صلاة الجماعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن من أعظم شعائر الإسلام صلاة الجماعة في المساجد، فقد شرع الله لهذه الأمة الاجتماع في بيوته في أوقات معلومة لأداء هذه الشعيرة، فالمسلمون يجتمعون في اليوم والليلة خمس مرات لأداء هذه الصلاة، وقد اتفق المسلمون على أن أداء الصلوات الخمس في المساجد من أوكد الطاعات، وأعظم القربات، بل هي من أعظم وأظهر شعائر الإسلام(1).
مشروعية صلاة الجماعة:
الجماعة مشروعة بالكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله -تعالى-: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ.. (النساء: 102) الآية، أمر الله بالجماعة في حالة الخوف أثناء الجهاد، ففي الأمن أولى، ولو لم تكن مطلوبة لرخَّص فيها حالة الخوف، ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها.
وأمَّا السُّنَّةُ: فقوله ﷺ: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة(2).
وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة على مشروعيتها بعد الهجرة(3). فضلها:
وردت أحاديث كثيرة تدل على فضيلة الصلاة في جماعة، ومن تلك الأحاديث ما يلي:
– عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله ﷺ قال: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة متفق عليه.
– وعن أبي هريرة قال رسول الله ﷺ : صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة؛ لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة(4).
– وعن بُريدة الأسلميِّ عن النبيِّ ﷺ قال: بشِّر المشَّائين في الظُّلم إلى المساجدِ بالنُّورِ التام يومَ القيامةِ(5).
حِكْمتُها:
من حِكَمِ صلاة الجماعة أنها تحقق التآلف والتعارف بين المسلمين، وتغرس أصول المحبة والود في قلوبهم، وتشعرهم بأنهم إخوة متساوون متضامنون في السراء والضراء، دون فارق بينهم في الدرجة، أو الرتبة، أو الحرفة، أو الثروة والجاه، أو الغنى والفقر(6).
وفيها تعليم للجاهل، ومضاعفة الأجر، والنشاط على العمل الصالح عندما يشاهد المسلم إخوانه المسلمين يزاولون الأعمال الصالحة، فيقتدي بهم(7).
حكم صلاة الجماعة:
ذهب الحنفية والمالكية إلى أن: الجماعة في الفرائض غير الجمعة سنة مؤكدة، للرجال العاقلين القادرين عليها من غير حرج، فلا تجب على النساء، والصبيان، والمجانين، والعبيد، والمقعد، والمريض، والشيخ الهرم، ومقطوع اليد والرجل من خلاف، وكونها سنة لأن ظاهر الحديث السابق: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة يدل على أن الصلاة في الجماعات من جنس المندوب إليه، وكأنها كمال زائد على الصلاة الواجبة.
وذهب الشافعية إلى أن: الجماعة فرض كفاية، للرجال أحرار مقيمين، لا عراة، في أداء مكتوبة، بحيث يظهر الشعار (أي شعار الجماعة) بإقامتها في كل بلد صغير أو كبير، فإن امتنعوا كلُّهم من إقامتها قوتلوا (أي قاتلهم الإمام أو نائبه دون آحاد الناس)، ولا يتأكد الندب للنساء تأكده للرجال في الأصح.
وذهب الحنابلة إلى أن: الجماعة واجبة وجوبَ عينٍ؛ لقوله -تعالى-: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة… وقوله: واركعوا مع الراكعين وقوله ﷺ قال: والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب ليحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرِّق عليهم بيوتهم(8)، وحديث الأعمى المشهور فعن أبي هريرة قال: أتى النبي ﷺ رجل أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجدِ فسأل رسول الله ﷺ أنْ يُرخِّصَ له فيُصلِّي في بيته، فرخَّص له، فلمَّا ولَّى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ فقال: نعم،قال: فأجب (9).
أقل الجماعة أو من تنعقد به الجماعة:
تنعقد الجماعة باثنين قال الشوكاني – رحمه الله -: وأما انعقاد الجماعة باثنين فليس في ذلك خلاف، وقد ثبت في الصحيح(10) من حديث ابن عباس: أنه صلى في الليل مع النبي ﷺ وحده، وقعد عن يساره فأداره إلى يمينه)(11).
