دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – في المرحلة المكية

دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم

دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – في المرحلة المكية

(2-3)

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:-

ذكرنا في الدرس الماضي مقدمة عن بعثة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ونزول الوحي، وانتشار الإسلام سراً،  فالدعوة كانت سرية وفردية لكن بلغت أنباءها إلى قريش، بيد أنها لم تكترث بها، ولعلها حسبت محمداً –صلى الله عليه وسلم-أحد الديانين الذين يتكلمون في الألوهية وحقوقها، كما كان يصنع أمية بن أبي الصلت وقُس بن ساعدة، وعمرو بن نفيل وأشباههم، إلا أنها توجست خيفة من ذيوع خبره وامتداد أثره، وأخذت ترقب على الأيام مصيره ودعوته.1

مرت ثلاث سنوات والدعوة لم تزل سرية وفردية، وخلال هذه الفترة تكونت جماعة من المؤمنين تجمعهم الأخوة والتعاون، وتبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها. وخلالها كان المسلمون يجتمعون سراً في دار الأرقم بن أبي الأرقم ولم يكونوا يؤدون كثيراً من الشرائع سوى الصلاة, ركعتين في الغداة وركعتين بالعشي مصداقاً لقوله تعالى: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ))(غافر55)وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه إذا حضرت الصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، واستمروا كذلك حتى تنزل الوحي يكلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمعالنته قومه، ومجابهة باطلهم ومهاجمة أصنامهم

 وتبدأ مرحلة جديدة – من مراحل الدعوة في مكة؛ مرحلة الدعوة الجهرية، وكان أول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ))(الشعراء214)

 فدعا صلى الله عليه وسلم بني هاشم فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، حتى تكاملوا خمسة وأربعين رجلاً فبادره أبو لهب، وقال:وهؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلم ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت الرسول – صلى الله عليه وسلم -، ولم يتكلم في ذلك المجلس. ثم دعاهم ثانية، وقال: الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأؤمن به، وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن فيما تعملون وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً. فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك! وأقبلنا لنصيحتك! وأشد تصديقاً لحديثك! وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فأمض لما أمرت به فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب: هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم. فقال أبو طالب: والله لنمنعه ما بقيناً.

وبعدما تأكد للنبي – صلى الله عليه وسلم – تعهد أبي طالب بحمايته، وهو يبلغ عن ربه، قام يوماً على الصفا فصرخ: يا صباحاه. فاجتمع إليه بطون قريش، فدعاهم إلى التوحيد والإيمان برسالته واليوم الآخر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ))(الشعراء214) صعد النبي – صلى الله عليه وسلم – على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر! يا بني عدي! لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش. فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً. قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد. فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: (( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ )) (المسد-1)  2    رواه البخاري وروى مسلم طرفاً آخر من هذه القصة عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ))  الشعراء: 214 دعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فعم وخص. فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً، إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلاها).

 هذه الصيحة العالية هي غاية في الإبلاغ، فقد أوضح الرسول – صلى الله عليه وسلم – لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه وبينهم. وأن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله.

 ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة  والناس بين ضعيف داخل في الإسلام يستخفي بدينه وبين وجيه صاد عن سبيل الله، حتى نزل قوله تعالى: (( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ))(الحجر94) فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعكر على خرافات الشرك وترهاته ويذكر بحقيقة الأصنام، يضرب بعجزها الأمثال، ويبين بالبينات الجلية أن من عبدها وجعلها وسيلة بينه وبين الله فهو في ضلال مبين.

 وهنا انفجرت مكة بمشاعر الغضب وماجت بالغرابة والاستنكار حين سمعت صوتاً يجهر بتضليل المشركين؛ عباد الحجر والشجر، فكأنه صاعقة قصفت السحاب فردعت وبرقت وزلزلت الجو الهادئ، وقامت قريش تستعد لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة ويخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها.

