الاعتكاف والنوم في المساجد

الاعتكاف والنوم في المساجد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، أما بعد:

فإن من الأمور التي يحتاجها المسلم ليتفقه فيها في أيام شهر رمضان مسألة الاعتكاف في المساجد، والنوم فيها، والاعتكاف في اصطلاح الفقهاء: لزوم مسجدٍ لطاعة الله -تعالى -.

وقد اختلف العلماء في مكان الاعتكاف على قولين:

القول الأول: أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد؛ وسواء أكان المعتكف رجلاً أم امرأة، وهذا مذهب جمهور العلماء، وقد حكاه القرطبي في تفسيره إجماع1.

واختلف الجمهور في هذا المسجد فمن قائل: الحرمين فقط، ومن قائل: المساجد الثلاثة، وذهب مالك والشافعي – رحمهما الله تعالى – إلى أن الاعتكاف يكون في المسجد الجامع، وقيل: في كل مسجد تقام فيه جماعة، قال به الشافعي في رواية عنه، وبعض الحنابلة، قال الشافعي: “والاعتكاف في المسجد الجامع أحب إلينا، وإن اعتكف في غيره فمن الجمعة إلى الجمعة، وإذا أوجب على نفسه اعتكافاً في مسجد فانهدم المسجد اعتكف في موضع منه، فإن لم يقدر خرج من الاعتكاف، وإذا بُني المسجد رجع فبنى على اعتكافه”، ويرى بعض العلماء: أنه يتمه في مسجد آخر، وحجة مالك والشافعي – رحمهما الله – على أن الاعتكاف يكون في المسجد الجامع قول عائشة – رضي الله عنها -: “وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ”2. ولأن الإشارة في قول الله – تعالى -: وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ3 إلى ذلك الجنس من المساجد، وقد قال بهذا علي وابن مسعود من الصحابة  وقيل: لو اعتكف رجلان في مسجد، وأقاما الجماعة فيه؛ صح اعتكافهما.

القول الثاني: أنه يصح الاعتكاف في غير المسجد، وحكى ابن حجر: أن محمد بن عمر بن لبابة المالكي أجاز الاعتكاف في كل مكان، ومذهب الأحناف – رحمهم الله تعالى – جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها (المكان المخصص لصلاتها فيه) وأجازه بعض أصحاب مالك، وبعض أصحاب الشافعي، وهو القول القديم للشافعي، والذين أوجبوا اعتكافها بالمسجد قالوا: لا يشترط أن تقام فيه الجماعة؛ لأنها ليست واجبة عليها، والمسجد الذي لا تقام فيه الجماعة ليس بأمان عليها؛ لكونه إما خرباً، وإما مهجوراً لفساده أو نحو ذلك، فجلوسها فيه خطر عليها إذا كانت وحيدة، أو مع نساء.

الأدلة:

استدل الجمهور بما يلي:-

1- قال الله تعالى: وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ الآية، الشاهد: عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد وجه الدلالة: أن الله  حرم المباشرة على المعتكف بالمسجد، وسكت عن غيره؛ مما دل على أن المسجد هو موضع الاعتكاف.

2 – عن أبي سعيد الخدري  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ – وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ – قَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ، وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ (أي: قطـر) فَبَصُرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ  عَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ»4.

الشاهد: “فوكف المسجد” ووجه الدلالة: أن المسجد هو المكان المعروف للاعتكاف، وهو الذي اعتكف فيه رسول الله  في الأعوام التي ذكرها راوي الحديث.

3- عن عائشة – رضي الله عنها – أَنَّ النَّبِيَّ  كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ»5.

الشاهد: “كان يعتكف” … ثم اعتكف أزواجه من بعده، ووجه الدلالة: أن اعتكاف النبي  وزوجاته أمهات المؤمنين كان في المسجد وهن نساء؛ ويشهد لهذا أن عائشة – رضي الله عنها – قالت: «اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ فَرُبَّمَا وَضَعْنَا الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي»6.

