الْهَدْي

الْهَــدْي

الْهَــدْي

الحمد لله الذي شرع لعباده التقرب إليه بذبح القربان, وقرن النحر بالصلاة في محكم القرآن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والامتنان.

وأشهد أن محمداً عبده وسوله أفضل من قام بشرائع الإسلام وحقق الإيمان, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً… أما بعد:

يقول الله تبارك وتعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ* الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (34-37) سورة الحـج.

من خلال هذه الآيات الكريمات, واستشعاراً لمنطوق ومفهوم كلام الله تعالى حول الهدي, نقف مع شيء من أحكام الهدي, ذلكم النسك العظيم الذي يؤديه حجاج بيت الله الحرام متقربين به إلى الله بامثال أمره الذي ينبغي أن يكون أداؤه عن علم وبصيرة, مؤسسين قاعدة أدائهم لهذا النسك وغيره من الطاعات بالإخلاص لله -جل وعلا- فنقول وبالله التوفيق:

الهــدي:

هو ما يهدى من النعم إلى الحرم تقرباً إلى الله -عز وجل.

قال عمر -رضي الله عنه-: "يا أيها الناس, حجُّوا واهدوا فان الله يحب الهدي"1, وأهدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مائة من الإبل، وكان هديه تطوعاًَ.

الأفضل فيه:

أجمع العلماء على أن الهدي لا يكون إلا من النعم، واتفقوا على أن الأفضل الإبل، ثم البقر، ثم الغنم على هذا الترتيب؛ لأن الإبل أنفع للفقراء لعظمها, والبقر أنفع من الشاة كذلك.

واختلفوا في الأفضل للشخص الواحد: هل يهدي سُبْعَ بدنة، أو سُبْعَ بقرة أو يهدي شـاة؟ والظاهر أن الاعتبار بما هو أنفع للفقراء, والله أعلم.

أقل ما يجزئ في الهدي:

للمرء أن يهدي للحرم ما يشاء من النعم, وقد أهدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مائة من الإبل, وكان هديه هدي تطوع.

وأقل ما يجزئ عن الواحد شاة، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة؛ فإن البقرة أو البدنة تجزئ عن سبعة.

فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ –رضي الله عنهما- قَالَ: "حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَحَرْنَا الْبَعِيرَ عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ"2. ولا يشترط في الشركاء أن يكونوا جميعاً ممن يريدون القربة إلى الله تعالى, بل لو أراد بعضهم التقرب، وأراد البعض اللحم جاز, خلافاً للأحناف الذين يشترطون التقرب إلى الله من جميع الشركاء.

أقسام الهدي:

ينقسم الهدي إلى مستحب، وواجب, فالهدي المستحب: للحاج المفرد، والمعتمر المفرد.

والهدي الواجب: أقسامه كالآتي:

1- الحاج القارن.

2- الحاج المتمتع.

3 – واجب على من ترك واجباً من واجبات الحج، كرمي الجمار والإحرام من الميقات, والجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، والمبيت بالمزدلفة، أو منى، أو ترك طواف الوداع.

4 – واجب على من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام -غير الوطء- كالتطيب والحلق.

5 – واجب بالجناية على الحرم، كالتعرض لصيده، أو قطع شجره.

شروط الهدي:

يشترط في الهدي الشروط الآتية:

1- أن يكون ثنياً، إذا كان من غير الضأن، أما الضأن فإنه يجزئ منه الجذع فما فوقه, وهو ما له ستة أشهر، وكان سميناً. والثني من الإبل ماله خمس سنين، ومن البقر ما له سنتان، ومن المعز ما له سنة تامة، فهذه يجزئ منها الثني فما فوقه.

2- أن يكون سليماً، فلا تجزئ فيه العوراء ولا العرجاء ولا الجرباء، ولا العجفاء.

وعن الحسن أنهم قالوا: إذا اشترى الرجل البدنة، أو الأضحية وهي وافية، فأصابها عور، أو عرج، أو عجف قبل يوم النحر فليذبحها وقد أجزأته (رواه سعيد بن منصور).

إشعار الهدي وتقليده:

الإشعار: هو أن يشق أحد جنبي سنام البدنة أو البقرة، إن كان لها سنام حتى يسيل دمها ويجعل ذلك علامة لكونها هدياً فلا يتعرض لها.

