التعريض بخطبة المرأة أثناء العدة

التعريض بخطبة المرأة أثناء العدة

التعريض بخطبة المرأة أثناء العدة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فقد أجاز الله للرجل أن يعرض في خطبة المرأة المتوفى عنها زوجها، أو المطلقة طلاقاً بائناً في حال عدتها، وحرم عليه أن يصرح بذلك؛ فقال رب العزة والجلال في محكم التنزيل: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} سورة البقرة (235).

شرح الآيـة:

قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي لا إثم عليكم أن تعرضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح.

قوله تعالى: {فِيمَا} أي في الذي {عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} "التعريض" هو أن يأتي الإنسان بكلام لا يصرح فيه بمراده؛ لكنه مقارب، مثل أن يقول للمرأة: "إني في مثلكِ لراغب"؛ "إنكِ امرأة يرغب فيكِ الرجال"؛ "إذا انقضت العدة فأخبريني"؛ وعلى هذا فقس؛ فهذا ليس فيه تصريح أن يخطبها لا لنفسه ولا لغيره؛ لكنه يسمى تعريضاً؛ والتعريض والتلويح بمعنى واحد.

و"الخطبة" معناها أن يعرض الإنسان نفسه على المرأة ليتزوجها، ويطلبها إليه؛ وسميت خطبة إما من الخَطْب بمعنى الشأن؛ لأن هذا شأنه عظيم؛ وإما من الخطابة؛ لأنها مقرونة بالقول -حتى إنه كان فيما سلف يأتي الخاطب إلى المرأة، وأهلها، ويخطب فيهم- يعني يتكلم بخطبة، ثم يبدي أنه يرغبها؛ ومع ذلك يفرقون بين الخِطبة -بالكسر-؛ وبين الخُطبة -بالضم-؛ فالخُطبة بالضم: هي القول المشتمل على الوعظ والتذكير، وما أشبه ذلك؛ والخِطبة -بالكسر-: هي طلب المرأة لتكون زوجة للطالب؛ والمراد بـ{النساء} هنا: من مات عنهن أزواجهن.

وقد أجاز الله التعريض في خطبة المرأة أثناء العدة، وحرم التصريح، والفرق بين التعريض والتصريح: أن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فلهذا حرم، خوفا من استعجالها، وكذبها في انقضاء عدتها، رغبة في النكاح، ففيه دلالة على منع وسائل المحرم، وقضاء لحق زوجها الأول بعدم مواعدتها لغيره مدة عدتها.

وأما التعريض، وهو الذي يحتمل النكاح وغيره، فهو جائز للبائن كأن يقول لها: إني أريد التزوج، وإني أحب أن تشاوريني عند انقضاء عدتك، ونحو ذلك، فهذا جائز لأنه ليس بمنزلة الصريح، وفي النفوس داع قوي إليه.

وكذلك إضمار الإنسان في نفسه أن يتزوج من هي في عدتها إذا انقضت، ولهذا قال: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} هذا التفصيل كله في مقدمات العقد. وأما عقد النكاح فلا يحل {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} أي تنقضي العدة.

قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} أي تكلمون فيهن معربين عن رغبتكم في نكاحهن، مثل أن يذكر لأخيه، أو لأبيه، أو لابنه، أو لصديقه بأنه يرغب أن يتزوج فلانة.

قوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} {لا} ناهية؛ لحذف النون؛ و{سِرّاً} ذكر كثير من المفسرين أن "السر" من أسماء النكاح -أي لا تواعدوهن نكاحاً؛ وقالوا: إن "السر" من أسماء النكاح؛ لأنه يقع بين الرجل وامرأته سراً.

وقال بعض العلماء: {لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} أي وعداً سراً فيما بينكم وبينهن؛ وإذا نهي عن السر فالعلانية من باب أولى.

قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} استثناء منقطع؛ وعلامته أن تكون "إلا" بمعنى "لكن"، وأن لا يكون ما بعدها من جنس ما قبلها؛ فقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} ليس هو من جنس ما قبله من المواعدة سراً؛ لأن المواعدة سراً ليس من القول المعروف؛ إذ إن القول المعروف هو التعريض دون التصريح.

قوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ}؛ العزم على الشيء إرادة فعله بلا تردد؛ والمراد به هنا الفعل؛ و{عقدة النكاح} أي عقده؛ لأن النكاح عقد بين الزوج والزوجة؛ فهو كالعقود الأخرى، كعقد البيع، وما أشبه ذلك.

وقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}؛ {حتى} للغاية، وما بعدها منصوب بها؛ و{الكتاب} فعال بمعنى مفعول؛ والمراد بـ{الكتاب} هنا -كما ذكره المفسرون- العدة؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- فرضها؛ فهي مفروضة؛ يعني حتى يبلغ المفروض أجله؛ والمفروض هي العدة؛ ويحتمل أن يكون المراد بـ{الْكِتَابُ} هنا ما يكتبونه عند ابتداء سبب العدة من موت، أو طلاق، أو نحوه، كأن يقال مثلاً: توفي في يوم كذا؛ ويكون هذا داخلاً في قوله تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} سورة الطلاق(1). يعني اضبطوها، وحرروها؛ وعلى هذا فيكون المعنى الكتاب المكتوب الذي فيه بيان متى كان سبب العدة من وفاة، أو طلاق.

وقوله تعالى: {أَجَلَهُ} أجل الشيء منتهاه وغايته، أي حتى يبلغ غايته حسب ما فرض الله سبحانه وتعالى.

قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا} فعل أمر؛ وأتى سبحانه وتعالى به للأهمية، والتحذير من المخالفة؛ وهذه الجملة يؤتى بها من أجل التنبيه؛ فيقال: اعلم كذا، وكذا؛ لكي تنتبه؛ {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} أي ما استقر في أنفسكم مما تضمرونه من كل شيء؛ {فَاحْذَرُوهُ} الفاء هذه للتفريع -أي إذا علمتم هذا فاحذروا الله -عز وجل- من أن تضمروا في هذه الأنفس ما لا يرضاه سبحانه وتعالى؛ والحذر من الشيء معناه أخذ الحِذْر وهو الاحتياط وعدم المخالفة.

قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}؛ فإذا أضمرتم في أنفسكم ما لا يرضاه فإن لديكم باباً واسعاً وهو المغفرة؛ تعرضوا لمغفرة الله -عز وجل- بأن تستغفروه، وتتوبوا إليه.

بعض الفوائد المستفادة من الآية:

1.     جواز التعريض في خطبة المتوفى عنها زوجها؛ لقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}.

2.  تحريم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة؛ لقوله تعالى: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} فنفي الجناح عن التعريض -وهو دون التصريح- يدل على تحريم التصريح؛ ويؤيده قوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً}. وتكميلاً لهذه الفائدة نقول- كما قاله العلماء-: إن خطبة المعتدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: تحرم تصريحاً وتعريضاً؛ وتباح تصريحاً وتعريضاً؛ وتحرم تصريحاً لا تعريضاً؛ فالأول: في الرجعية لغير زوجها؛ فيحرم على الإنسان أن يخطب الرجعية لا تصريحاً، ولا تعريضاً؛ والرجعية هي المعتدة التي يجوز لزوجها أن يراجعها بغير عقد؛ لأنها زوجة، كما قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} إلى أن قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا} سورة البقرة (228)؛ والتي تحل تصريحاً وتعريضاً هي البائن من زوجها بغير الثلاث، كالمطلقة على عوض، والمختلعة، والفاسخة لنكاحها بسبب، وما أشبه ذلك؛ فيجوز لزوجها أن يخطبها تعريضاً، وتصريحاً، وأن يتزوجها؛ والتي تباح تعريضاً لا تصريحاً كل مبانة لغير زوجها؛ فيجوز لغير زوجها أن يعرض بخطبتها بدون تصريح، كالمتوفى عنها زوجها تجوز خطبتها تعريضاً لا تصريحاً.

3.     جواز إضمار الإنسان في نفسه خطبة امرأة لا يجوز له التصريح بخطبتها؛ لقوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ}.

4.  جواز ذكر الإنسان المرأة المعتدة في نفسه، ولغيره؛ لقوله تعالى: {عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ فلو قال شخص: "إنني أريد أن أتزوج امرأة فلان المتوفى عنها زوجها" يحدث غيره: فلا بأس به.

5.  أنه لا يجوز للإنسان أن يواعد المعتدة من الوفاة بالنكاح، فيقول: "إذا انتهت عدتك فإنني سأتزوجك"؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً}.

6.     أن التعريض بخطبة المتوفى عنها زوجها من القول المعروف غير المنكر؛ لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً}.

7.  بطلان عقد النكاح في أثناء عدة المتوفى عنها زوجها؛ لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}. قال ابن كثير رحمه الله: "وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة. واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها، فإنه يفرق بينهما، وهل تحرم عليه أبداً؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها. وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد".

والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ فإن الإمام مالك استدل بأثر لا يصح عن عمر.

8.     الإشارة إلى العناية بالعدة، وأنه ينبغي أن تكتب؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}.

9.     وجوب مراقبة الله –تعالى- في السر والعلن واتقاء الأسباب المفضية بالعبد إلى فعل محرم1.

والله نسأل أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ­­­­


 


1 المراجع: تفسير القرآن العظيم (1/385) لابن كثير. والجامع لأحكام القرآن(3/178) للقرطبي. وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/105) لابن سعدي. وتفسير ابن عثيمين المجلد الثالث. وأيسر التفاسير(1/118) لأبي بكر الجزائري.