مشروعية الصيام
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسوله الصادق الأمين وعلى آله وأصحابه الغر الميامين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله -سبحانه وتعالى- كتب الصيام على جميع الأمم وفرضه عليهم كما بين ذلك في كتابه فقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة: 183، ولولا أنه عبادة عظيمة لا غنى للخلق عن التعبد بها لله وعما يترتب عليها من ثوابٍ ما فرضه الله على جميع الأمم.
وهو فرض واجب، والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(183) سورة البقرة، إلى قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}(185) سورة البقرة.
وأما السنة فما روى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)1، وغير ذلك من الأحاديث، وقد أجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان، فمن أنكر وجوبه فقد كفر, فَيُسْتَتَاب فإن تاب وأقر بوجوبه وإلا قُتِلَ كافراً مُرْتَدًّا عن الإسلام، لا يُغَسَّل ولا يُكفَّن ولا يُصلَّى عليه ولا يُدْعَى له بالرحمة، ويدفَن لئلا يؤذي الناس برائحته ويتأذى أهله بمشاهدته. هذا هو حكم الله سبحانه في منكر فرضية الصوم، ولو كره ذلك الحكم كثير من منافقي زماننا، ممن يدعون إلى حريات الاعتقاد وحرية الأديان، وإلغاء عقوبة المرتد، فإرضاء رب العالمين هو الذي نسعى إليه ولو غضب من غضب.
من يجب عليه الصوم:
وصوم رمضان فريضة واجبة على كل مسلم، بالغ، عاقل، مقيم، قادر، سالم من الموانع.
من لا يجب عليه الصوم:
لا يجب الصوم على الصبي حتى يبلغ ولا على المجنون لما ورد عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ(2. لكن بالنسبة للصغير فإن وليه يأمره بالصيام إذا أطاقه تمرينا له على الطاعة ليألفها بعد بلوغه؛ اقتداءً بالسلف الصالح -رضي الله عنهم- , فقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يُصَوِّمُون أولادهم وهم صغار ، ويذهبون إلى المسجد فيجعلون لهم اللعبة من العِهْن (يعني الصوف أو نحوه) فإذا بكوا من فقد الطعام أعطوهم اللعبة يَتَلَهَّوْنَ بها.
والمجنون إن كان يجن أحياناً ويفيق أحيانا يجب عليه الصوم أثناء إفاقته.
ومن عجز عن الصوم عجزًا مستمراً لا يرجى زواله كالكبير، والمريض مرضاً لا يرجى برؤه كصاحب السرطان ونحوه, فلا يجب عليه الصيام؛ لأنه لا يستطيعه، وقد قال الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (16): التغابن، وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (286): البقرة، لكن يجب عليه أن يطعم بدل الصيام عن كل يوم مسكيناً؛ لأن الله سبحانه جعل الإطعام معادلاً للصيام حين كان التخيير بينهما أول ما فُرِضَ الصيام, فتعين أن يكون بدلاً عن الصيام عند العجز عنه؛ لأنه معادل له.
قال الإمام البخاري3: وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس -بعد ما كبر عاماً أو عامين- كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر.
وبهذا يستدل على كل من كان الصوم يجهده ويشق عليه مشقة شديدة بأنه يفطر ويطعم لكل يوم مسكيناً، ويدخل في هذا المريض مرضاً يمنعه من الصوم، ولا يرجى برؤه.
عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}(184) سورة البقرة.
قال ابن عباس: ليست منسوخة، هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينً4.
التدرج في التشريع:
فرض الصوم على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: صيام أيام معدودات، وهذا قال به بعض الصحابة والتابعين؛ فهماً لمعنى قوله: تعالى:{أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} أنه صومُ ثلاثة أيام من كل شهر وكان ذلك الذي فُرض على الناس من الصيام قبل أن يُفرض عليهم شهرُ رمضان.
لكن الطبري رحمه الله أنكر هذا القول وقال أنه لم يفرض على المسلمين غير رمضان، وألزم من قال بغير ذلك بالدليل، حيث قال:
"وأولى ذلك بالصواب عندي قول من قال: عنى الله جل ثناؤه بقوله: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} أيام شهر رمضان، وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوماً فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان ثم نسخ بصوم شهر رمضان، وأن الله تعالى قد بين في سياق الآية أن الصيام الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات بإبانته عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومها بقوله: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} فمن ادعى أن صوماً كان قد لزم المسلمين فرضه غير صوم شهر رمضان الذي هم مجمعون على وجوب فرض صومه -ثم نسخ ذلك- سُئل البرهان على ذلك من خبر تقوم به حجة إذ كان لا يعلم ذلك إلا بخبر يقطع العذر، وإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا للذي بينا فتأويل الآية: كتب عليكم أيها المؤمنون الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياماً معدودات هي شهر رمضان، وجائز أيضا أن يكون معناه: {كتب عليكم الصيام} كتب عليكم شهر رمضان، وأما المعدودات فهي التي تعد مبالغها وساعات أوقاتها"5
المرحلة الثانية: التخيير بين الصيام والإطعام مع تفضيل الصيام عليه، كما قال تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (184) سورة البقرة، فالمريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر؛ لما في ذلك من المشقة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعد ذلك من أيام أخر.
وأما الصحيح المقيم الذي يُطيق الصيام، فقد كان مخيَّرًا بين الصيام وبين الإطعام، إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير، وإن صام فهو أفضل من الإطعام.
المرحلة الثالثة: تعيين الصيام بدون تخيير وذلك لما نزل قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أثبت اللهُ صيامَه على المقيم الصحيح، ورخَّصَ فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعامُ للكبير الذي لا يستطيع الصيام6.
والحكمة من هذا التدرج هو أن يتلقى المسلمون الأمر الشرعي بالقبول والتسليم، ولكون الأمر قد يكون فيه شيء من المشقة، درج لهم الأمر وهون عليهم شأنه بذكر من قبلهم، وذكر لهم رخصه.
اللهم وَفِّقْنَا لاتباع الهدى، وجنِّبْنا أسباب الهلاك والشقاء، واجعل شهرنا هذا شهر خير وبركة، وأعنا فيه على طاعتك، وجنِّبْنا طرق معصيتك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
1 صحيح البخاري: (7) ومسلم: (21).
2 رواه أبو داود: (3825)، وصححه الألباني.
3 صحيح البخاري: (13/443).
4 تفسير ابن كثير: (1/500).
5 تفسير الطبري (2/ 136).
6 انظر في هذا الموضوع: تفسير ابن كثير: (1/498)، تفسير الطبري: (3/414)، والمغني لابن قدامة: (6/30)، والمبسوط للسرخسي: (4/7)، بداية المجتهد لابن رشد المالكي: (1/227)، المجموع للنووي: (3/3،4)، (6/249،250،252). مجالس شهر رمضان لابن عثيمين: (1/21، 22، 31، 48، 53) والمناهل الحسان في دروس رمضان لعبد العزيز المحمد السلمان: (58-65).