صلاة التراويح بالمسجد
الحمد لله الذي أعان بفضله الأقدام السالكة، وأنقذ برحمته النفوس الهالكة، ويسَّر من شاء لليسرى فرغب في الآخرة، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
لقد شرع الله لعباده العبادات، ونوَّعها لهم؛ ليأخذوا من كل نوع منها بنصيب؛ ولئلا يملوا من النوع الواحد فيتركوا العمل، فيشقى الواحد منهم ويخيب، وجعل منها فرائض لا يجوز النقص فيها ولا الإخلال، ومنها نوافل يحصل بها زيادة التقرب إلى الله والإكمال.
ومن تلك القربات صلاة التراويح، هذه السُّنَّة التي شُرع أداؤها في شهر رمضان، حيث تحيا المساجد بعُمَّارها في لياليه المباركة، وهي نافلة يجوز إيقاعها بالمسجد، لكن اختلف العلماء – رحمهم الله تعالى – في التراويح هل الأفضل أن تصلى في المسجد أو في البيت؟
في هذه المسألة ثلاثة أقوال:-
القول الأول: أن صلاة التراويح جماعة بالمسجد سنة مؤكدة، وهذا قول الأحناف والشافعية، والرواية الصحيحة عن الإمام أحمد، ويرى ابن عبد البر من المالكية أنها سنة على الكفاية.
القول الثاني: أن صلاة التراويح بالمسجد غير مسنونة، بل الانفراد فيها أفضل، قال بهذا مالك، والشافعي – في رواية عنه -، قال في حاشية الدسوقي1: “وندب فعلها في البيوت مشروط بثلاثة شروط: ألا تعطل المساجد، وأن ينشط بفعلها في بيته، وأن يكون غير آفاقيّ بالحرمين2، فإن تخلف شرط منها كان فعلها في المسجد أفضل”.
القول الثالث: أن صلاة التراويح يجب فعلها في المسجد وجوباً على الكفاية، فإذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وحكى ابن عبد البر هذا القول عن الليث بن سعد وأبي جعفر الطحاوي، ويرى الليث وجوب إخراج الناس من بيوتهم لأدائها في المسجد لو أطبقوا على تركها.
وقد استدل الفريق الأول بما يلي:-
1- عن النعمان بن بشير قال: «قُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ لَا نُدْرِكَ الْفَلَاحَ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ السُّحُورَ»3.
الشاهد: “قمنا معه”: أي صلينا معه، ووجه الدلالة: أنهم صلوا مع النبي ﷺ ثلاث ليال من شهر رمضان في المسجد؛ إذ هي حالهم – غالباً -، ولو كان في مكان غير المسجد لذكره.
2- عن عائشة – رضي الله عنها – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ، فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَطَفِقَ رِجَالٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: “الصَّلَاةَ” فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الْفَجْر، فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ تَشَهَّدَ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمْ اللَّيْلَةَ، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ، فَتَعْجِزُوا عَنْهَا4.
الشاهد: خشيت أن تفترض عليكم ووجه الدلالة: أن النبي ﷺ صلاها بالمسجد ثلاث مرات، ثم خشي أن تفترض على الأمة فتركها لهذه الخشية؛ ولأنه ﷺ رحيم بأمته، وهذا يدل على آكدية سنيتها في المسجد؛ لأن رسول الله ﷺ إنما تركها خشية أن تفترض على أمته، قال ابن تيمية – رحمه الله -: “وقد أمن ذلك بموته ﷺ“5.
3- عن أبي هريرة قال: “خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَإِذَا أُنَاسٌ فِي رَمَضَانَ يُصَلُّونَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَا هَؤُلَاءِ فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ لَيْسَ مَعَهُمْ قُرْآنٌ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يُصَلِّي وَهُمْ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِه، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : أَصَابُوا وَنِعْمَ مَا صَنَعُوا6.
