دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية (1-3)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد:

لقد أرسل الله نبيه محمد  إلى كافة الناس بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين، فقام عليه الصلاة والسلام بواجب الدعوة إلى الله أتم قيام، وتحمل أشد المسؤولية والأذى في سبيل ذلك، فهيا بنا نعيش مع رسول الله  من خلال سيرته العطرة، نرى كيف دعا النبي  – وهو فرد واحد – في قريش والعالم كله ضده، ونرى كيف استطاع في مدة وجيزة أن يوجد ويخرج خير جيل عرفته البشرية، ونبدأ من البداية منذ نزول الوحي عليه .

قال ابن هشام – رحمه الله -: فلما بلغ محمد رسول الله  أربعين سنة بعثه الله – تعالى – رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيراً ونذيراً[1]، ولقد حبب إليه الخلاء فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور، يقيم في شهر رمضان، ويطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك، وكان اختياره  لهذه العزلة طرفاً من تدبير الله له، وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم، ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى، لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة، وهكذا دبر الله ​​​​​​​ لمحمد  وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ، دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما رواء الوجود من غيب مكنون حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله.[2]

الرؤيا الصادقة أول ما بدئ به رسول الله قالت عائشة – رضي الله عنها -: أَوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ  مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ؛ فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، فَكانَ يَأْتي حِرَاءً فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ – وهو التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ -، ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا، حتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ وهو في غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فِيهِ، فَقالَ: اقْرَأْ، فَقالَ له النَّبيُّ : فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتَّى بَلَغَ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق:1-5)، فَرَجَعَ بهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حتَّى دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فَقالَ: يا خَدِيجَةُ، ما لي؟ وأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، وقالَ: قدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فَقالَتْ له: كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ – رضي الله عنها – حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ بنِ أسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ قُصَيٍّ وهو ابنُ عَمِّ خَدِيجَةَ؛ أخُو أبِيهَا، وكانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الجَاهِلِيَّةِ، وكانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العَرَبِيَّ، فَيَكْتُبُ بالعَرَبِيَّةِ مِنَ الإنْجِيلِ ما شَاءَ اللَّهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شَيْخًا كَبِيرًا قدْ عَمِيَ، فَقالَتْ له خَدِيجَةُ: أيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أخِيكَ، فَقالَ ورَقَةُ: ابْنَ أخِي، مَاذَا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ النَّبيُّ  ما رَأَى، فَقالَ ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي أُنْزِلَ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، أكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ : أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ فَقالَ ورَقَةُ: نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا،ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ، وفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةً حتَّى حَزِنَ النَّبيُّ – فِيما بَلَغَنَا – حُزْنًا غَدَا منه مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِن رُؤُوسِ شَوَاهِقِ الجِبَالِ، فَكُلَّما أوْفَى بذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ منه نَفْسَهُ تَبَدَّى له جِبْرِيلُ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ إنَّكَ رَسولُ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذلكَ جَأْشُهُ، وتَقِرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عليه فَتْرَةُ الوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذلكَ، فَإِذَا أوْفَى بذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى له جِبْرِيلُ  فَقالَ له مِثْلَ ذلكَ.[3]

قال ابن حجر – رحمه الله -: وكان ذلك أى: انقطاع الوحي أياماً؛ ليذهب ما كان  وجده من الروع، وليحصل له الشوق إلى العود[4]، فلما تقلصت ظلال الحيرة، وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف  معرفة اليقين أنه أضحى نبياً لله الكبير المتعال، وأن ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء، وصار تشوفه وارتقابه لمجيء الوحي سبباً في ثباته واحتماله عندما يعود؛ جاءه جبريل للمرة الثانية.

روى البخاري عن جابر بن عبد الله  أنه سمع رسول الله يحدث عن فترة الوحي قال: فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني؛ فزملوني، فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر إلى قوله: فاهجر ، ثم حمى الوحي وتتابع.

لقد تلقى النبي  تلك الأوامر من ربه ​​​​​​​ : يا أيها المدثر ۝ قم فأنذر ۝ وربك فكبر ۝ وثيابك فطهر ۝ والرجز فاهجر ۝ ولا تمنن تستكثر ۝ ولربك فاصبر يا أيها المزمل ۝ قم الليل إلا قليلاً.

إن هذه الأوامر قد ترى أنها بسيطة في الظاهر، ولكنها بعيدة المدى والغاية، قوية الأثر والفعل في الحقيقة: فغاية القيام بالإنذار أن لا يترك أحداً ممن يخالف مرضاة الله في الوجود إلا وينذره بعواقبه الوخيمة حتى تقع رجفة وزلزال في قلبه وروعه، وغاية تكبير الرب أن لا يترك لأحد كبرياء في الأرض إلا وتكسر شوكتها، وتقلب ظهراً لبطن حتى لا يبقى في الأرض إلا كبرياء الله – تعالى -، وغاية تطهير الثياب وهجران الرجز أن يبلغ في تطهير الظاهر والباطن، وفي تزكية النفس من جميع الشوائب والألواث، وفي الآية الأخيرة إشارة إلى ما سيلقاه من أذى المعاندين من المخالفة، والاستهزاء، والسخرية؛ إلى الجد والاجتهاد في قتله، وقتل أصحابه، وإبادة كل من التف حوله من المسلمين.

