غزوات حدثت قبل غزوة الأحزاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذا درس في مجموعة من الغزوات التي سبقت غزوة الأحزاب، نذكر ما دار فيها، ونأخذ منها الدروس والعبر، فنقول مستعينين بالله:
غزوة نجد ربيع الثاني أو جمادى الأولى من السنة الرابعة للهجرة:
سبب الغزوة:
بعد غزوة بني النضير التي انتصر فيها المسلمون – بدون ضحايا – توطد سلطانهم في المدينة، وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم، وأمكن رسول الله ﷺ أن يتفرغ لقمع الأعراب الذين آذوا المؤمنين بعد أُحد، وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالها في نذالة وكفران، وبلغت بهم الجرأة أن أرادوا القيام بجر غزوة على المدينة، وقبل أن يقوم النبي ﷺ بتأديب أولئك الغادرين؛ نقلت إليه استخبارات المدينة بتحشد جموع البدو والأعراب من بني محارب، وبني ثعلبة من غطفان، فسارع النبي ﷺ إلى الخروج يجوس فيافي نجد، ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساة حتى لا يعاودوا مناكرهم التي ارتكبوها مع المسلمين.
نتائج الغزوة:
1- عودة النبي ﷺ بمن معه من المسلمين دون قتال. 2- تفرق العدو، وتمنعهم في رؤوس الجبال خوفاً من المسلمين.
3- انتشار الأمن والطمأنينة بين المسلمين من خطر القبائل المجاورة .
الدروس والعبر المستفادة من هذه الغزوة:
1- العدو ضعيف بكفره مهما تظاهر بالقوة المادية.
2- سنة الله الكونية قائمة على أن العدو لا يكلّ ولا يملّ عن خططه وتربصه بالمؤمنين.
3- القوة الحقيقية التي تزعزع كيان العدو تكمن في صدق وصلابة التمسك بمبادئ الدين القويم.
4- شجاعة القائد، وذكاؤه في الحروب؛ عامل كبير من عوامل تقوية الجيش، وكسب المعركة.
غزوة بدر الآخرة في شعبان سنة 4هـ – يناير626م:
تسمى هذه الغزوة ببدر الآخرة، وبدر الصغرى، وبدر الثانية، وبدر الموعد.
سبب الغزوة:
لما انصرف أبو سفيان ومن معه يوم أحد نادى: “إن موعدكم بدر”، فقال رسول الله ﷺ لرجل من أصحابه قل: “نعم، هو بيننا وبينك موعد“.
لما جاء الموعد استعمل رسول الله ﷺ على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول الأنصاري – رضي الله عنه -، وخرج ﷺ ومعه ألف وخمسمائة مقاتل، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل اللواء علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، ونزل رسول الله ﷺ بدراً وأقام فيها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان من مكة على رأس قوة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل، وقيل ألفان وخمسمائة، وقيل ألفا مقاتل، وفي نفسه رغبة ألا يحدث هذا اللقاء الذي ينتظر نتيجته كثير من رجال القبائل والأعراب وأهل المدن؛ إذ قضت المدينة ومكة عاماً في الاستعداد له، وكان في خروج أبي سفيان محاولة لإخافة المسلمين وإرهابهم كي لا يخرجوا فيكونوا هم الذين نكلوا عن الخروج.
نعيم بن مسعود يبث الشائعات:
بعث أبو سفيان نعيم بن مسعود؛ ليخيف المسلمين في المدينة من كثرة أعداد قريش وقوتها، وجعل له عشرين بعيراً إن أدى هذه المهمة ولم يخرج محمد، وقال له: “إنه بدا لي أن لا أخرج، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا؛ فيزداد المسلمون جرأة، فلأن يكون الخلف من قبلهم أحب إليّ من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة وأعلمهم أنا في جمع كثير، ولا طاقة لهم بنا، ولك عندي من الإبل عشرون أدفعها لك على يد سهيل بن عمرو”.
وصل نعيم إلى المدينة، وبدأ يبث إشاعاته، وساعده في ذلك المنافقون واليهود، وقالوا: لا يفلت محمد من هذا الجمع، ولعبت هذه الإشاعات دورها، وسار أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – إلى رسول الله ﷺ وقالا له :”يا رسول الله إن الله مظهر نبيه، ومعز دينه، وقد وعدنا القوم موعداً لا نحب أن نتخلف عنه، فيرون أن هذا جبن، فسر لموعدهم، فوالله إن في ذلك لخيراً”، فسُرَّ النبي ﷺ مما قاله صاحباه، وأعلن أنه في طريقه إلى بدر، وقال: “والذي نفسي بيده؛ لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد”.
خروج النبي ﷺ لملاقاة العدو:
نادى رسول الله ﷺ في الناس للخروج فاجتمع حوله ألف وخمسمائة مقاتل، وسار بهم إلى بدر.
وصل النبي ﷺ إلى بدر في جيشه، وعسكر هناك، وبقي ثمان ليال ينتظر قريشاً ولكنها لم تأت، إذ عادت جموعها من عسفان خوفاً من اللقاء حقيقةً، وحجتها في ذلك أن الظروف غير ملائمة للحرب إذ كانت سنوات جدب، قال أبو سفيان: “يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا”، فرجع الناس فسماهم أهل مكة “جيش السويق” يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق!
وأثناء وجود رسول الله ﷺ في انتظاره لأبي سفيان لميعاده أتاه مخشي بن عمرو الضمري – وهو الذي كان وادعه على بني ضمرة في غزوة ودان – فقال: “يا محمد: أجئت لملاقاة قريش على هذا الماء؟ قال: نعم يا أخا بني ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك قال: لا والله يا محمد ما لنا بذلك منك من حاجة، ومر معبد بن أبي معبد الخزاعي فقال وقد رأى مكان رسول الله ﷺ وناقته تهوي به:
قـد نـفرت من رفقتي محمد | وعجوة من يثرب كالعنجد |
تهوي على دين أبيها الأتلــد | قد جعلت ماء قديد موعدي |
ومـاء ضجنان لهـا ضحى الغـد |
وقال عبد الله بن رواحة في ذلك:
وعدنا أبا سفيان بدراً فلم نجد | لميعاده صدقاً وما كان وافيا |
فأقسم لو وافيتنا فلقيتـــنا | لإبت ذميماً وافتقدت المواليا |
تركنا به أوصال عتبة وابنــه | وعمراً أباجهل تركناه ثاويا |
عصيتم رسول الله أف لدينكم | وأمركم السي الذي كان غاويا |
فإني وإن عنفتموني لقائــل | فدىً لرسول الله أهلي وماليا |
أطعناه لم نعدله فينا بغيــره | شهاباً بنا في ظلمة الليل هاديا |
نتائج الغزوة:
كانت نتيجة هذه الغزوة أن فر المشركون يجرون أذيال الخيبة والهزيمة، وعاد المسلمون يحملون راية الظفر، وهكذا دان عدو المسلمين الأول وهي أقوى قوة في الجزيرة، وجيشها أكبر الجيوش تنظيماً وعتاداً، وكانت هي المتحدية، وهي الفارَّة من اللقاء، وأدى ذلك إلى خوف القبائل، وإجلاء جزء من اليهود.
وبدا أن غزوة أحد لم تكن ضربة أليمة يخنع المسلمون بعدها، ومن نتائجها أن رجالاً من الأعراب حول المدينة والمنطقة كلها دانت لرسول الله ﷺ.
الدروس المستفادة من الغزوة:
1- بيان الوفاء المحمدي الدال على الشجاعة النادرة، إذ لم يرهب من أبي سفيان كما أُرهب هو وولى من الطريق خائفاً.
2- بيان مصداق حديث نصرت بالرعب مسيرة شهر1 حيث انهزم جيش أبي سفيان قبل الالتقاء بأرض الموعد.
3- الشورى أصل ومنهج شرعي لا بد من انتهاجه قبل اتخاذ القرار.
4- الإشاعات لها دور مؤثر في بث الضعف بين المجتمعات.
غزوة دومة الجندل لخمسٍ بقين من ربيع الأول:
تسميتها وموقعها:
دومة الجندل – بضم الدال – بينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة، وسميت بدمى بن إسماعيل – عليه السلام – لأنه نزلها، قال ابن كثير: “دومة الجندل – بضم الدال وبفتحها – هي ما بين برك الغماد ومكة، وقيل أيضاً: أنها ما بين الحجاز والشام، والمعنى واحد وان اختلفت العبارة، ودومة هذه على عشرة مراحل من المدينة”، وقال ابن القيم: “دومة الجندل – بضم الدال وليس بفتحها – إذ بالفتح هي منطقة أخرى”.