والتقليد: هو أن يجعل في عنق الهدي قطعة جلد ونحوها ليعرف بها أنه هدي.

وقد أهدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غنماً وقلدها، وقد بعث بها مع أبي بكر -رضي الله عنه- عندما حج سنة تسع. وثبت عنه: أنه -صلى الله عليه وسلم- قلد الهدي، وأشعره وأحرم بالعمرة وقت الحديبية. وقد استحب الإشعار عامة العلماء، ما عدا أبا حنيفة.

الحكمة في الإشعار والتقليد:

والحكمة فيهما تعظيم شعائر الله، وإظهارها، وإعلام الناس بأنها قرابين تساق إلى بيته، تذبح له ويتقرب بها إليه.

ركوب الهدى:

يجوز ركوب البدن، والانتفاع بها؛ لقول الله تعالى: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) سورة الحـج. قال الضحاك، وعطاء: "المنافع فيها الركوب عليها إذا احتاج، وفي أوبارها وألبانها. والأجل المسمى: أن تقلد فتصير هدياً. ومحلها إلى البيت العتيق، قالا: يوم النحر ينحر بمنى"3. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: (ارْكَبْهَا) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّهَا بَدَنَةٌ! قَالَ: (ارْكَبْهَا وَيْلَكَ) فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ4. وهذا مذهب أحمد، وإسحاق، ومشهور مذهب مالك. وقال الشافعي: يركبها إذا اضطر إليها.

وقت الذبح:

اختلف العلماء في وقت ذبح الهدي, فعند الشافعي: أن وقت ذبحه يوم النحر، وأيام التشريق؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ)5. فإن فات وقته، ذبَح الهدي الواجب قضاء. وعند مالك وأحمد، وقت ذبح الهدي -سواء أكان ذبح الهدي واجباً، أم تطوعاً- أيام النحر, وهذا رأي الأحناف بالنسبة لهدي التمتع والقران, وأما دم النذر والكفارات والتطوع فيذبح في أي وقت. وحُكِيَ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، والنخعي: أن وقتها من يوم النحر، إلى آخر ذي الحجة.

مكان الذبح:

الهدي سواء أكان واجباً أم تطوعاً لا يذبح إلا في الحرم, وللمهدي أن يذبح في أي موضع منه.

والسنة النحر بمنى؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-نحر بها، وحيث نحر من الحرم أجزأه؛ لحديث جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ)6.

والأَوْلى بالنسبة للحاج، أن يذبح بمنى، وبالنسبة للمعتمر أن يذبح عند المروة؛ لأنها موضع تحلل كل منهما.

استحباب نحر الإبل وذبح غيرها:

يستحب أن تنحر7 الإبل وهي قائمة، معقولة اليد اليسرى وذلك للأحاديث الآتية:

1- عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا, قَالَ: "ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً؛ سُنَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"8.

2- وعن جابر -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا"9.

3- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ (36) سورة الحـج. أي قياماً على ثلاث10.

أما البقر والغنم، فيستحب ذبحها مضطجعة, فإن ذبح ما ينحر، ونحر ما يذبح، قيل: يكره، وقيل: لا يكره, ويستحب أن يذبحها بنفسه، إن كان يحسن الذبح، وإلا فيندب له أن يشهده.

وإذا نحر الهدي، فرَّقه على المساكين من أهل الحرم، وهو من كان في الحرم, فإن أطلقها لهم جاز، كما روى أنس –رضي الله عنه- قال: "قُرِّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَمْسُ بَدَنَاتٍ أَوْ سِتٌّ يَنْحَرُهُنَّ, فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ أَيَّتُهُنَّ يَبْدَأُ بِهَا, فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا قَالَ كَلِمَةً خَفِيَّةً لَمْ أَفْهَمْهَا, فَسَأَلْتُ بَعْضَ مَنْ يَلِينِي مَا قَالَ, قَالُوا: قَالَ: (مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ)11.

فقوله: (مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ): أي أخذ قطعة منها, قال الخطابي: فيه دليل على جواز هبة المشاع12. وإن قسمها فهو أحسن وأفضل, لأنه بقسمها يكون على يقين من إيصالها إلى مستحقها، ويكفي المساكين مؤنة النهب والزحام عليها.