وهذا نص بجواز اعتكاف المرأة بالمسجد مع زوجها إذا أذن لها، وأمنت عليها الفتنة؛ لأن رسول الله  لم يكن يعتكف إلا بالمسجد.

وكذلك قصة الأخبية لعائشة وحفصة وزينب – رضي الله عنهن – حيث ضربنها في المسجد ليعتكفن مع النبي .

4- عن نافع قال: “أَرَانِي عَبْدُ اللَّهِ (أي: ابن عمر) – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما – الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ يَعْتَكِفُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ  مِنْ الْمَسْجِدِ”7 الشاهد: “يعتكف فيه…. من المسجد”، ووجه الدلالة: أنه ثبت بالأدلة القطعية المتواترة من السنة أن رسول الله  كان يعتكف في المسجد، حتى حفظ الصحابة مكان اعتكافه، والعبادات توقيفية، وقد نصت الآية السابقة: على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، وكذلك فعل النبي  فلم يعتكف إلا في المسجد.

5- حكي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه سئل عن امرأة جعلت عليها أن تعتكف في مسجد بيتها، فقال: “بدعة، وأبغض الأعمال إلى الله البدع”، وهذا لأن مسجد بيتها لا يسمى مسجداً حقيقة، ولا حكماً.

واستدل الفريق الثاني بما يلي:-

1 – ثبوت الأحاديث الصحيحة الدالة على أن صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد؛ وفي قعر دارها أفضل من فنائها، والاعتكاف مثل الصلاة عبادة تؤدى في المكان المخصص للصلاة، فمسجد بيتها هو معتكفها.

2 – حديث عائشة – رضي الله عنها – في الأخبية، حيث قالت: إِنَّ النَّبِيَّ  أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ إِذَا أَخْبِيَةٌ – خِبَاءُ عَائِشَةَ، وَخِبَاءُ حَفْصَةَ، وَخِبَاءُ زَيْنَبَ – فَقَالَ: آلْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ؟ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ»8. الشاهد: “ثم انصرف فلم يعتكف” ووجه الدلالة: أن النبي  قطع الاعتكاف بعد أن نواه وذلك لوجود النساء بالمسجد؛ مما دل على أن اعتكاف المرأة في مسجد بيتها أفضل.

3 – قال الجصاص في الاعتكاف: “وتخصيصه بمساجد الجماعات لا دلالة عليه”9.

المناقشة:

يمكن مناقشة أدلة الفريق الثاني بما يلي:-

ا – أما قياس الاعتكاف على الصلاة، فإنه لا يصح؛ لأن القياس لا يجري في العبادات، ولو كان القياس جارياً لكان باطلاً هنا؛ لاختلاف الاعتكاف عن الصلاة.

2 – أما قصة الأخبية فيجاب بأنه  لم يترك الاعتكاف لوجود النساء، وإنما تركه لما رأى أن الحامل لهن هو الغيرة، ويحتمل أن المعتكف في المسجد مع أهله قد لا يكون معتكفاً؛ بل يكون كالذي يسكن المسجد، وعلى هذا فلا دلالة في قصة الأخبية على بطلان اعتكاف النساء، ولا على أن اعتكافهن في البيت أفضل من المسجد.

3 – أما قول الجصاص – رحمه الله تعالى – فيجاب عنه بأن المساجد إنما بنيت لصلاة الجماعة، والمعتكف إنما يريد الثواب من الله – تعالى -، فكيف يترك صلاة الجماعة المفروضة عليه ليفعل سنة يتطوع بها؟!. وأما أنه لا دلالة عليه فلم يثبت عن النبي ، ولا عن أحد من أصحابه، ولا السلف الصالح – رحمهم الله جميعاً – أنهم اعتكفوا في بيوتهم، أو في مساجد لا تقام فيها الصلاة.

النوم في المسجد:

وأما بالنسبة لجواز النوم في المسجد فهو قول الجمهور؛ لما روى البخاري وغيره عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد رسول الله ﷺ.10.

