من أحكام الرضاع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فقد اهتم ديننا الإسلامي الحنيف بالإنسان منذ أن كان في رحم أمه، فحرم الإجهاض، وإسقاط الجنين، بل حث على رعايته وحمايته وهو في بطن أمه، وبعد أن يخرج من بطن أمه اهتم الإسلام به، فشرع العقيقة عنه، وختانه، وغير ذلك، وبعد ذلك أمر بإرضاعه سنتين، ثم اهتم به في جميع مراحل عمره، يقول الله -تعالى-: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} سورة البقرة(233).
شرح الآيـة:
أرشد الله الوالدات إلى أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة؛ وهي سنتان. فقوله: {وَالْوَالِدَاتُ} أي اللاتي ولدن؛ {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} الإرضاع معروف؛ والأولاد يشمل الذكور والإناث؛ كما في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} سورة النساء(11). والجملة خبرية بمعنى الأمر؛ وإتيان الأمر بصيغة الخبر أبلغ من الأمر المحض؛ كأنه حين يأتي بصيغة الخبر أمر مستقر يتحدث عنه.
قوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} “الحول” بمعنى السنة؛ وهو اثنا عشر شهراً هلالياً؛ ثم أكد الله هذين الحولين بقوله تعالى: {كَامِلَيْنِ} أي بدون نقص.
وإرضاع المولود سنتان لمن أراد، وليس واجباً؛ لقوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فإذا تم للرضيع حولان، فقد تم رضاعه وصار اللبن بعد ذلك بمنزلة سائر الأغذية، فلهذا كان الرضاع بعد الحولين غير معتبر، لا يحرم.
قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} أي على الزوج، أو السيد، أو الواطئ بشبهة {رزقهن} أي نفقتهن؛ {وكسوتهن} أي ما يكسو به الإنسان بدنه؛ {بالمعروف} أي وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهنّ من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره؛ كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} سورة الطلاق(7). قال الضحاك: إذا طلَّقَ الرجل زوجته وله منها ولد، فأرضعت له ولده، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف. وهذا شامل لما إذا كانت في حباله أو مطلقة، فإن على الأب رزقها، أي نفقتها وكسوتها، وهي الأجرة للرضاع.
ودل هذا على أنها إذا كانت في حباله لا يجب لها أجرة، غير النفقة والكسوة، وكل بحسب حاله، فلهذا قال: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا} فلا يكلف الفقير أن ينفق نفقة الغني، ولا من لم يجد شيئا بالنفقة حتى يجد، {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} أي لا يحل أن تضار الوالدة بسبب ولدها، إما أن تمنع من إرضاعه، أو لا تعطى ما يجب لها من النفقة، والكسوة أو الأجرة، {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} بأن تمتنع من إرضاعه على وجه المضارة له، أو تطلب زيادة عن الواجب، ونحو ذلك من أنواع الضرر. ودل قوله: {مَوْلُودٌ لَهُ} أن الولد لأبيه، لأنه موهوب له، ولأنه من كسبه، فلذلك جاز له الأخذ من ماله، رضي أو لم يرض، بخلاف الأم.
وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} أي على وارث الطفل إذا عدم الأب، وكان الطفل ليس له مال، مثل ما على الأب من النفقة للمرضع والكسوة، فدل على وجوب نفقة الأقارب المعسرين، على القريب الوارث الموسر، {فَإِنْ أَرَادَا} أي الأبوان {فِصَالا} أي فطام الصبي قبل الحولين، {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} بأن يكونا راضيين {وَتَشَاوُرٍ} فيما بينهما، هل هو مصلحة للصبي أم لا؟ فإن كان مصلحة ورضيا {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} في فطامه قبل تمام الحولين، فدلت الآية بمفهومها، على أنه إن رضي أحدهما دون الآخر، أو لم يكن مصلحة للطفل، أنه لا يجوز فطامه. فلابد من أن يقع التشاور من أجل مصلحة الطفل؛ فينظر هل من مصلحته أن يفطم قبل الحولين؛ أو من المصلحة أن يبقى حتى يتم الحولين؛ أو من المصلحة أن يبقى بعد الحولين أيضاً – فربما يكون محتاجاً إلى الرضاعة حتى بعد الحولين. وقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} أي تطلبوا لهم المراضع غير أمهاتهم على غير وجه المضارة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي للمرضعات. وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في جميع أحوالكم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم.
بعض الفوائد المستفادة من الآية:
1. وجوب الإرضاع على الأم؛ لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ}.
2. أن الله -عزّ وجل- أرحم بخلقه من الوالدة بولدها؛ لأنه أمرها أن ترضع مع أن فطرتها، وما جبلت عليه تستلزم الإرضاع؛ وهذا لأن رحمة الله أعظم من رحمة الأم بولدها؛ ومثله قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} سورة النساء(11)؛ فلأن الله أرحم بأولادنا منا أوصانا فيهم.
3. أن الرضاع التام يكون حولين كاملين؛ لقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}.
4. أن الرضاع المعتبر شرعاً ما كان في الحولين، وكانت خمس رضعات مشبعات، ولو متفرقات.
5. أن أقل مدة لحمل المرأة ستة أشهر؛ كما فهم ذلك ابن عباس- رضي الله عنهما- من قوله تعالى: {وحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} سورة الأحقاف(15) مع قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} سورة البقرة(233). فهذا يبين أن أمد الفصال عامان، وهما أربعة وعشرون شهراً، فإذا طرحتها من الثلاثين بقيت ستة أشهر، فتعين كونها أمداً للحمل، وهي أقله، ولا خلاف في ذلك بين العلماء.
6. أنه يجوز النقص عن الحولين؛ لكن ذلك بالتشاور والتراضي؛ لقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}؛ لكن يجب أن نعلم أن الإتمام تارة يكون واجباً إذا ترتب على تركه إخلال بواجب، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)1؛ وتارة يكون من باب الكمال، كما في هذه الآية: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} إلخ…؛ ولو كان الإتمام إتمام واجب لم يكن فيه خيار.
7. اعتبار العرف بين الناس؛ لقوله تعالى: {بالمعروف}؛ وهذا ما لم يخالف الشرع؛ فإن خالفه رد إلى الشرع.
8. أنه يجب على المولود له رزق المرأة وكسوتها بالمعروف؛ فيرجع إلى العرف في نوع الرزق، وكميته، وكيفيته؛ وكذلك الكسوة.
9. وجوب الإنفاق على المولود له من زوج أو غيره للمرضع؛ وظاهر الآية أنه لا فرق بين أن تكون الزوجة في حباله، أو بائناً منه؛ فإن كانت في حباله فلوجوب الإنفاق عليها سببان: الزوجية، والإرضاع؛ وإن لم تكن في حباله فلها سبب واحد – وهو الإرضاع؛ ولا يمتنع أن يكون للحكم الواحد سببان، كما في الزوج يكون ابن عم، فيرث بالزوجية، والقرابة.
10. أن الله –عز وجل- لا يكلف نفساً ما لا تطيق؛ لقوله تعالى: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا}، أي طاقتها.
11. تحريم المضارة؛ لقوله تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ}؛ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا ضرر ولا ضرار)2، وقال صلى الله عليه وسلم: (من ضار ضار الله به)3؛ ولا فرق بين أن تكون المضارة من الوالدة للمولود له، أو بالعكس؛ لأن الآية تحتمل هذا وهذا.
12. وجوب النفقة للمولود على الوارث؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}؛ وإيجاب النفقة للمرضع من أجل الرضيع دليل على وجوب الإنفاق على الرضيع نفسه.
13. أنه يجوز للأم أن تفطم الولد قبل تمام الحولين؛ لكن بشرط التراضي والتشاور؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}.
14. عناية الله -عز وجل- بالرضَّع؛ لأنه لم يبح فطامهم قبل الحولين إلا بعد التراضي بين الوالدة والمولود له، والتشاور.
15. أنه لا يكفي المراضاة بين الزوجين في الفطام؛ بل لا بد أن يكون هذا بعد التشاور، والمراجعة في الأمر حتى إذا تبينت مصلحة الطفل جاز ذلك.
16. جواز استرضاع الإنسان لولده المراضع؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}؛ ولو أن الأم طلبت أن ترضعه، وقال الأب: ترضعه غيرها أجبر الأب على موافقة الأم؛ لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ}؛ فبدأ بـ{الوالدات}؛ لأن الأم أشفق، ولبنها لطفلها أطيب؛ ولأن ذلك أدعى إلى التعاطف بين الأم وولدها.
17. أنه يجب على الإنسان تسليم العوض بالمعروف، أي بدون مماطلة وبدون نقص؛ لقوله تعالى: {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ}.
18. أنه لا يجب للأجير إلا ما اتفق عليه في العقد؛ لقوله تعالى: {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ}؛ فلو أن المستأجر طلب منه أن يزيد في الأجرة فإنه لا يلزمه؛ حتى ولو زادت المؤن فلا يلزمه شيء سوى ما اتفقا عليه.
19. التحذير من مخالفة أمر الله؛ لأنه سبحانه وتعالى بعد أن أمر بالتقوى قال: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يحذرنا من مخالفة أمره بذلك4.
إلى غير ذلك من الفوائد التي تدل عليها الآية الكريمة. اللهم انفعنا بما علمنا، وزدنا علماً.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 رواه البخاري من حديث أبي هريرة وغيره.
2 رواه أحمد ومالك في الموطأ، وصححه الألباني بمجموع طرقه.
3 رواه الترمذي من حديث أبي صرمة، وقال الشيخ الألباني: “حسن” كما في صحيح الجامع، رقم (6372). وفي الجامع الصغير وزيادته، رقم (11318).
4 المراجع: تفسير القرآن العظيم (1/633) لابن كثير. والجامع لأحكام القرآن(3/152) للقرطبي. ومعالم التنزيل (1/277) للبغوي. وأضواء البيان(7/327) وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ(104) لابن سعدي. وتفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث. وأيسر التفاسير (1/116) لأبي بكر الجزائري..