كثرة الثواب كلما كثرت الجماعة:
فعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ: صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله – تعالى –(12).
حضور النساء إلى المساجد، وفضل صلاتهن في بيوتهن:
يجوز للنساء الخروج إلى المساجد وشهود الجماعة، بشرط أن يتجنبن ما يثير الشهوة، ويدعو إلى الفتنة من الزينة والطيب فعن ابن عمر أن النبي ﷺ قال: لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنوكم (13)، وعنه قال قال رسول الله ﷺ : لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن(14).
وعن أم حميد الساعدية أنها جاءت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، قال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي، قال: فأمرت فبُني لها مسجدٌ في أقصى شيء من بيتِها وأظلمه، وكانت تُصلِّي فيه حتى لقيت الله – جلَّ وعَلَا –(15).
وقد كره العلماءُ الحضورَ إلى المساجدِ للشابة خوفاً من الفتنة(16).
إدراك الإمام:
من أدرك الإمام كبر تكبيرة الإحرام قائماً ودخل معه على الحالة التي هو عليها، ولا يعتد بركعة حتى يدرك ركوعها سواء أدرك الركوع بتمامه مع الإمام، أو انحنى فوصلت يداه إلى ركبتيه قبل رفع الإمام؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول اللهﷺ قال: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة(17)، وعنه قال:قال رسول الله ﷺ: إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة (18).
المشي للجماعة:
يستحب لمن قصد الجماعة أن يمشي إليها، وعليه السكينة والوقار لقوله ﷺ : إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا(19).
تكرار الجماعة في المسجد:
ذهب الحنفية إلى أنه: يكره تكرار الجماعة بأذان وإقامة في المسجد، إلا إذا كان مسجد طريق، أو مسجداً لا إمام له، ولا مؤذن، ويصلي الناس فيه فوجاً فوجاً.
أما مسجد الشارع فالناس فيه سواء، لا اختصاص له بفريق دون فريق، وعلى هذا لا يكره تكرار الجماعة في مساجد الطرق: وهي ما ليس لها إمام وجماعة معينون.
وذهب المالكية إلى أنه: يُكره تكرار الجماعة في مسجد له إمام راتب، وكذلك يكره إقامة الجماعة قبل الإمام الراتب، ويحرم إقامة جماعة الإمام الراتب، والقاعدة عندهم: أنه متى أقيمت الصلاة مع الإمام الراتب فلا يجوز إقامة صلاة أخرى فرضاً أو نفلاً، لا جماعة ولا فرادى، ومن صلى جماعة مع الإمام الراتب وجب عليه الخروج من المسجد لئلا يؤدي إلى الطعن في الإمام. وإذا دخل جماعة مسجداً فوجدوا الإمام الراتب قد صلى ندب لهم الخروج ليصلوا جماعة خارج المسجد، إلا المساجد الثلاثة (المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى)، فيصلون فيها فرادى إن دخلوها، لأن الصلاة المنفردة فيها أفضل من جماعة غيرها.
وذهب الشافعية إلى أنه: يكره إقامة الجماعة في مسجد بغير إذن الإمام الراتب، ولا يكره تكرار الجماعة في المسجد المطروق في ممر الناس، أو في السوق، أو فيما ليس له إمام راتب، أو له وضاق المسجد عن الجميع، أو خيف خروج الوقت، لأنه لا يحمل التكرار على المكيدة.
وذهب الحنابلة إلى أنه: يحرم إقامة جماعة في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه، لأنه بمنزل صاحب البيت، وهو أحق بها، ولأنه يؤدي إلى التنفير عنه، وكذلك يحرم إقامة جماعة أخرى أثناء صلاة الإمام الراتب، ولا تصح الصلاة في كلتا الحالتين.
وعلى هذا فلا يحرم ولا تكره الجماعة بإذن الإمام الراتب، لأنه مع الإذن يكون المأذون نائباً عن الراتب، ولا تحرم ولا تكره أيضاً إذا تأخر الإمام الراتب لعذر، أو ظُن عدم حضوره، أو ظن حضوره ولم يكن يكره أن يصلي غيره في حال غيبته، ولا يكره تكرار الجماعة بإمامة غير الراتب بعد انتهاء الإمام الراتب إلا في مسجدي مكة والمدينة فقط فإنه تكره إعادة الجماعة فيهما، رغبة في توفير الجماعة أي لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الراتب في المسجدين إذا أمكنهم الصلاة في جماعة أخرى، وذلك إلا لعذر كنوم ونحوه عن الجماعة، فلا يكره لمن فاتته إعادتها بالمسجدين(20).
