بناء المسجد في الطريق

بناء المسجد في الطريق

 

بناء المسجد في الطريق

 

الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..

أما بعد:

إن الطرق في عصرنا هذا من جهة الخطورة الناتجة عن السير فيها نوعان:-

النوع الأول: طرق سريعة خاصة بالسيارات، لا يسمح للمشاة تجاوزها، لشدة سرعة السيارات فيها، فهذه -وإن كانت فسيحة- إلا أن بناء المساجد فيها وفي الجزر التي في وسطه لا ينبغي؛ لما فيه من الخطورة العظيمة الناتجة عن تجاوز المصلين إلى المسجد؛ ولما فيه من الإزعاج بسبب أصوات السيارات, وربما أوقف بعض الناس سياراتهم للصلاة في الطريق، فيحصل بسبب وقوفهم خطر، لكن لو بني المسجد في فسحة على أحد جانبي الطريق وعمل نفق يوصل من الجانب الثاني إليه بأمان وطمأنينة فهذا أمر طيب ومرغوب فيه.

 

النوع الثاني: طرق للسيارات أو للمشاة داخلية يحصل الخطر فيها بسبب من يتلاعب بقيادة السيارات أو الدراجات، ويحصل أذىً للمسلمين بسبب استغلال الطريق وهو ضيق, فبناء المسجد فيه لا يجوز؛ لأنه حق مشاع للاستطراق، فلا يوضع فيه ما يعرقله.

 

ودليل هذا ما روي عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إياكم والجلوس بالطرقات. قالوا: يا رسول الله: ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه) . قالوا: وما حقه؟ قال: (غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)1.

 

وجه الدلالة من الحديث: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الجلوس بالطرقات، وأمر من كان لا بد جالساً أن يكف أذاه، وبناء المسجد في الطريق الضيق أذى؛ لأن أهل الطريق يتضررون، فلا يحل أذاهم بنص الحديث؛ ولأن الطريق حق مشاع لجميع المسلمين، فلا يحل أذاهم باقتطاع جزء منه وهم كارهون.

وأما إذا لم يكن ثمةَ أذىً، بأن كان أهل الطريق لا يتضررون من بناء المسجد فيه، بل ربما استفادوا منه، فحينئذ بناء المسجد في الطريق جائز, ودليل هذا قول البخاري -رحمه الله تعالى-:

 

 

“باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس” . ثم ساق بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله     -صلى الله عليه وسلم- طرفي النهار بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره, فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين)2

 

وجه الدلالة من هذا الخبر أن أبا بكر بنى مسجداً في جانب الطريق لا يضر بأحد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد اطلع عليه وأقره؛ فدل ذلك على جوازه؛ إذ لا ضرر على الناس منه. وقيل: لا يجوز بناء مسجد في الطريق، وقيل: إن بناه لنفسه فلا يجوز، وإن بناه للناس جاز3 وقيل: إن بناه لنفسه لصلاة النوافل أو للناس ولا ضرر على أحد منه جاز؛ لأنه لا يبنيه للتملك، وإنما يبنيه للصلاة، والصلاة في الطريق جائزة4, ودليل هذا أن إبراهيم بن يزيد التيمي قال: «كنت أقرأ القرآن على أبي في السدة5، فإذا قرأت السجدة سجد، فقلت له: يا أبت: أتسجد في الطريق؟ قال: إني سمعت أبا ذر –رضي الله عنه- يقول : سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أول مسجد وضع في الأرض، قال: “المسجد الحرام“, قلت: ثم أي؟ قال: “المسجد الأقصىثم الأرض لك مسجداً، فحيثما أدركتك الصلاة فصلِّ»6.   

وأما جعل الطريق يمر من تحت المسجد فقد كره ذلك الإمام أحمد وقال: “كان ابن مسعود يكره أن يصلي في المسجد الذي بني على قنطرة”7

 

وأصل هذه المسألة أن طريق المسلمين لا يبنى فيه مسجد ولا غيره عند الإمام أحمد, وهواء الطريق حكمه عنده حكم أسفله، فلا يجوز عنده إحداث ساباط على الطريق، ولا البناء عليه, والنهر الذي تجري فيه السفن حكمه عنده كحكم الطريق، لا يجوز البناء عليه, ورخص آخرون في بناء المساجد في الطريق الواسع، إذا لم يضر بالمارة.

ومنهم من اشترط لذلك إذن الإمام، وحكي رواية عن أحمد –أيضاً-.

قال الشالنجي: سألت أحمد: هل يبنى على خندق مدينة المسلمين مسجد للمسلمين عامة؟

قال: لا بأس بذلك إذا لم يضيق الطريق8.

والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين9


 


1 رواه البخاري -5761- (ج 19 / ص 239)و مسلم -4021- (ج 11 / ص 124)وانظر:شرح النووي على مسلم -3960- (ج 7 / ص 235).

2 رواه البخاري -456- (ج 2 / ص 284).

3 (1) انظر: المجموع شرح المهذب تكملة المطيعي ـ رحمه الله ـ ( 17 / 384 )، وكشاف القناع للبهوتي ( 2 / 368 )الشرح الكبير لابن قدامة – (ج 1 / ص 481).

4 أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية للخضيري – (ج 1 / ص 9).

5 السدة بالضم: باب الدار ، وقيل: أمام باب الدار . والسدة في كلام العرب : الفناء ، وقيل : كالصفة تكون بين يدي البيت ، والظلة تكون بباب الدار ، وسدة المسجد الأعظم ما حوله من الرواق انظر: لسان العرب – (ج 3 / ص 207), تاج العروس – (ج 1 / ص 2027).

6 رواه البخاري -3172- (ج 11 / ص 237).ومسلم -809- (ج 3 / ص 106).

7 فتح الباري لابن رجب – (ج 3 / ص 113) فتح الباري لابن رجب – (ج 3 / ص 113).

8 انظر: المرجع السابق.

9 راجع: كتاب أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية – (ج 1 / ص 9).