حكم الزواج

حُـكم الزواج

الحمد لله الذي جعل للناس من أنفسهم أزواجاً يسكنون إليها، وجعل بينهم مودة ورحمة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه وسلم، أما بعد:

فإن الزواج من أعظم نعم الله – تعالى – على الناس، وقد جعل ذلك من آياته فقال: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم:21)، وقال – تعالى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً … (النساء:1)، وقد حث عليه القرآن الكريم في آيات منها قوله – تعالى -: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (النور:32)، وقال – تعالى -: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (النساء:3).

ورغبت السنة في النكاح ترغيباً، بل أمر به النبي من استطاع مِن الشباب، فعن علقمة – رحمه الله – قال: كنت أمشي مع عبد الله بن مسعود بمنىً، فلقيه عثمان  فقام معه يحدثه، فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن ألا نزوجك جارية شابة لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك؟! فقال عبد الله: لئن قلت ذاك لقد قال لنا رسول الله : يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء1

والأحاديث والآثار في الترغيب في الزواج كثيرة .. وسيأتي ذكر شيء من ذلك قريباً – إن شاء الله -.

كلام العلماء في حكم الزواج2:

أولاً: يرى الأحناف أن الزواج فرض في حال التوقان إليه، مع خوف الوقوع في الزنا بحيث لا يمكنه التحرز إلا به، هذا ما لم يعارضه خوف الجور، مع ملك مؤن الزواج، فإن عارضه حصول جور، وعدم وجود النفقة؛ كره ذلك قال في شرح ابن عابدين: “ومقتضاه الكراهة عند عدم ملك المهر، والنفقة، لأنهما حق عبد، وإن خاف الزنا نُدِبَ له الاستدانة له، فإن الله ضامن في الأداء، فلا يخاف الفقر إذا كان في نيته التحصين والتعفف”.3

ومقتضى كلام الأحناف التأكيد على الوجوب عند تيقن الوقوع في الزنا، ولو لم يكن يملك مؤن الزواج، وإن غلب على ظنه عدم القدرة على الوفاء بالدين قالوا: “عند تيقن الزنا ينبغي الوجوب، وإن لم يغلب على ظنه قدرة الوفاء”4، هذا في حال التوقان، وملك المهر والنفقة، وأما في حال الاعتدال مع القدرة على المهر، والنفقة؛ فهو سنة مؤكدة.5

ثانياً: المالكية يرون وجوبه لمن تاقت نفسه إليه رجاء النسل، مع خشية الوقوع في الزنا، فقالوا: هو واجب إن خشي العنت، ويتعين عليه أن يتزوج في هذه الحالة، وهم يتفقون في هذه الحالة مع الأحناف، ولكنهم قالوا: يكره لمن لم يحتج إليه، ويخشى ألا يقوم بما وجب عليه من مؤونته من الصداق، والنفقة، والوطء، ويحرم عليه إن كان عاجزاً عن الوفاء بمؤنه جميعاً، أو بإحداها، وثبت عجزه عليها.6

ثالثاً: الشافعية: أما الشافعية فداروا بين الجواز والندب، ولم يقولوا بالوجوب، فهو مستحب عندهم إذا احتاج إليه الإنسان؛ بأن تاقت نفسه إلى الوطء، بشرط أن يجد مؤنته من مهر، ونفقة، وتحصيناً للدين، فإن فقد هذين الشرطين استحب تركه! مع كسر شهوته بالصوم للحديث المشهور: ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء أي دافع لشهوته، ويرون فيه الكراهة إن لم يحتج إليه مع فقد الأهبة من مؤن وغيره لما فيه من الالتزام الذي لا يقدر على الوفاء به، فإن وجد الأهبة، ولم تكن به علة مانعة؛ فلا يكره له ذلك، لكنهم مع ذلك رأوا أن العبادة أفضل، فإن لم يكن الإنسان متعبداً فالنكاح أفضل له من تركه؛ كيلا تفضي به البطالة إلى الفواحش7، وقد فصل الإمام النووي – رحمه الله – وجهة نظر أصحاب مذهبه فقال: “الناس ضربان: تائق إلى النكاح، وغير تائق، فالتائق إن وجد أهبة النكاح استحب له سواء كان مقبلاً على العبادة أم لا، وإن لم يجدها فالأولى أن لا يتزوج، ويكسر شهوته بالصوم، وأما غير التائق فإن لم يجد أهبة، أو كان به مرض، أو عجز، أو كبر؛كُرِهَ له النكاح؛ لما فيه من التزام ما لا يقدر على القيام به من غير حاجة، وإن وجد الأهبة، ولم يكن به علة؛ لم يُكرَه له النكاح، ولكن التخلي للعبادة أفضل، فإن لم يكن مشتغلاً بالعبادة؛ فالنكاح له أفضل كيلا تفضي به البطالة والفراغ إلى الفواحش”8.