 قامت لأنها عرفت أن معنى الإيمان بنفي الألوهية عما سوى الله، ومعنى الإيمان بالرسالة وباليوم الآخر هو الانقياد التام والتفويض المطلق لهذه الكلمة ومدلولاتها، بحيث لا يبقى لهم خيار في أنفسهم وأموالهم فضلاً عن غيرهم، وبالتالي انتفاء سيادتهم وعلوّهم على العرب.

 عرفوا هذا المعنى فكانت نفوسهم تأبى قبول هذا الوضع المخزي في ظنهم (( َبلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ))(القيامة5).

عرفوا كل ذلك جيداً ولكن ماذا سيفعلون أمام رجل صادق أمين، يمتلك أعلى مراتب القيم والمثل البشرية ومكارم الأخلاق؟ لم يعرفوا له نظيراً ولا مثيلاً خلال تاريخ آباءهم وأجدادهم. وحق لهم أن تتحير معه عقولهم وقلوبهم، ، فقلوبهم تهفوا لما جاء به ملبية نداء الفطرة بدواخلهم، وعقولهم تصد عن ذلك لما علمت من ذهاب حظها من الرئاسة والجاه.

 وبعد إدراة الفكر والمشورة لم يجدوا سبيلاً إلا أن يأتوا إلى عمه أبي طالب، علّهم أن يطلبوا منه كف ابن أخيه عنهم فيستجيب لهم، أو يجدوا عنده مخرجاً مما هم فيه، وقد رأوا أن يلبسوا طلبهم ودعواهم تلك لباس الجد والحقيقة ويقولوا: إن الدعوة إلى ترك آلتهم، والقول بعدم نفعها وقدرتها سبة قبيحة، وإهانة شديدة لها. وفيه تسفيه وتضليل لآبائهم الذين كانوا على هذا الدين, ثم ارتأوا أن يضربوا على وتر الشراكة في المصالح, والاتحاد في الوجهات، فهم على خلاف مع هذا الدين كما أن أبا طالب على خلاف معه.

قال ابن إسحاق: مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً، وردهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعوا إليه.3

وخلال هذه الأيام أهم قريشاً أمراً آخر، وهو أن الجهر بالدعوة لم يمض عليه إلا أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لا بد من كلمة يقولونها للعرب في شأن محمد – صلى الله عليه وسلم – حتى لا يكون لدعوته أثر وصدى في نفوس العرب، فلابد من شن حرب إعلامية هدفها إغلاق أكبر قدر ممكن من الآذان التي يمكن أن تسمع للدين الجديد. فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في أمر تلك الكلمة فقال لهم الوليد: اجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، قالوا: أنت فقل. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا فنقول: مجنون. قالوا: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه- ماهو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فماهو بالشعر قالوا فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وأن أصله لعذق، وإن فرعه لجنة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك.4

وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليهم كل ما عرضوا له قالوا: أرنا رأياً لا غضاضة فيه فقال لهم: أمهلوني حتى أفكر في ذلك، فظلّ الوليد يفكر ويفكر حتى أبد لهم رأيه الذي ذكر آنفاً فأنزل الله فيه ست عشرة آية من سورة المدثر ، خلالها صور كيف فكر وقدر، قال تعالى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ( ) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( ) ثُمَّ نَظَرَ ( ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ( ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ( ) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ( ).. الآيات).

ٍ وبعد اتفاق مجلسهم الأعلى على هذا القرار أخذوا في تنفيذه فجلسوا بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره. وتولى أبو لهب كبر ذلك فقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتبع الناس إذا وافى الموسم في منازلهم وفي عكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى الله وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب… إلا أن السحر انقلب على الساحر وباء سعي أبي لهب بالخسران وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.

واستمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – يدعو إلى الله في كل مكان ووقت لا يفتر أبداً، وقريش  تفكر في أمره مرة وأخرى حتى تلخصت أساليبهم لقمع هذه الدعوة فيما يلي:-

1. السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب والضحك،يقصدون بذلك تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي – صلى الله عليه وسلم – بتهم ساقطة، وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالجنون. ((وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ))(الحجر6) ويصمونه بالسحر والكذب ((وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ))( ص-4) وكانوا يشعيونه ويستقبلونه بنظرات ملتهبة ناقمة، وعواطف هائجة ((وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ))(القلم51) وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزؤوا بهم وقالوا: هؤلاء جلساؤه ((مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا))(الأنعام53) فقال تعالى جواباً عليهم: ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ))(الأنعام53).

2. تشويه تعاليمه وإثارة الشبهات حولها, وبث الدعاوى الكاذبة، ونشر الإيرادات الواهية عنها، وحول وشخصيته، والإكثار من كل ذلك بحيث لا يبقى للعامة مجال في تدبر دعوته، والتفكر فيها فكانوا يقولون عن القرآن ((وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً )(الفرقان:5) وكانوا يقولون: (( إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ))(النحل103) وكانوا يقولون عن الرسول – صلى الله عليه وسلم -: (( مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ)) (الفرقان: 7) وما إلى ذلك من نماذج كثيرة للردود عليهم.

3. ومن الأساليب أيضاً معارضة القرآن بأساطير الأولين فقد ذهب النضر إلى الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وأسفنديار فكان إذا جلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مجلساً للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر يقول: والله ما محمد بأحسن حديثاً مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثاً مني5 وتفيد رواية ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قينتان، فكان لا يسمع برجل مال إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا سلط عليه واحدة منها تطعمه وتسقيه وتغني له حتى لا يبقى له ميل إلى الإسلام وفيه نزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (6) سورة لقمان.

4.   المساومات:

 حاولوا بها أن يلتقي الإسلام والجاهلية في متصف الطريق فعرضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدون إلهه سنة فأنزل الله سورة الكافرون.

فلما لم تنفع كل هذه الوسائل أجمعت قريش أمرها واجتمعت وكونت لها ما يسمى بلجنة المشاورات أعضاؤها خمسة وعشرون رجلاً من سادات قريش رئيسها أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد تشاور هذه اللجنة خرجت  بقرار وهو أن لا تألوا جهداً في محاربة الإسلام، وإيذاء رسوله وتعذيب الداخلين فيه والتعرض لهم بألوان النكال والإيلام6 فأما بالنسبة للمسلمون ولا سيما المستضعفون منهم فكان ذلك في حقهم سهلاً جداً. وأما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإنه كان رجلاً شهماً وقوراً ذا شخصية فذة تتعاظمه نفوس الأعداء والأصدقاء بحيث لا يقابل مثله إلا بالإجلال والتشريف ولا يجترئ على اقتراف هذه الدنايا والرذائل في حقه إلا أرذال الناس وسفهاؤهم، وهو مع ذلك كان في منعة أبي طالب، وأبو طالب من رجال مكة المعدودين عظيماً في حسبه وأصله، ومعظماً بين الناس، فما يجسر أحد على إخفار ذمته. ولذلك فقد أقلق هذا الوضع قريشاً قلقاً كبيراً.

وبدأت مرحلة أخرى في العداء وهي مرحلة الاعتداء الظاهر التآمر الخفي ضد النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلى رأس القوم أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي. فكان أحدهم يطرح عليه رحم الشاه وهو يصلي، وهو – صلى الله عليه وسلم – يقول لهم:  يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في بالطريق. ووضع عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره وهو ساجد فدعا عليهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – فلم يسلم منهم أحد يوم بدر. وكلما ازداد أعداء الله – عز وجل – إيذاءً لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وللمسلمين زاد تمسكهم أكثر وتثبتهم بمنهجهم وعقيدتهم..

ونقف هنا وسنذكر بقية الاضطهادات التي حصلت للصحابة – رضي الله عنهم – في الدرس القادم بمشيئة الله – تعالى-، والحمد لله رب العالمين..


 


1– فقه السيرة ص76.

2– صحيح البخاري ومسلم.

3– ابن هشام (1/265).

4– المصدر السابق (1/271).  

5– ابن هشام 1/299.

6– ابن هشام 1/416.