سبب الغزوة:
لم تتأدب القبائل كلها، بل تأدبت التي وصل إليها المسلمون فقط، واغتر غيرها من الأعراب، وظنوا أن بإمكانهم غزو المدينة وأن غيرهم ليس مثلهم فهم يستطيعون تحقيق ما لا يستطيعه غيرهم، ومن هؤلاء المغرورين الأعراب الذين حول دومة الجندل، فبعد مرور ستة أشهر من عودة الرسول ﷺ من غزوة بدر الصغرى جاءت إليه الأخبار أن القبائل حول دومة الجندل قريباً من الشام تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها، وأنها قد حشدت جمعاً كبيراً تريد أن تهاجم المدينة، فقرر حينئذٍ تأديبهم.
خروج النبي ﷺ:
وهكذا عزم النبي ﷺ للخروج إلى دومة الجندل، فاستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري – رضي الله عنه -، وخرج رسول الله ﷺ ومعه ألف من المسلمين، وأخذ دليلاً للطريق رجلاً يقال له “مذكور”.
وكان – عليه الصلاة والسلام – يسير ليلاً ويكمن نهاراً؛ ليباغت العدو، فلما دنا من دومة الجندل أخبره دليله بسوائم بني تميم فسار – عليه الصلاة والسلام – حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم فأصاب من أصاب، وهرب من هرب في كل واد، وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا، فنزل رسول الله ﷺ بساحتهم فلم يجد أحداً، فأقام بها أياماً، وبث السرايا، ثم رجع بمن معه وقد أخذوا كثيراً من حيوانات ورعاء كانت لبني تميم، وأثناء العودة عقد رسول الله ﷺ مع عيينة بن حصن معاهدة عدم اعتداء، وسمح لعيينة أن يرعى بأراضي المسلمين؛ لأنه اشتكى جدب أراضي فزارة.
وكان مما حدث بعد هذه الغزوة أن محمد بن مسلمة أخذ رجلاً منهم فأتى به رسول الله ﷺ فسأله عن أصحابه فقال: هربوا أمس، فعرض عليه رسول الله ﷺ الإسلام فأسلم، ورجع رسول الله ﷺ إلى المدينة غانما منتصراً.
الفوائد والعبر من غزوة الجندل:
1- بيان ما كان من الفوضى في تلك الديار قبل الإسلام؛ بدليل وجود عصابات تلصص تؤذي المارة، وتسلب أموالهم.
2- بيان ما أدى الرسول ﷺ من كمال السياسة وحسنها؛ إذ خروجه إلى دومة الجندل حقق عدة أهداف شريفة منها إرعاب الروم، ورفع الظلم، والدعوة إلى الإسلام.
3- بيان مصداق قوله ﷺ نصرت بالرعب مسيرة شهر إذ بمجرد أن علم الظلمة بخروج النبي ﷺ إليهم حتى تفرقوا منهزمين، مع أن المسافة بينه وبينهم طويلة.
4- مشروعية أخذ الغنائم في الإسلام، وحليتها لهذه الأمة المجاهدة المقيمة للعدل، الناشرة للهدى والخير بين من تظلهم راية الإسلام.
5- انتصارات المسلمين أرهبت المنافقين في المدينة مما حملهم على عقد الموالاة مع اليهود.
6- اختفاء القبائل المعادية للمسلمين واحدة تلو الأخرى خوفاً من المسلمين.
7- ازدياد دخول الناس في دين الإسلام.
وهكذا نختم درسنا هذا بهذه الغزوة العظيمة .. ونسأل الله تعالى أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يرفع راية الإيمان قوية عزيزة، كريمة خفاقة على جميع أقطار الدنيا، وأن يحفظ بلادنا وأمننا واستقرارنا، وعقيدتنا من كيد الأعداء، ودسائس المغرضين الحاسدين، وأن يحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، ونسأله تعالى أن يوفق حكام المسلمين لما فيه صلاح دينهم ورعاياهم، إنه تعالى خير مسئول وهو الجواد الكريم، ونستغفره ونتوب إليه إنه هو الغفور الرحيم، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين2.
1 -رواه البخاري برقم( 328) ومسلم برقم (521 ).
2 تمت استفادة الدرس من المراجع الآتية: 1- البداية والنهاية, لـ(ابن كثير). 2- السيرة النبوية, لـ(ابن هشام). 3- التاريخ الإسلامي, لـ(محمود شاكر). 4- الرحيق المختوم, لـ(المباركفوري). 5- فقه السيرة, لـ(الغزالــي). 6- زاد المعـاد في هدي خير العباد, لـ(ابن القيـم). 7- هذا الحبيب يـا مُحِبّ, لـ(أبي بكر الجزائري).