الشاهد: قوله: أَصَابُوا وَنِعْمَ مَا صَنَعُوا، ووجه الدلالة: أنه ﷺ أقرَّ صلاة هؤلاء الصحابة وسُرَّ بها؛ مما دل على أنها سنة مؤكدة.
واستدل الفريق الثاني بما يلي:
1- عن زيد بن ثابت قال: “احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حُجَيْرَةً مُخَصَّفَةً أَوْ حَصِيراً، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي فِيهَا، فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ، وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا، وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْهُمْ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، وَحَصَبُوا الْبَابَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَباً فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وفي رواية: وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ7.
الشاهد: قوله: أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ووجه الدلالة: أنه ﷺ أطلق الأفضلية على جميع الصلوات في البيت، واستثنى المكتوبة فقط؛ مما يدل على أن فعل التراويح في البيت أفضل.
2- لأن فعل التراويح بالبيت قد فعله طائفة من علماء السلف كما نقل ذلك ابن عبد البر: عن ابن عمر، وسالم، وإبراهيم، ونافع أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس”.
وعن ابن أبي شيبة أن السائب بن يزيد، وحذيفة وإبراهيم النخعي، وسويد بن غفلة لا يتنفلون بالمساجد، فالتراويح نافلة، وهؤلاء لا يتركون المسنونات دائماً، مما دل على أنهم يرون فعلها في البيوت أفضل من المسجد. واستدل الفريق الثالث: بأن عمر جمع الناس على أبي بن كعب في محضر من الصحابة، ولم يظهر له مخالف؛ فصار إجماعاً؛ ولأنها من شعائر المسلمين في رمضان، وعلى أدائها بالمسجد عمل صالح سلف المؤمنين منذ عهد عمر إلى الآن بحمد الله – تعالى -.
المناقشة:
بتمعن الأدلة نجد أن رسول الله ﷺ ترك التراويح في المسجد خشية أن تفرض على الأمة، وحديث أبي داود حديث حسن تشهد له الأدلة الصحيحة. والذي يظهر – والله أعلم -: أن القول الصحيح هو أن أداء التراويح في البيوت أفضل، ولكن في زمننا هذا الناس يتكاسلون عن الفرائض، فكيف بالنوافل؟! ولهذا فإن أداءها في المساجد – في هذا الزمان خاصة – خير للناس؛ لما فيها من المصالح في اجتماع الناس، وحديث الإمام إليهم، ومتابعة الجاهل للمتعلم، وتزودهم بالعلم النافع.
وإذا كانت الصلاة مع إمام حسن الصوت، جيد التلاوة، ينشط السامع إذا صلى وراءه، وسمع تلاوته، وكان ذلك سبباً لجلب الناس إلى المسجد، وتعاونهم على الخير؛ فإن أداءها في هذا المسجد له منافع عظيمة، وأداؤها في البيت لمن يصلي بأهله ويناصحهم أفضل، وأشد تأثيراً في بناء الأسرة، وتوعيتهم بأمور دينهم، والسير بهم على صراط مستقيم، وبالله التوفيق8.
1 صاحب كتاب حاشية الدسوقي هو (مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ الدُّسُوقِيُّ الْمَالِكِيُّ).
2 الآفاقي: نسبة إلى الافاق جمع أفق (والأفق ما يظهر من أطراف الأرض) من كان خارج المواقيت المكانية للحرم ولو كان من أهل مكة، انظر: معجم لغة الفقهاء لـ(محمد قلعجي (1 /36).
3 رواه النسائي 1588 (ج6 / ص74) صححه الألباني في صحيح سنن النسائي برقم (1606).
4 رواه مسلم 1271 (4/ 149).
5 مجموع فتاوى ابن تيمية (4 /462).
6 رواه أبو داود 1169(4 /140) والحديث ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود برقم (1377).
7 رواه البخاري 5648 (19 /70) ومسلم 1301 (4 /183).
8 المراجع:
1- أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية لـ( إبراهيم بن صالح الخضيري (1 /168).
2- مجالس شهر رمضان لابن عثيمين – رحمه الله – (ج1 / ص27).