ولا يعطي الجازر بأجرته شيئاً منها؛ لما روي عن علي -رضي الله عنه- قال: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا قَالَ: (نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا)"13.

ففي الحديث ما يدل على أنه يجوز أنه ينيب عنه من يقوم بذبح هديه، وتقسيم لحمه، وجلده وجلاله, وأنه لا يجوز أن يعطى الجزار منه شيئاً، على معنى الأجرة، ولكن يعطى أجرة عمله، بدليل قوله: (نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا).

وإنما لم يعط الجازر بأجرته منها؛ لأنه ذبحها فعوضه عليه دون المساكين، ولأن دفع جزء منها عوضاً عن الجزارة كبيعه، ولا يجوز بيع شيء منها، وإن كان الجازر فقيراً، فأعطاه لفقره سوى ما يعطيه أجره جاز؛ لأنه مستحق الأخذ منها لفقره لا لأجره، فجاز كغيره.

ويقسم جلودها وجلالها، كما جاء في الخبر؛ لأنه ساقها لله على تلك الصفة؛ فلا يأخذ شيئاً مما جعله لله.

الأكل من لحوم الهدي:

أمر الله بالأكل من لحوم الهدي فقال: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (27) سورة الحـج.

وهذا الأمر يتناول -بظاهره- هدي الواجب، وهدي التطوع.

وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك:

فذهب أبو حنيفة وأحمد: إلى جواز الأكل من هدي المتعة، وهدي القران، وهدي التطوع، ولا يأكل مما سواها.

وقال مالك: يأكل من الهدي الذي ساقه لفساد حجه، ولفوات الحج, ومن هدي المتمتع، ومن الهدي كله، إلا فدية الأذى، وجزاء الصيد, وما نذره للمساكين، وهدي التطوع؛ إذا عطب قبل محله.

وعند الشافعي: لا يجوز الأكل من الهدي الواجب مثل الدم الواجب، في جزاء الصيد، وإفساد الحج وهدي التمتع والقران، وكذلك ما كان نذراً أوجبه على نفسه.

أما ما كان تطوعاً، فله أن يأكل منه ويهدي ويتصدق.

مقدار ما يأكله من الهدي:

للمهدي أن يأكل من هديه الذي يباح له الأكل منه أي مقدار يشاء أن يأكله، بلا تحديد، وله كذلك أن يهدي أو يتصدق بما يراه, وقيل: يأكل النصف، ويتصدق بالنصف.

وقيل: يقسمه أثلاثاً، فيأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث.

والله أعلم, وصلى الله وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه, وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين في الأولى والآخرة14.


 


1 مصنف عبد الرزاق -8164- (4/387) كنز العمال -12706- (5/229) للمتقي الهندي.

2 رواه مسلم -2324- (6/475).

3 الدر المنثور لـ(عبد الرحمن بن أبي بكر وجلال الدين السيوطي)- (7/150) وتفسير ابن أبي حاتم – (9/379).

4 رواه البخاري -2550- (9/294) ومسلم -2343- (6/497).

5 رواه أحمد -16151- (34/107) وصححه الألباني برقم-4537- في صحيح الجامع.

6 رواه أبو داود -1653- (5/291) وصححه الألباني -2324- سنن أبي داود – (5/324).

7 النحر يختلف عن الذبح بأن النحر يكون بطعن الإبل في العرق الكبير في الرقبة حتى يخرج الدم فيموت، والذبح قطع رقبة البقرة أو الشاة ويشترط في ذلك قطع الودجين والمريء أو الحلقوم.

8 رواه البخاري -1598- (6/188) ومسلم -2330- (6/482).

9 رواه أبو داود -1504- (5/97) وصححه الألباني-1767- سنن أبي داود – (4/267).

10 تفسير الطبري – (18/632).

11 رواه أبو داود -1502- (5/94) وأحمد -18292- (39/83) وصححه الألباني مختصر إرواء الغليل -1958- (1/388).

12 عون المعبود  (4/165).

13 رواه مسلم -2320- (6/470).

14 استفيد الموضوع بتصرف من المراجع الآتية:

فقه السنة لـ(سيد سابق), والمغني لـ(ابن قدامة), وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.