والآيات نفسها تشتمل على مواد الدعوة والتبليغ، فالإنذار نفسه يقتضي أن هناك أعمالاً لها عاقبة سوء يلقاها أصحابها، ونظراً لما يعرفه كل أحد أن الدنيا لا يجازى فيها بكل ما يعمل الناس، بل ربما لا يمكن المجازاة بجميع الأعمال، فالإنذار يوماً للمجازاة غير أيام الدنيا وهو الذي يسمى بيوم القيامة، ويوم الجزاء والدين.

وسائر الآيات تطلب من العباد التوحيد الصريح، وتفويض الأمور كلها إلى الله تعالى، وترك مرضاة النفس والعباد إلى مرضاة الله – تعالى -.

فإذن تتلخص هذه المواد في:

1. التوحيد.

2. الإيمان بيوم الآخرة.

3. القيام بتزكية النفس.

4. تفويض الأمور كلها إلى الله – تعالى -.

5. وكل ذلك بعد الإيمان برسالة محمد ، وتحت قيادته النبيلة، وتوجيهاته.

إنها لكلمة عظيمة رهيبة تنزعه  من دفء الفراش في البيت الهادئ، والحضن الدافئ؛ لتدفع به في الخضم بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس، وفي واقع الحياة سواء.

وقام رسول الله  فضلّ قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً! لم يسترح، ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله، قام وظل قائماً على الدعوة إلى الله – تعالى -، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به، عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء  البشرية كلها، عبء العقيدة كلها، عبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى، عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً لا يلهيه شأن عن شأن من خلال هذا الأمد منذ أن سمع النداء العلوي الجليل، وتلقى منه التكليف الرهيب .. جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء.[5] وليست الأوراق الآتية إلا صورة مصغرة بسيطة من هذا الجهاد الطويل الشاق الذي قام به رسول الله  خلال هذا الأمد.

يمكننا أن نقسم دعوة النبي  في المرحلة المكية إلى ثلاث مراحل:

1. مرحلة الدعوة السرية، ثلاث سنين.

2. مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى أواخر السنة العاشرة.

3. مرحلة الدعوة خارج مكة، وفشوها فيهم، من أواخر السنة العاشرة من النبوة إلى هجرته  إلى المدينة.

ومعلوم أن مكة كانت مركز دين العرب، وبها سدنة الكعبة، والقوام على الأوثان والأصنام المقدسة عند سائر العرب، فالوصول إلى المقصود من الإصلاح فيها يزداد عسراً وشدة عما لو كان بعيداً عنها، فالأمر يحتاج إلى عزيمة لا تزلزلها المصائب والكوارث، لذا كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية لئلا يفاجئ أهل مكة بما يهيجهم.

وكان من الطبيعي أن يعرض الرسول  الإسلام أولاً على ألصق الناس به، وآل بيته، وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا كل من توسم فيه خيراً ممن يعرفهم ويعرفونه؛ يعرفهم بحب الخير، ويعرفونه بتحري الصدق، والصلاح.

فأجابه من هؤلاء – الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول ، وجلالة نفسه، وصدق خبره – جمع عرفوا في التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم زوجة النبي  أم المؤمنين خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها -، ومولاه زيد بن ثابت بن شرحبيل الكلبي ، وابن عمه علي بن أبي طالب  وكان صبياً يعيش في كفالة الرسول، وصديقه الحميم أبوبكر الصديق ، أسلم هؤلاء في أول أيام الدعوة.

وأصبح كل واحد منهم أمة لوحده يدعو إلى الله – تعالى -، فهذا أبوبكر  بعد أن أسلم نشط في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلاً مألفاً محبباً سهلاً، ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان الأموي ، والزبير بن العوام الأسدي ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله التيمي ، فكان هؤلاء الذين سبقوا الناس هم الرعيل الأول، وطليعة الإسلام.

ومن أوائل المسلمين بلال بن رباح الحبشي ، ثم تلاهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح من بني الحارث بن فهر ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، والأرقم بن أبي الأرقم المخزوميان ، وعثمان بن مظعون ، وأخواه قدامة وعبد الله – رضي الله عنهما -، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، وسعيد بن زيد ، وامرأته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر – رضي الله عنها -، وخباب بن الأرت ، وعبد الله بن مسعود ، وخلق سواهم، وأولئك هم السابقون الأولون، وهم من جميع بطون قريش، وعدهم ابن هشام أكثر من أربعين نفراً.[6]

قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به.

أسلم هؤلاء سراً، وكان الرسول  يجتمع بهم، ويرشدهم إلى الدين متخفياً؛ لأن الدعوة كانت لا تزال فردية وسرية، وكان الوحي قد تتابع وحمي بعد أن فتر، وبعد نزول أوائل المدثر، وكانت الآيات وقطع السور التي تتنزل في هذا الزمان قصيرة، ذات فواصل رائعة، تشتمل على تحسين وتزكية النفس، وتقبيح تلويثها برغائم الدنيا، تصف الجنة والنار كأنهما رأي عين، تسير بالمؤمنين في جو آخر غير الذي فيه المجتمع البشري آنذاك.

وإلى هنا انتهى الدرس الأول، ويليه الدرس الثاني بمشيئة الله – تعالى -.

والحمد لله رب العالمين.


[1]– سيرة ابن هشام 1 /263.

[2]– في ظلال القرآن 29 /166-167.

[3]– صحيح البخاري كتاب العلم (1 /2).

[4]– فتح الباري (1 /27).

[5]– في ظلال القرآن تفسير سورة المزمل والمدثر (29 /168-171).

[6]– سيرة ابن هشام (1 /245) وما بعدها.