سرايا حدثت في رمضان

سرايا حدثت في رمضان

الحمد لله القوي المتين، القاهر الظاهر، الملك الحق المبين، لا يخفى على سمعه خفيف الأنين، ولا يعزب عن بصره حركات الجنين، ذل لكبريائه جبابرة السلاطين، وقضى القضاء بحكمته وهو أحكم الحاكمين، نحمده حمد الشاكرين، ونسأله معونة الصابرين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى على العالمين، المنصور ببدرٍ بالملائكة المنزلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين1، أما بعد:

فإن شهر رمضان هو شهر العمل والدعوة والجهاد، هكذا تطلعنا سيرة رسول الله  وصحابته الكرام، ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان.

إن المتأمل في غزوات الرسول  وسراياه التي بعثها لكثير من البلاد لهدم الأصنام، أو إعلان الحرب على الكفار؛ يجد أن كثيراً منها كانت في شهر رمضان المبارك، مما يدل دلالة واضحة على أن رمضان ليس شهر الكسل والخمول – كما هو حال كثير من أمة الإسلام اليوم -، وهذا يدعونا إلى التأمل، وأخذ الأمر بقوة وعزيمة في جميع المجالات العلمية، والعملية، والدعوية بعيداً عن التواني، والإصرار على الكسل، والفهم السقيم لما يحمله شهر الصيام للمسلمين.

وهاكم – إخواني – نبذة عن جملة من السرايا التي بعثها النبي  إلى أنحاء متفرقة من الجزيرة العربية، والتي كانت في شهر رمضان.

سرية حمزة إلى سِيف البحر:

كان أول لواء عقده رسول الله  لواء أبيض لحمزة بن عبد المطلب بن هاشم  في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من هجرته ، وكان الذي حمله أبو مرثد كناز بن الحصين الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وبعثه رسول الله  في ثلاثين رجلاً من المهاجرين.

قال بعضهم: كانوا شطرين من المهاجرين والأنصار، والمجمع عليه: أنهم كانوا جميعاً من المهاجرين، ولم يبعث رسول الله  أحداً من الأنصار مبعثاً حتى غزا بهم بدراً، وذلك أنهم شرطوا له أنهم يمنعونه في دارهم.

وخرج حمزة  يعترض عيراً لقريش جاءت من الشام تريد مكة، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر – يعني ساحله – من ناحية العيص، فالتقوا حتى اصطفوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجهني، وكان حليفاً للفريقين جميعاً، إلى هؤلاء مرة، وإلى هؤلاء مرة؛ حتى حجز بينهم ولم يقتتلوا، فتوجه أبو جهل في أصحابه وعيره إلى مكة، وانصرف حمزة بن عبد المطلب في أصحابه إلى المدينة.

سرية عمير بن عدي:

ومن سرايا شهر رمضان: سرية عمير بن عدي بن خرشة الخطمي إلى عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد لخمس ليال بقين من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهراً من هجرة رسول الله ، وكانت عصماء عند يزيد بن زيد بن حصن الخطمي، وكانت تعيب الإسلام، وتؤذي النبي ، وتحرض عليه، وتقول الشعر، فجاءها عمير بن عدي في جوف الليل حتى دخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام منهم من ترضعه في صدرها، فجسها بيده؛ وكان ضرير البصر، ونحى الصبي عنها، ووضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها، فسماه رسول الله  عميراً البصير.

سرية زيد بن حارثة إلى أُم قرفة بوادي القرى:

ومن سرايا هذا الشهر المبارك: سرية زيد بن حارثة إلى أُم قرفة بناحية من نواحي وادي القرى على سبع ليال من المدينة؛ في شهر رمضان سنة ست من هجرة رسول الله .

قالوا: خرج زيد بن حارثة  في تجارة إلى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي  فلما كان دون وادي القرى لقيه ناس من فزارة من بني بدر فضربوه، وضربوا أصحابه، وأخذوا ما كان معهم، ثم استل زيد، وقدم على رسول الله  فأخبره فبعثه رسول الله  إليهم فكمنوا النهار، وساروا الليل، ونذرت بهم بنو بدر، ثم صبحهم زيد وأصحابه فكبروا وأحاطوا بالحاضر، وأخذوا أم قرفة وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وابنتها جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر، فكان الذي أخذ الجارية مسلمة بن الأكوع، فوهبها لرسول الله ، فوهبها رسول الله  بعد ذلك لحزن بن أبي وهب، وعمد قيس بن المحسر إلى أم قرفة وهي عجوز كبيرة فقتلها قتلاً عنيفاً: ربط بين رجليها حبلاً ثم ربطها بين بعيرين، ثم جرهما فذهبا فقطعاها، وقتل النعمان وعبيد الله ابني مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر، وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك فقرع باب النبي ، فقام إليه يجر ثوبه حتى اعتنقه وقبله، فأخبر بما ظفره الله به.

سرية عبد الله بن عتيك إلى أبي رافع:

كانت سرية عبد الله بن عتيك إلى أبي رافع سلام بن أبي الحقيق النضري بخيبر في شهر رمضان سنة ست من مهاجر رسول الله ، حيث كان أبو رافع بن أبي الحقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب، وجعل لهم الحفل العظيم لحرب رسول الله ، فبعث رسول الله  عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبا قتادة، والأسود بن خزاعي، ومسعود بن سنان؛ وأمرهم بقتله، فذهبوا إلى خيبر فكمنوا، فلما هدأت الرجل جاؤوا إلى منزله، فصعدوا درجة وقدموا له عبد الله بن عتيك؛ لأنه كان يرطن باليهودية، فاستفتح وقال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له امرأته فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح فأشاروا إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه فما عرفوه إلا ببياضة، فعلَوْه بأسيافهم.

قال ابن أنيس: وكنت رجلاً أعشى لا أبصر، فأتكىء بسيفي على بطنه حتى سمعت خشه في الفراش وعرفت أنه قد قضى، وجعل القوم يضربونه جميعاً، ثم نزلوا وصاحت امرأته، فتصايح أهل الدار، واختبأ القوم في بعض مناهر خيبر، وخرج الحارث أبو زينب في ثلاثة آلاف في آثارهم يطلبونهم بالنيران فلم يروهم، فرجعوا ومكث القوم في مكانهم يومين حتى سكن الطلب، ثم خرجوا مقبلين إلى المدينة كلهم يدعي قتله، فقدموا على رسول الله  فقال: أفلحت الوجوه فقالوا: أفلح وجهك يا رسول الله! وأخبروه خبرهم فأخذ أسيافهم فنظر إليها فإذا أثر الطعام في ذباب سيف عبد الله بن أنيس، فقال: هذا قتله!.

سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة:

سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة كانت في شهر رمضان سنة سبع من مهاجر رسول الله  إذ بعث رسول الله  غالب بن عبد الله إلى بني عوال، وبني عبد بن ثعلبة وهم بالميفعة، وهي وراء بطن نخل إلى النفرة قليلاً بناحية نجد، وبينها وبين المدينة ثمانية برد، بعثه في مائة وثلاثين رجلاً، ودليلهم يسار مولى رسول الله  فهجموا عليهم جميعاً، ووقعوا وسط محالهم، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعماً وشاءً فحدروه إلى المدينة، ولم يأسروا أحداً.

وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد  الرجل الذي قال لا إله إلا الله، فقال النبي  : ألا شققت قلبه فتعلم صادق هو أم كاذب؟2.

سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى بطن إضم:

كانت سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري  إلى بطن إضم في أول شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله ، وذلك لما همَّ رسول الله  بغزوة أهل مكة بعث أبا قتادة بن ربعي   في ثمانية نفر سريةً إلى بطن إضم، وهي فيما بين ذي خشب وذي المروة، وبينها وبين المدينة ثلاثة برد، ليظن ظان أن رسول الله  توجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وكان في السرية محلم بن جثامة الليثي، فمر عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم بتحية الإسلام فأمسك عنه القوم، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله وسلبه بعيره ومتاعه، ووطب لبن كان معه، فلما لحقوا بالنبي  نزل فيهم القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ إلى آخر الآية3 فمضوا ولم يلحقوا جمعاً فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خشب، فبلغهم أن رسول الله  قد توجه إلى مكة، فلحقوا النبي  بالسقيا.

سرية خالد بن الوليد  إلى العزى:

ومن السرايا في شهر رمضان: سرية خالد بن الوليد  إلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله  .

حيث بعث رسول الله  حين فتح مكة خالد بن الوليد  إلى العزى ليهدمها، فخرج في ثلاثين فارساً من أصحابه حتى انتهوا إليها فهدمها، ثم رجع إلى رسول الله  فأخبره فقال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا ! قال: فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها؛ فرجع خالد وهو متغيظ، فجرد سيفه، فخرجت إليه امرأة عريانة، سوداء، ناشرة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فشقها نصفين، ورجع إلى رسول الله  فأخبره فقال: نعم تلك العزى، وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبد4!، وكانت بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني كنانة، وكانت أعظم أصنامهم، وكان سدنتها بنو شيبان من بني سليم.

سرية عمرو بن العاص  إلى سواع:

ومن سرايا شهر رمضان: سرية عمرو بن العاص   إلى سواع سنة ثمان من مهاجر رسول الله ، حيث بعث النبي  حين فتح مكة عمرو بن العاص  إلى سواع – صنم هذيل – ليهدمه، قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن فقال: ما تريد؟ قلت: أمرني رسول الله  أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لِمَ؟ قال: تمنع! قلت: حتى الآن أنت في الباطل! ويحك وهل يسمع أو يبصر؟! قال: فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا فيه شيئاً، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.

سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة:

وكانت سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة في شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله .

إذ بعث رسول الله  حين فتح مكة سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة – وكانت بالمشلل للأوس والخزرج وغسان -، فلما كان يوم الفتح بعث رسول الله  سعد بن زيد الأشهلي يهدمها فخرج في عشرين فارساً حتى انتهى إليها، وعليها سادن، فقال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة! قال: أنت وذاك! فأقبل سعد يمشي إليها، وتخرج إليه امرأة عريانة، سوداء، ثائرة الرأس تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال السادن: مناة دونك بعض غضباتك! ويضربها سعد بن زيد الأشهلي وقتلها، ويقبل إلى الصنم معه أصحابه فهدموه، ولم يجدوا في خزانتها شيئاً، وانصرف راجعاً إلى رسول الله  وكان ذلك لست بقين من شهر رمضان.

سرية علي بن أبي طالب  إلى اليمن:

يقال وقعت سرية علي بن أبي طالب  إلى اليمن مرتين، إحداهما في شهر رمضان سنة عشر من مهاجر رسول الله .

حيث بعث رسول الله  علياً  إلى اليمن، وعقد له لواء، وعممه بيده وقال: امض ولا تلتفت، فإذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك5 فخرج في ثلاثمائة فارس، وكانت أول خيل دخلت إلى تلك البلاد وهي بلاد مذحج، ففرق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم، ونساء وأطفال، ونعم وشاء وغير ذلك، وجعل علي على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمي، فجمع إليه ما أصابوا، ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، ورموا بالنبل والحجارة، فصف أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان السلمي، ثم حمل عليهم علي بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً، فتفرقوا وانهزموا، فكف عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام، وقالوا: نحن على من ورائنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله.

وجمع علي الغنائم فجزأها على خمسة أجزاء فكتب في سهم منها لله، وأقرع عليها فخرج أول السهم سهم الخمس، وقسم علي على أصحابه بقية المغنم، ثم قفل فوافى النبي  بمكة قد قدمها للحج سنة عشر6.

يستفاد مما ذكرنا من السرايا أن شهر رمضان شهر حركة ونشاط وجهاد في سبيل الله، وليس شهر خمول وكسل، واقتصار على ترك الطعام والشراب، وأن الله – جل وعلا – جعله شهر تمحيص وابتلاء، وشهر نصر وتمكين، يوفق من يشاء من عباده إلى مرضاته، وهو  يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 مجالس شهر رمضان لـ(ابن عثيمين – رحمه الله -).

2 رواه مسلم 140 (1/ 258).

3 سورة النساء (94).

4 دلائل النبوة للبيهقي (ج5 / ص119) السيرة النبوية لابن كثير (ج3 / ص597) سبل الهدى والرشاد (ج6 / ص196) مغازي الواقدي (ج1 / ص873).

5 مغازي الواقدي (ج1 / ص1079) غزوات الرسول وسراياه لـ( ابن سعد).

6 غزوات الرسول وسراياه لـ(ابن سعد) (ج1 / ص12). زاد المعاد لـ(ابن القيم) (ج3 / ص146).