المرور في المسجد واتخاذة طريقاً

المرور في المسجد واتخاذه طريقاً

 

المرور في المسجد واتخاذه طريقاً لغير حاجة.

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الأمين, وعلى آله وصحبه والتابعين, أما بعد: فإنَّ المساجد لها مكانتها وشرفها، فلا يجوز امتهانها بكثرة المرور والعبور فيها دون حاجة ضرورية، وإنما لمجرد العادة أو اختصار الطريق، فأما إن كان المرور لحاجة فلا بأس بذلك، وهو ما كان يقع في المسجد النبوي.

وقد ترجم البخاري في صحيحه (باب المرورِ في المسجد) وذكر فيه حديث أبي موسى رفعه: (مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا بِنَبْلٍ فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِهَا)1.

 

قال النووي -رحمه الله- عن هذا الحديث: “فيه هذا الأدب، وهو الإمساك بنصالها عند إرادة المرور بين الناس في مسجد أو سوق أو غيرهما, والنصول والنصال جمع نصل، وهو حديدة السهم, وفيه اجتناب كل ما يخاف منه ضرر2.

وفي صحيح البخاري -أيضاً-: «مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ سِهَامٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَمْسِكْ بنصَالِهَا)3. ولعلّ ذلك كان لحاجة ألجأته إلى المرور، وقد يراد بالمرور الدخول لصلاة أو عبادة ونحو ذلك.

وهكذا روي في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} (43) سورة النساء. عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: “لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل, قال: تمر به مرًا ولا تجلس”4.

 

وروى ابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب أن رجالاً كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، ولا يجدون ممرًا إلا في المسجد، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}5, وفي هذا جواز مرور الجنب في المسجد لحاجة الإتيان بالماء أو للاغتسال، ولا يجوز لغير حاجة، فقد روى أبو داود من حديث أفلت بن خليفة، عن جسرة بنت دجاجة، عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ»6.

 

لكن قال الخطابي: إن أفلت مجهول، وضعف الحديث به، وتعقبه المنذري في تهذيب السنن، وابن القيم في شرح التهذيب بأنه معروف، وقد وثقه بعض الأئمة7, وقد روى البخاري هذا الحديث في ترجمة أفلت من تاريخه الكبير، ولم يجرح أفلت، وسماه بعضهم: فليت، ولكنه ذكر أن عند جسرة عجائب8، وقد رواه ابن ماجه عن أبي الخطاب الهجري، عن محدوج الذهلي، عن جسرة، عن أم سلمة بلفظ: «إِنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَحِلُّ لِجُنُبٍ وَلَا لِحَائِضٍ»9. قال في الزوائد: “إسناده ضعيف، محدوج لم يوثق، وأبو الخطاب مجهول”, ويمكن أنه عن جسرة عن عائشة وأم سلمة إن كان ثابتاً، ولعل نهي الحائض مخافة تلويث المسجد، ومتى أمن ذلك جاز دخولها المسجد.

 

والحديث قد حسنه الزيلعي في نصب الراية عن عائشة، وناقش ما قيل في إسناده من المقال10.

وقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ” قَالَتْ: فَقُلْتُ إِنِّي حَائِضٌ, فَقَالَ: “إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ)11. ثم روى نحوه عن أبي هريرة –رضي الله عنه- ولفظه: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ, نَاوِلِينِي الثَّوْبَ, فَقَالَتْ: إِنِّي حَائِضٌ, فَقَالَ: إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ, فَنَاوَلَتْهُ»12. وظاهره أنه طلب منها ثوباً وهو في المسجد فأتت به، ولم يمنعها الحيض، ولعلها أمنت من التلويث، أو اعتبرت أن النهي عن الجلوس فيه.

 

 وأما الجنب فلعل النهي عن دخوله المسجد لأنه محدث حدثًا أكبر، والمسجد موضع للعبادة، فلابد أن يكون محل احترام، فلا يجلس فيه الجنب، وقد ذهب الأئمة الثلاثة إلى منع الجنب من المسجد حتى يغتسل، لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} أي: لا تقربوا أماكن الصلاة، قال ابن كثير –رحمه الله- عند تفسير الآية: “ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب اللبث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضًا في معناه؛ إلا أن بعضهم قال: يمنع مرورهما لاحتمال التلويث, ومنهم من قال: إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا فل13.

 

وقد ذهب الإمام أحمد إلى جواز دخول الجنب المسجد إذا توضأ، وروي عن الصحابة أنهم كانوا يجلسون في المسجد للتعلم وهم جنب إذا توضؤا، ذكر ذلك ابن كثير –أيضاً- عند تفسير هذه الآية, وروى ذلك بإسناد سعيد بن منصور، عن عطاء بن يسار، قال: “رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا وضوء الصلاة, وقال: “إسناده صحيح على شرط مسلم”14.

والله أعلم بالصواب, وإليه المرجع والمئاب, وصلى الله وسلم على نبيه الكريم, وسبحان الله وبحمده, سبحان الله العظيم, والحمد لله رب العالمين15.

 


 


1 رواه البخاري -433- (2/ 243).

2 شرح النووي على مسلم – (8/447).

3 رواه البخاري -432- (2/241).

4 تفسير ابن أبي حاتم – (19/20).

5 تفسير ابن كثير – ( 2/311).

6 رواه أبو داود -201- (1/294).

7 انظر كلام الخطابي والمنذري وابن القيم على الحديث في تهذيب السنن برقم 220.

8 ترجم البخاري لأفلت برقم 1710.

9 رواه ابن ماجه -637-(2/312).

10 انظر: كتاب فصول ومسائل تتعلق بالمساجد (1/55) للشيخ:عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين.نقلاً عن نصيب الراية(1/ 193) وقد أطال صاحب الراية في تقوية الحديث.

11 رواه مسلم -450- (2/162). والخمرة: هي السجادة من حصير أو نسيجة من خوص انظر:شرح النووي على مسلم – (1/481).

12 رواه مسلم -452- (2/164).

13 تفسير ابن كثير – (ج 2 / ص 311).

14 تفسير ابن كثير – (ج 2 / ص 313). 

15  من كتاب: فصول ومسائل تتعلق بالمساجد (1/55-57) للشيخ:عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين. (بتصرف).