غزوة مؤتة

غزوة مؤتة

 

غزوة مؤتة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

لقد كانت غزوة مؤتة من أول المعارك التي التقى فيها المسلمون مع الروم، ولقد كانت الروم آنذاك أقوى قوة ولم يفكر أحد من العرب في مقاومتها أو الدخول معها في حرب مباشرة.

      ولم يكن ليدخل المسلمون معهم في حرب لولا ما صُنع برسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

       ذلك  أنه بعث الحارث بن عمير بكتاب إلى ملك الروم -أو بُصرى- فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله!.

       قال الواقدي في المغازي: بعث رسول الله الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال: أين تريد؟ قال: الشام. قال: لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم، أنا رسول رسول الله. فأمر به فأوثق رباطاً، ثم قدمه فضرب عنقه صبراً. ولم يقتل لرسول الله رسول غيره، فبلغ رسول الله الخبر فاشتد عليه، وندب الناس وأخبرهم بمقتل الحارث ومن قتله، فأسرع الناس وخرجوا فعسكروا بالجُرف، ولم يبين رسول الله الأمر، فلما صلى الظهر جلس وجلس أصحابه، فقال: "زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس"1. فلما أجمعوا المسير وقد عقد رسول الله لهم اللواء ودفعه إلى زيد بن حارثة -لواء أبيض- مشى الناس إلى أمراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يودعونهم ويدعون لهم، وجعل المسلمون يودع بعضهم بعضاً والمسلمون ثلاثة آلاف، فلما ساروا من معسكرهم نادى المسلمون: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين. فلما ودعهم عبد الله بن رواحة بكى؛ فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله -عز وجل- يذكر فيها النار: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} سورة مريم:71. فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؛ فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين؛ فقال عبد الله بن رواحة:

  لكنني أسأل الرحمـن مغفرةً        وضربة ذات فرع تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حـران مجهزة        بحربة تنفذ الأحشاء والكـبدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي     يا أرشد الله2 من غاز وقد رشد3

وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- مشيعاً لأهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف ووقفوا حوله فقال: "اغزوا بسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين للناس فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلن امرأة ولا صغيراً مرضعاً، ولا كبيراً فانياً، لا تغرقن نخلاً، ولا تقطعن شجراً، ولا تهدموا بيتاً".

ومضى المسلمون من المدينة، حتى نزلوا معان4 من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب، من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم، وجذام، والقين، وبهراء، وبلي، مائة ألف منهم، عليهم رجل من بلي، يقال له: مالك بن زافلة. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فنمضي له. فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم ابن رواحة فشجعهم ثم قال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة! ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي  إحدى  الحسنيين إما ظهور وإما شهادة. قال: فقال الناس: قد -والله- صدق ابن رواحة.  فمضى الناس، فقال عبد الله بن رواحة في محبسهم ذلك:

جلبنا الخيل من أجإ وفرع5        تغر من الحشيش لها العكوم6

حذوناها من الصوان سبتاً          أزل كـأن صفحـته أديم

أقامت ليلتين على معـان          فأعقب بعد فترتها جمـوم

فرحنا والجـياد مسومات          تنفس في مناخرها السموم

فـلا وأبي مآب لنأتينها           وإن كانت بها عرب وروم

فعبأنا أعنتها فجــاءت           عوابس والغبار لها بـريم

بذي لجب كأن البيض فيه          إذا برزت قوانسها النجوم

فراضــية المعيشة طلقتها          أسنتها فتنكـح أو تئـيم

قال ابن إسحاق: ثم مضى الناس، فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك مُردفي على حقيبة رَحله، فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو ينشد أبياته.

لقاء الروم وحلفائهم:

 قال ابن إسحاق: فمضى الناس، حتى إذا كانا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل، من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة، يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عباية بن مالك.

مقتل زيد بن حارثة:

 قال ابن إسحاق: ثم التقى الناس واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- حتى شاط في رماح القوم.

