقد النكاح.

8- الجماع، فإن كان قبل التحلل الأول فسد نسكهما، ويجب في ذلك بدنة ويمضيان فيه ويقضيان من العام المقبل، وإن كان بعد التحلل الأول فلا يفسد به النسك لكن يجب في ذلك شاة.

9- مباشرة الرجل المرأة فيما دون الفرج, فإن أنزل فعليه بدنة, وإن لم ينزل فعليه شاة ولا يفسد حجه في كلا الحالين, والمرأة كالرجل فيما سبق من المحظورات إلا في لبس المخيط فتلبس ما شاءت غير متبرجة، وتغطي رأسها، وتكشف وجهها ولا تغطيه إلا عند وجود رجال أجانب.

ويجوز للمحرم ذبح بهيمة الأنعام، والدجاج، ونحوها، وله قتل الصائل المؤذي كالأسد والذئب والنمر والفهد والحية والعقرب والفأرة وكل مؤذ، كما يجوز له صيد البحر، وطعامه.

ويحرم على المحرم وغير المحرم قطع شجر الحرم, وحشيشه إلا الإذخر, كما يحرم قتل صيد الحرم, فإن فعل فعليه الفدية، ويحرم صيد حرم المدينة وقطع شجره ولا فدية فيه.

في المحظورات والفدية:

من كان له عذر واحتاج إلى فعل محظور من محظورات الإحرام السابقة غير الوطء كحلق الشعر، ولبس المخيط ونحوهما فله ذلك، وعليه فدية يخير فيها بين صيام ثلاثة أيام, أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مدُّ برِّ أو أرز أو نحوهما, أو ذبح شاة.

ومنْ فعل شيئاً من محظورات الإحرام جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً فلا إثم عليه ولا فدية؛ لقوله تعالى:   {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (286) سورة البقرة. وعليه أن يتخلى عن المحظور فوراً.

ومَنْ قتل صيداً برياً وهو محرم, فإن كان له مثل من النعم خُيّر بين إخراج المثل، يذبحه ويطعمه مساكين الحرم، أو يقومه بدراهم يشتري بها طعاماً فيطعم كل مسكين مُدَّاً, أو يصوم عن كل مُدٍّ يوماً، وإن كان الصيد ليس له مثْلٌ خُيّر بين أن يشتري بقيمته طعاماً, ويفرقه على مساكين الحرم أو يصومَ عن كل مُدٍّ يوماً.

وفدية المباشرة دون إنزال كفدية الأذى من صيام أو إطعام أو ذبح شاة, وفدية الجماع في الحج قبل التحلل الأول بدنة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وإن كان بعد التحلل الأول فكفدية الأذى.

ويجب على المتمتع والقارن الهدي إن لم يكونا من أهل مكة وهو شاة، أو سبع بدنه، أو سبع بقرة، فمن لم يجد الهدي، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.

والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرة أيام ثم حلَّ, ومن كرر محظوراً من جنس واحد ولم يفد فدى مرة واحدة بخلاف صيد، ومن كرر محظوراً من أجناس بأن حلق، ثم قلم أظفاره فدى لكل جنس مرة، والله أعلم10.

والله نسأل أن ينفع المسلمين بهذه الكلمات، وأن يجعل العمل لوجهه خالصاً، ونسأله الاستقامة والثبات على الإسلام، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، ومن الله نستمد العون والتوفيق والسداد, ونستلهمه الرشاد, وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعـين, والحمد لله رب العالمين.

 

 

 


 


1 من مقدمة كتاب تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام.

2 رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني في صحيح النسائي.

3 رواه البخاري -1707- (6/374).

4 رواه أبو داود -1562- (5/169) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح -2690- (2/107).

5 رواه البخاري -1690- (6/344) ومسلم -2404- (7/72).

6 رواه البخاري -1187- (5/2) ومسلم -2095- (6/ 198) وهذا لفظ مسلم.

7 رواه مسلم -2522- (7/214).

8 رواه البخاري – (13/207) ومسلم -2412- (7/83).

9 مستفاد من كتاب: التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنة للعلامة/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز –رحمه الله تعالى- (1/31 وما بعدها ) بتصرف يسير.

10 رسالة في الفقه الميسر لـ(صالح بن غانم السدلان- بتصرف).