أعذار ترك الجماعة:
يعذر المرء بترك الجماعة، فلا تجب عليه للأسباب الآتية:
- المرض الذي يشق معه الحضور: كمشقة المطر، وإن لم يبلغ حداً يسقط القيام في الفرض، بخلاف المرض الخفيف كصداع يسير، وحمَّى خفيفة فليس بعذر، ومثله تمريض من لا متعهد له ولو غير قريب ونحوه؛ لأن دفع الضرر عن الآدمي من المهمات.
فلا تجب الجماعة على مريض، ومقعد، وزَمِن، ومقطوع يد ورجل من خلاف أو رجل فقط، ومفلوج وشيخ كبير عاجز.
- أن يخاف ضرراً في نفسه أو ماله أو عرضه أو مرضاً يشق معه الذهاب:
فلا تجب الجماعة بسبب خوف ظالم، وحبس مُعسِر، أو ملازمة غريم معسر، وعُرْي، وخوف عقوبة يرجى تركها كتعزير لله – تعالى – أو لآدمي، وقَوَد (قصاص)، وحد قذف مما يقبل العفو إن تغيب أياماً، وخوف زيادة المرض أو تباطئه.
ولا تجب الجماعة بسبب الخوف عن الانقطاع عن الرفقة في السفر ولو سفر نزهة.
- المطر والوَحَل (الطين) والبرد الشديد، والحر ظهراً، والريح الشديدة: في الليل لا في النهار، والظلمة الشديدة؛ بدليل ما روى نافع أن ابن عمر – رضي الله عنه -، أنه نادى بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ومطر، فقال في آخر ندائه: ألا صلوا في رحالكم ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله ﷺ كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر في السفر أن يقول: ألا صلوا في رحالكم متفق عليه، والثلج والجليد كالمطر.
- مدافعة الأخبثين: (البول أو الغائط) أو أحدهما؛ لأن ذلك يمنعه من إكمال الصلاة وخشوعها.
- حضور طعام تتوقه نفسه: أو جوع وعطش شديدان لخبر أنس في الصحيحين: لا تعجلن حتى تفرغ منه.
- أكل منتن نيء إن لم يمكنه إزالته: ويكره حضور المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً ونحوه حتى يذهب ريحه لتأذي الملائكة بريحه، ولحديث: من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته متفق عليه، ومثله جزار له رائحة منتنة، ونحوه من كل ذي رائحة منتنة؛ لأن العلة الأذى، وكذا من به برص، أو جذام يتأذَّى به قياساً على أكل الثوم ونحوه بجامع الأذى.
- الحبس في مكان لقوله – تعالى -: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا (البقرة: 286)(21).
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، ويعيننا عليها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
1 – راجع: الملخص الفقهي (1/191).
2 – متفق عليه.
3 – راجع: الفقه الأسلامي (2/147).
4 – رواه البخاري.
5 – رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (525)، وصحيح ابن ماجه، رقم (633).
6 – الفقه الإسلامي (2/149).
7 – الملخص الفقهي (1/192).
8 – متفق عليه.
9 – رواه مسلم.
10 – متفق عليه.
11 – الدراري المضية شرح الدرر البهية (1/233).
12 – رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (518)، وصحيح الجامع (2242).
13 – رواه مسلم.
14 – رواه ابن خزيمة في صحيحه (3/92)، والحالكم وصححه، وأبو داود، وأحمد، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (530).
15 – رواه ابن حبان وابن خزيمه في صحيحهما، وأحمد، قال الألباني: “حسن لغيره” انظر صحيح الترغيب والترهيب (340).
16 – راجع: الفقه الإسلامي (2/153-155).
17 – متفق عليه.
18 – رواه أبو داود، وابن خزيمة، والحاكم، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (792).
19 – رواه البخاري ومسلم نحوه.
20 – راجع: الفقه الإسلامي (2/163-165).
21 – راجع: الفقه الإسلامي (2/169-171).