مقتل جعفر:

 ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل. فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام.

قال ابن إسحاق: وحدثني يحي بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها ثم قاتل حتى قتل7 وهو يقول:

يا حبذا  الجـنة واقترابها           طيبة وبارد شرابُها

والروم روم قد دنا عذابُها          كافرة بعيدة أنسابُها

علي إذ لاقيتها ضرابُه8

قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم: أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل -رضي الله عنه- وهو ابن ثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ويقال: إن رجلاً من الروم ضربه يومئذٍ ضربة، فقطعه نصفين9.

مقتل عبد الله بن رواحة:

 قال ابن إسحاق: فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية، ثم تقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثم قال:

أقسمت يا نفس لتنـزلـنه        لتـنـزلن أو لتـكرهنه

إن أجلب الناس وشدوا الرنّة        مالي أراك تكرهين الجـنة

  قد طال ما قد كنت مطمئنة         هل أنت إلا نطفة في شنه10

وقال أيضاً:

يا نفس إلا تقتلي تموتي     هذا حِمام الموت قد صليت

وما تمنيت فقد أعطيت      إن تفعلي فعلهما هديت11

ثم نزل فأتاه ابن عم له بعرق من لحم، فقال: شد بهذا صلبك فإنك لقيت في أيامك هذه ما لقيت. فأخذها فانتهس منها نهسة ثم سمع الخطمة في ناحية الناس. فقال وأنت في الدنيا؟ فألقاها من يده وتقدم، فقاتل حتى قتل.

إمارة خالد:

ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان، فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم، ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس.12

الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتنبأ بما حدث:

 قال ابن إسحاق: ولما أصيب القوم قال رسول الله -فيما بلغني-: " أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً "؛ قال: ثم صمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: " ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً"؛ ثم قال: "لقد رفعوا إليّ في الجنة، فيما يرى النائم، على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورار13عن سريري صاحبيه فقلت: عم هذا ؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد، ثم مضى".14

وعند البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: " أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم "

الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبكي على جعفر:

 قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن أم عيسى الخزاعية، عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عميس، قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد دبغت أربعين منّاً- قال ابن هشام: ويروى أربعين منيئة- وعجنت عجيني، وغسلت بنيّ ودهنتهم ونظّفتهم. قالت: فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ائتيني ببني جعفر"؛ قالت: فأتيته بهم، فتشممهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي، ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: "نعم ، أصيبوا هذا اليوم". قالت: فقمت أصيح، واجتمعت إلي النساء، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أهله، فقال: " لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاماً، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم".

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لما أتى قتل جعفر عرفنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن قالت فدخل عليه رجل فقال يا رسول الله إن النساء قد غلبننا وفتننا قال فارجع إليهن فأسكتهن قال فذهب ثم رجع فقال له مثل ذلك قال يقول وربما ضر التكلف أهله قال فاذهب فأسكتهن فإن أبين فاحث في أفواههن التراب قالت قلت في نفسي أبعدك الله فوالله ما تركت نفسك وما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عرفت أنه لا يقدر على أن يحثو في أفواههن التراب.15

الرسول يلتقي بالأبطال:

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله والمسلمون. قال: ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله مقبل مع القوم على دابة، فقال: "خذوا الصبيان فاحملوهم، أعطوني ابن جعفر"، فأتي بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه. قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يافرّار، فررتم في سبيل الله! قال: فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليسوا بالفُرّار، ولكنهم الكُرار -إن شاء الله تعالى-".

الفوائد والعبر المستفادة من غزوة مؤتة:

1-  جواز الإعلام بموت الميت، ولا يكون ذلك من النعي عنه، وفيه جواز تعليق الإمارة بشرط وتولية عدة أمراء على الترتيب، واختيار الإمام مقدم على غيره؛ لأنه أعرف بالمصلحة العامة، وفيه جواز التأمر في الحرب بغير تأمير.