وروى – أيضاً – عن سهل بن سعد قصة فيها أن علي بن أبي طالب غاضَبَ فاطمة – رضي الله عنها – فلم يقل عندها، ونام في المسجد وقت القيلولة حتى سقط رداؤه عن شقه، وأصابه تراب….الخ)11. وروي – أيضاً – عن أبي هريرة  قال :”رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار، وإما كساء؛ قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته”12.

ومعلوم أن هذا العدد لا تتسع لهم الصفّة الصغيرة، فدل على أنهم ينامون في زوايا المسجد، إلا من وجد منهم مأوىً، فمن استغنى منهم استقل في منزله، بل ثبت في الصحيح عن عائشة – رضي الله عنها – أن وليدة سوداء كانت لحي من العرب فأعتقوها، فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد أو حفش …الحديث)13. والخباء: الخيمة من وبر أو غيره، والحفش: البيت الصغير.

وفيه إباحة المبيت والمقيل في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة عند أمن الفتنة، وإباحة استظلاله فيه بالخيمة ونحوها.

وقد ثبت في الصحيح – كما مر بنا آنفاً – أن النبي  كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده»، وأذن مرة لعائشة – رضي الله عنها – في الاعتكاف معه فبنت لها خباء، ثم بنت حفصة لها خباء…الخ)”.

ومعلوم أن المعتكف ينام في المسجد، ويأكل فيه، ويشرب فيه، ويتخذه مستقراً ليتفرغ فيه للعبادة.

وقد روى الإمام أحمد – رحمه الله – أن أبا ذر  كان يخدم رسول الله ، فإذا فرغ من خدمته أوى إلى المسجد، وكان هو بيته يضطجع فيه، وذكر أنه قال: فأين أنام وهل لي بيت غيره، ولعلّ أبا ذر كان من أهل الصفة الذين ليس لهم مأوى سوى المسجد، فينام فيه كغيره للحاجة، مع علمه بحرمة المسجد، ووجوب العناية وتنظيفه عن الفضلات والقذر، ويمكن القول بأن الأصل جواز النوم في المسجد للمعتكف ولغيره، لكن ينبغي التنبيه على أن لبيوت الله حرمة، فقد يمنع المبيت في المساجد في أوقات وظروف معينة بسبب انتشار عدم المبالاة بحرمات الله من السرقات وغيرها من الأخلاق الفاسدة، لكن هذا ليس على إطلاقه فهو يختلف من بيئة إلى أخرى، ثم إنه ينبغي الإشارة مع مثل هذه الظروف أن يكون هناك ملحقاً للمسجد يجعل للنوم في حالات خاصة أو طارئة، وخاصة عابري السبيل الذين تنقطع بهم السبل, بدلاً من إغلاق بيوت الله بهذه الحجج, وذلك لتسلم المساجد من الأذى وحتى لا يُضيَّق على عباد الله من أبناء السبيل ونحوهم، والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين14.


1 تفسير القرطبي (2 /333).

2 رواه أبو داود 2115 (6 /471)وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود: (حسن صحيح).

3 (سورة البقرة:187).

4 رواه البخاري 1887 (7 /158)

5 رواه البخاري 1886  (7 /157) ومسلم 2006 (6 /91).

6 رواه البخاري 1896 (7 /176).

7 رواه مسلم 2003 (6 /88).

8 رواه البخاري 1893(7 /170).

9 أحكام القرآن للجصاص (2 /106).

10 رواه البخاري 421 (ج 2 / ص 222).

11 رواه البخاري 422 (2 /223) ومسلم 4426 (12 /135).

12 رواه البخاري 423 (2 /224).

13 رواه البخاري 420 (ج 2/ ص220).

14 استفيد الموضوع (بتصرف) من:

1- أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية لـ(إبراهيم بن صالح الخضيري)

2- فصول ومسائل تتعلق بالمساجد لـ(عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين).