الطهارة

الطهارة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

إن من أهم الأمور التي يجب الاعتناء بها في حياة العبد هي: معرفة الطريق الذي يوصله إلى الله، ثم سلوكه والثبات عليه حتى الممات .. ولما كانت الغاية من خلق الإنسان هي عبادة الله – تعالى – وطاعته، وكانت هي الطريق الموصل إليه، وكان من أنواعها: الصلاة، وهي الصلة الوثيقة بين الله وعبده؛ لزم على الإنسان المسلم أن يعرف ما يصلح هذه الصلاة وما يفسدها، وما الذي تتم به هذه العبادة الجليلة من شروط تشرط لها، وأحكام تخصها، وإننا – بإذن الله تعالى – سنتحدث عن أعظم شرط من شروط الصلاة وهو الشرط الذي يذكره الفقهاء دائماً في أول كتبهم الفقهية – ألا وهو الطهارة – لأن الصلاة لا تتم إلا بطهارة كاملة: طهارة الماء، والمكان، والبدن. الطهارة:

لما كان الماء هو الأصل الذي يتم به الوضوء، ورفع الحدث عن العبد لتصح صلاته ونحوها؛ كان لا بد من معرفة الماء الذي يرفع الحدث، ويزيل الخبث. أنواع المياه:

أولاً: الماء الطاهر المطهر: الطاهر في نفسه، المطهر لغيره؛ لأن عنصر الماء ومادته الأصل فيها أنها طاهرة لقوله – تعالى -: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً طَهُورًا (سورة الفرقان:48)، وقال : الماء طهور لا ينجسه شيء1، وهذا الماء يسمى الماء المطلق أي الذي لم يخالطه غيره من أي شيء كان سواء في لونه، أو طعمه، أو رائحته.

وأما المطهر: فهو الذي يطهر غيره، فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره، يرفع به الحدث، ويزيل النجاسة، فاجتمع فيه الوصفان: طاهر الذات والمادة.. ومطهر للنجاسات، ورافع للحدث، وقد أجمع العلماء على أن ذلك الماء يرفع الحدث، وتزال به النجاسة.

ثانياً: الماء الطاهر غير المطهر: وهو الماء الذي خالطه شيء من الطاهر، أو ألحق إلى اسمه وصف لازم بالإضافة أو بغيرها كقولنا: ماء الورد؛ لأنه أضيف إليه الورد، فخرج بهذا التقييد عن كونه مطلقاً، وحكم هذا الماء أنه: طاهر في نفسه فيجوز شربه، واستخدامه في كل شيء .. إن غلب ذلك الوصف أو التقييد، ولكنه لا يرفع الحدث، ويزيل النجس، لأن إزالة النجس لا يشترط فيها كون المزيل ماء مطلقاً، أو باقياً على أصل خلقته، وإنما يكفي أن يزال بأي شيء طاهر، أياً كان ذلك الشيء قال شيخ الإسلام – قدس الله روحه -: “وأما إزالة النجاسة بغير الماء ففيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد أحدها: المنع كقول الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، والثاني: الجواز كقول أبي حنيفة، وهو القول الثاني في مذهب مالك، وأحمد، والقول الثالث: في مذهب أحمد أن ذلك يجوز للحاجة كما في طهارة فم الهرة بريقها، وطهارة أفواه الصبيان بأرياقهم ونحو ذلك، والسنة قد جاءت بالأمر بالماء في قوله لأسماء: حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء، وقوله في آنية المجوس: ارحضوها، ثم اغسلوها بالماء، وقوله في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد: صبوا على بوله ذنوباً من ماء فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمراً عاماً بأن تزال كل نجاسة بالماء، وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع منها الاستجمار بالحجارة، ومنها قوله في النعلين المتنجسين ثم ليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور ومنها قوله في الذيل: يطهره ما بعده، ومنها أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله ثم لم يكونوا يغسلون ذلك، ومنها قوله في الهر: إنها من الطوافين عليكم والطوافات مع أن الهر في العادة يأكل الفأر، ولم يكن هناك قناة ترد عليها تطهر بها أفواهها بالماء، بل طهورها ريقها، ومنها أن الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين، وإذا كان كذلك فالراجح في هذه المسألة أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان زال حكمها، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة لما في ذلك من فساد الأموال، كما لا يجوز الاستنجاء بها”2

وعليه فالماء الذي خالطه زعفران، أو صابون، أو عجين؛ إذا خرج عن إطلاقه بحيث لا يتناوله اسم الماء المطلق؛ فهو طاهر في نفسه، مزيل للنجس، غير رافع للحدث، فإن خالطه ذلك وبقي على إطلاقه فهو رافع لهما معاً، وقد خالف في ذلك أبو حنيفة، وذهب إلى أن ما خالط الماء من شيء طاهر فإن الطهارة تصح به، حتى لو تغير اسم الماء المطلق، ما عدا الماء الذي طبخ به.

ثالثاً: الماء النجس: هو الماء الذي تغير أحد أوصافه الثلاثة (الرائحة، أو الطعم، أو اللون) بنجاسة واقعة فيه، فهذا الماء لا يجوز استعماله ما دام على حالته تلك سواء في رفع الحدث، أو إزالة النجس، وقد اتفق العلماء على ذلك؛ إلا أن الخلاف حصل في كمية هذا الماء الذي وقعت فيه النجاسة .. هل كل ماء وقعت فيه النجاسة، ولم تغير أحد الأوصاف الثلاثة نجس أم لا؟

اختلف الفقهاء في ذلك فقالت طائفة:

1. هو طاهر سواء كان قليلاً أو كثيراً، وهذا قول مالك في رواية عنه، وبه قال أهل الظاهر، واختاره شيخ الإسلام – رحمة عليه -.

2. فرَّق فريق من العلماء بين القليل والكثير، فقالوا: إن كان الماء قليلاً تنجس بمجرد وقوع هذه النجاسة فيه، وإن كان كثيراً لم ينجس، وأصحاب هذا القول اختلفوا ما هو حد القليل من الكثير؟

ذهب أبو حنيفة إلى أن الحد في هذا: هو أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حركه آدمي في أحد طرفيه لم تصل الحركة إلى الطرف الثاني منه.

وقال الشافعي: الحد في الكثير: قلتان من قلال هجر، وتساوي خمسائة رطل بغدادي(3) وفي المذاهب تفريعات ليس هذا مقا م ذكرها.

وسبب اختلافهم في ذلك هو تعارض ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك .. غير أن أحاديث الرسول لا يمكن أن تتعارض، ولكن قد يتوهم التعارض لعلة في الفهم أو غيرها، ولهذا يقول العلماء: تعارض ظواهر النصوص، فإنه يفهم من ظواهر النصوص أنها متعارضة، والأصل القطع بعدم تعارضها في ذاتها، لأن الأفهام متفاوتة، والمدارك مختلفة.

والحاصل أن المسألة قوية التجاذب بين العلماء، وأفضل ما ذهب إليه فيها: أن الماء إذا وقعت فيه النجاسة وغيرته فهو نجس، وإن لم يتغير فهو طاهر سواء كان قليلاً أو كثيراً؛ لأن العلة في التنجيس هو تغير الماء بأحد الأوصاف الثلاثة، ولهذا جاء في الحديث: الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه، أو طعمه، أو لونه.

والزيادة هذه – وإن كانت ضعيفة – أعني: إلا ما غلب على ريحه، أو طعمه، أو لونه، فقد اتفق العلماء على مضمونها، والعمل بها، وهي أن الماء إذا تغير بأحد الأوصاف المتقدمة فهو نجس، وقد ذهب إلى هذا القول ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية(4)، ومن المعاصرين الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله –(5).

ثالثاً حكم الماء المستعمل:

الماء المستعمل في طهارة: هو الماء الذي استخدمه العبد في رفع الحدث الأصغر وهو ما يرفع بالوضوء، والأكبر وهو ما يرفع بالغسل، فهل هذا الماء الذي تم الوضوء به، أو الغسل به؛ يعد صالحاً لرفع الحدث، أو إزالة النجاسة؟!

اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال ذكر الشوكاني منها في النيل وغيره قولين فقال: القول الأول: أن ذلك غير مطهر، ولا رافع للحدث، وهو مذهب أحمد بن حنبل، والليث، والأوزاعي، والشافعي في رواية عنه، ومالك في رواية عنه، وأبي حنيفة في رواية عنه، واستدلوا بأدلة منها: النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة.

والقول الثاني: أنه طاهر مطهر: وعزاه الشوكاني فيما نقله عن ابن حزم إلى عطاء والثوري، وأبو ثور وجميع أهل الظاهر، ونقله غير ابن حزم عن الحسن البصري، والزهري، والنخعي ومالك، والشافعي وأبي حنيفة في إحدى الروايات عن الثلاثة المتأخرين.

القول الثالث: شذ أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة فقال: إنه نجس6.

والذي يقتضيه النظر، ومن خلال الأحاديث الكثيرة؛ أن حكمه حكم الماء المتغير بشيء من الطاهرات، فهو طاهر مطهر كما مر، والدليل: ما روى أبو داوود والترمذي عن الربيع بنت معوذ – رضي الله عنها -:  أن النبي  مسح برأسه من فضل ماء كان بيده7، فإن فضل الماء الذي بيده الشريفة يعد ماءً مستعملاً.

وورد أن الصحابة  كانوا يأخذون من زيادة وضوئه  الذي يتساقط، وكادوا يقتتلون عليه للتمسح به كما روى ذلك البخاري في صحيحه.

وهذا القول رجحه الشوكاني – رحمه الله -، وهو مذهب من تقدم ذكرهم من العلماء، وذهب إليه ابن عثيمين – رحمه الله – فقال: “والصواب أنه لا يكره؛ لأن الكراهة حكم شرعي يفتقر إلى دليل…”.(8)

رابعاً الماء المشمس:

وهو الماء الذي وضع في الشمس ليسخن، ثم يتوضأ به؛ نتيجة لشدة البرد، فهذا الماء كره الشافعية الطهارة به، ورجح النووي أنه لا يكره مطلقاً حيث قال: “والراجح من حيث الدليل أنه لا يكره مطلقاً، وهو مذهب أكثر العلماء، وليس للكراهة دليل يعتمد، وإذا قلنا بالكراهة فهي كراهة تنزيه لا تمنع صحة الطهارة…”(9) وغير الشافعية كالحنابلة وغيرهم، ذهبوا إلى عدم الكراهية؛ لعدم ورود الدليل.

أسأل الله العلي القدير أن ينفع بهذه الدروس كاتبها، وقارئها، ومعلمها للناس؛ إنه سميع مجيب.


1– رواه أحمد وصححه، وأبو داوود، والترمذي وحسنه، والنسائي وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري . وصححه الألباني.

2– المجموع: 21-474

3– وهي تساوي: 191 كجم تقريباً.

4– مجموع الفتاوى (21-73، 24).

5– الشرح الممتع (1-32-34). ط/ مؤسسة آسام.

6– انظر: ( بداية المجتهد).

7 قال الألباني: إسناده حسن

8– الشرح الممتع 1-29.

9– روضة الطالبين 1-120. ط/ دار الكتب العلمية.