قال الطحاوي -رحمه الله-:

هذا أصلٌ يُؤخذ منه أنَّ على المسلمين أنْ يقدّموا رجلاً إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أنْ يحضر، وفيه جوازُ الاجتهاد في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وفيه علم ظاهر من أعلام النبوة، وفضيلة ظاهرة لخالد بن الوليد-رضي الله عنه- ولمن ذُكر من الصحابة.

2-   مشروعية توديع المسافر إلى سفر صالح كالجهاد، والحج، ونحوهما.

3-   عظم خشية عبد الله بن رواحة وخوفه النار.

4- بيان حقيقة كشف عنها ابن رواحة وهي أن المسلمين لا يقاتلون بعدد ولا قوة، وإنما يقاتلون بالدين فإن كانوا صالحين مستقيمين انتصروا، وإلا انكسروا.

5-   مشروعية مخاطبة النفس وترويضها على الطاعات.

6- آيات النبوة المحمدية تتجلى في إخبار النبي أهل المدينة بسير المعركة ووصفه لها كأنه يديرها ويشاهد سير القتال  فيها، ولم يخطئ في شئ منها ولو قل، ولم يكن يومئذ أخبار سلكية ولا لاسلكية، ولا عرض تلفاز، ولا فيديو فكان إخباره أعظم آية على أنه رسول الله يتلقى الوحي من الله -عز وجل-.

7-   بيان فضل خالد، وسبب تلقبه بسيف الله.

8-   بيان تألم رسول الله لموت الأمراء وخاصة جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين-.

9- مشروعية صنع الطعام لأهل الميت لانشغالهم بالمصيبة وحزنهم على فقيدهم، وأن أول طعام صنع لهذا الغرض هو ما أمر بصنعه الرسول -صلى الله عليه وسلم-لآل جعفر، فكان سنة قولية عملية.

10-  مشروعية حمل الطفل الصغير وشمه وتقبيله رحمة به وشفقة عليه.16وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. والحمد لله رب العالمين .


 


1 -صحيح البخاري ، كتاب المغازي، غزوة مؤتة إلى الشام، رقم (4261).

2 – في تاريخ الطبري( 3/ 37) " أرشدك الله". وفي تاريخ الإسلام " المغازي" "يا أرشد الله".

3 – انظر الأبيات في : تاريخ الطبري (3/ 37)، والمغازي (204، 205)، والبداية والنهاية (4/ 242).

4 – معان: مدينة في طرف بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء. ( معجم البلدان 5/ 153).

5 – في تاريخ الطبري 3/ 38" من آجم قرح".

6 – أجأ: أحد جبلي طيء والجبل الآخر سُلمى. وفرع: مكان بأجأ. تُغر: تطعم مرة بعد أخرى ، والعكوم : جمع عكم وهو الجب.

7 – سنن أبي داود 3/ 29 كتاب الجهاد رقم (2573) باب في الدابة تعرقب في الحرب.

8 – تاريخ الطبري 3/ 39، نهاية الأرب 17/ 280.

9 – والقصة بنحوها كذلك في الطبقات الكبرى لا بن سعد 2/ 129.

10 – النطفة الماء القليل الصافي. الشنة: السقاء البالي، ضرب بذلك مثلا بقصر العمر.

11 – ديوان ابن رواحة 87، وتاريخ الطبري 3/ 40. ونهاية الأرب 17/ 281.

12 – سيرة ابن هشام: 3/ 11- 19.

13 – الازورار: الميل.

14 – قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 160 رواه الطبراني ورحاله ثقات. وضعفه الألباني في تخريجه فقه السيرة، وانظر الطبقات لابن سعد 2/ 130 ، ونهاية الأرب 17/ 282، وتاريخ الإسلام ( المغازي).

15 – أخرجه أحمد في مسنده برقم (25159). والنسائي وصححه الألباني.

16 – راجع: " هذا الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- يا محب" للشيخ أبي بكر الجزائري-حفظه الله- (387- 388 ).