وهذا الرأي الذي انفرد به الشافعية كان متابعة لما رجحه الإمام الشافعي – رحمه الله – من أن التخلي لعبادة الله – تعالى – أفضل؛ لأن الله – تعالى – مدح يحيى  بقوله: وَسَيِّداً وَحَصُوراً (آل عمران:39)، والحَصور: الذي لا يأتي النساء، فلو كان النكاح أفضل لما مدح بتركه، وقال – تعالى -: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ (آل عمران:14) وهذا في معرض الذم؛ ولأن الزاوج عقد معاوضة، فكان الاشتغال بالعبادة أفضل منه.9

رابعاً: الحنابلة يرون أن الزواج سنة النبي ، أمر به الله – تعالى -، ورسوله ، وحثا عليه، ويتمسكون بالأحاديث الحاثة عليه كحديث رسول الله : ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني10 ففي هذا الحديث حث على الزواج مؤكد، ووعيد لمن يشذ عن طريقة النبي فيه.

ومما استدلوا به حديث معقل بن يسار قال : جاء رجل إلى النبي فقال: “إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد؛ فأتزوجها؟ قال: لا، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم.11

وقال سعد بن أبي وقاص : “رد النبي  على عثمان بن مظعون  التبتُّل، ولو أحلَّه له لاختصينا12 والتَبتُّل: هو الانقطاع عن الزواج لأجل العبادة.

وعن أنس  قال: كان النبي يأمرنا بالباءة، وينهى عن التبتل نهياً شديداً، ويقول: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة13 قال ابن قدامة – بعد أن ذكر الأدلة السابقة -: “وهذا حث على النكاح شديد، ووعيد على تركة يقربه إلى الوجوب، والتخلي منه إلى التحريم، ولو كان التخلي أفضل لانعكس الأمر؛ ولأن النبي  تزوج، وبالغ في العدد، وفعل ذلك أصحابه، ولا يشتغل النبي وأصحابه إلا بالأفضل، ولا تجتمع الصحابة على ترك الأفضل، والاشتغال بالأدنى، ومن العجب أن من يفضل التخلي لم يفعله! فكيف اجتمعوا على النكاح في فعله، وخالفوه في فضله! فما كان فيهم من يتبع الأفضل عنده، ويعمل بالأدنى؛ ولأن مصالح النكاح أكثر، فإنه يشتمل على تحصين الدين وإحرازه، وتحصين المرأة وحفظها، والقيام بها، وإيجاد النسل، وتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة النبي  وغير ذلك من المصالح الراجح أحدها على نفل العبادة، فمجموعها أولى.

قال: وقد روينا في أخبار المتقدمين أن قوماً ذكروا لنبيٍّ لهم فضل عابد لهم، فقال: أما أنه لتارك لشيء من السنة، فبلغ العابد، فأتى النبيَّ فسأله عن ذلك فقال: إنك تركت التزويج! فقال: يا نبي الله وما هو إلا هذا، فلما رأى النبيُّ احتقاره لذلك قال: أرأيت لو ترك الناس كلهم التزويج من كان يقوم بالجهاد، وينفي العدو، ويقوم بفرائض الله وحدوده؟ وأما ما ذكر عن يحيى فهو شرعه، وشرعنا وارد بخلافه؛ فهو أولى، والبيع لا يشتمل على مصالح النكاح ولا يقاربها”.14

وأما من لا شهوة له فقد ذهب بعض الحنابلة إلى أن تركه النكاح، والاشتغال بالعبادة؛ أولى في حقه، ومنهم من استحبه جرياً على العموم قال ابن قدامة: “مَن لا شهوة له إما لأنه لم يخلق له شهوة كالعنين، أو كانت له شهوة فذهبت بكبر، أو مرض ونحوه؛ ففيه وجهان أحدهما: يستحب له النكاح لعموم ما ذكرنا، والثاني: التخلي له أفضل؛ لأنه لا يُحصِّل مصالح النكاح، ويمنع زوجته من التحصين بغيره، ويضر بها بحبسها على نفسه، ويعرض نفسه لواجبات وحقوق لعله لا يتمكن من القيام بها، ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة فيه، والأخبار تحمل على من له شهوة؛ لما فيها من القرائن الدالة عليها15، ومن ثم وجد بعض متأخري الشافعية يميلون إلى وجهة أصحاب هذا الرأي في النكاح، ذكر ذلك النووي.16

وظاهر كلام الإمام أحمد أنه لا فرق بين القادر على الإنفاق والعاجز عنه، وقال: ينبغي للرجل أن يتزوج، فإن كان عنده ما ينفق أنفق، وإن لم يكن عنده صبر، ولو تزوج بشَرٌ كان قد تم أمره، واحتج بأن النبي  كان يصبح وما عنده شيء، ويمسي وما عنده شيء، وإن النبي زوَّج رجلاً لم يقدر على خاتم حديد، ولا وجد إلا إزاره، ولم يكن له رداء! أخرجه البخاري، قال أحمد – في رجل قليل الكسب، يضعف قلبه عن العيال -: الله يرزقهم، التزويج أحصن له، ربما أتى عليه وقت لا يملك قلبه فيه، وهذا في حق من يمكنه التزويج، فأما من لا يمكنه فقد قال الله – تعالى -: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (النور:33).17

خامساً: الظاهرية لهم في النكاح قول واحد هو الوجوب على كل قادر على الوطء إن وجد أهبة الزواج، فإن عجز فليكثر من الصوم، وقد ذكر ابن حزم الأدلة على ما ذهبوا إليه، ومنها الحديث المتقدم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ….

ومما استدلوا به حديث نهي النبي  عن التبتل، وقد كان عمر شديد التحريض عليه حتى لفقراء الناس، وكان يعتقد أن الزواج فيه مفتاح الرزق فكان يقول: “ابتغوا الغنى في الباءة” أي الزواج، وكان إذا رأى رجلاً عزباً أنبه، ورماه بألفاظ تثير حفيظته ليسرع إلى الزواج، فقد رأى أبا الزوائد وقد تقدمت به السن فقال له: “ما يمنعك من النكاح إلا عجز، أو فجور”18

والخلاصة:

فالزواج ليس بفرض، إلا أن يخاف المسلم أن يقع في الفاحشة؛ فإنه يتعين حينئذ، وهو الذي عليه جمهور الفقهاء.

ولم يقل أحد من الفقهاء بأنه فرض عين على كل مسلم ومسلمة مطلقاً إلا داود الظاهري، وابن حزم، فإنهم يذهبون إلى أنه فرض عين على القادر على الوطء والإنفاق تمسكاً بقوله – تعالى -: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ (النساء:3).

ولنا في حديث يا معشر الشباب الأسوة الحسنة؛ ففيه البيان الشافي لفقه المسألة، حيث جاء فيه الحث على الزواج إذا كان قادراً عليه، وكذلك فيه إرشاد العاجز عن مؤن النكاح وتكاليفه إلى الصوم؛ وهو تعديل مؤقت للشهوة، وتأجيل للإقبال على الزواج؛ لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الطعام، تقوى بقوته، وتضعف بضعفه، والصوم – كما يقول ابن حجر -: “يسكن الشهوة ولا يقطعها؛ لأنه قد يقدر على النكاح بعد فيندم لفوت ذلك”.19

هذا والله أعلى وأعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.


1– رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

2– انظر كتاب الزواج وأحكامه في مذهب أهل السنة للدكتور: السيد أحمد فرج. من صفحة 13 إلى20 مع التصرف للحاجة.

3– حاشية ابن عابدين (2 /267).

4– المصدر السابق.

5– المصدر السابق.

6– جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (1 /274). وغيره.

7– المهذب للشيرازي (2 /37).

8– روضة الطالبين (7 /18).

9– ذكر ذلك ابن قدامة في المغني (7 /334). ط: دار الفكر بيروت- 1405 هـ.

10– رواه البخاري ومسلم.

11– رواه أبو داود والنسائي، وهو حديث صحيح. انظر صحيح أبي داود للألباني (1805).

12– رواه البخاري ومسلم.

13– رواه أحمد في مسنده، وقال الأرنؤوط: صحيح لغيره وهذا إسناد قوي. مسند أحمد حديث رقم (12634).

14– المغني (7 /334).

15– المصدر السابق.

16– روضة الطالبين (7 /18).

17– المغني (7 /335).

18– انظر المحلى لابن حزم (9 /440).

19– فتح الباري (9 /92).