الفرار من الموت
الحمد لله العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله -تبارك وتعالى- قد قضى بالموت على كل مخلوق، مهما كان هذا المخلوق، وفي أي مكان كان، ولو كان في بروج مشيدة، وفي حراسة تامة مشددة، فإن الموت ملاقيه، ولو فر منه إلى مكان بعيد، فإنه سيموت، وإن المخلوقات من الجن والإنس والحيوانات لتكره هذا المصير، ويشق عليها مفارقة المألوف من العيش، وقد قص الله تعالى قصة في كتابه مختصرة لقوم خرجوا من ديارهم حذر الموت ولكن لم يغن ذلك عنهم شيئاً من الموت، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} سورة البقرة (243– 245).
الفرار من الموت "لا يغني حذر من قدر":
يقص الله –تبارك وتعالى- علينا في هذه الآية قصة الذين خرجوا من ديارهم على كثرتهم، واتفاق مقاصدهم، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ} أي ألم تنظر وتتأمل في قصة {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} لم يبين الله -عزّ وجلّ- من هؤلاء الذين خرجوا، فقيل: إنهم من بني إسرائيل، وقيل: إنهم من غيرهم، والمهم القصة والقضية التي وقعت، و{من ديارهم} أي من بيوتهم وأحيائهم التي يأوون إليها، {وهم ألوف} من صيغ جموع الكثرة، فقيل: إنهم ثمانية آلاف، وقيل: ثمانون ألفاً، وإذا نظرت إلى صيغة اللفظ {ألوف} وجدت أنها تدل على أنهم أكثر من ثمانية آلاف، وأنهم عالم كثير، و{حذر الموت} مفعول لأجله، والعامل قوله تعالى: {خرجوا} يعني خرجوا خوفاً من الموت، وهل هذا الموت طبيعي لأنه نزل في أرضهم وباء، أو الموت بالقتال في سبيل الله؟ في ذلك قولان لأهل العلم: فمنهم من يقول -وهم أكثر المفسرين-: إن المراد: خرجوا من ديارهم خوفاً من الموت لوباء وقع في البلاد، فخرجوا فراراً من قدر الله، فأراد الله -عز وجل- أن يريهم أنه لا مفر منه إلا إليه، وقيل: إن المراد: خرجوا حذر الموت بالقتل، لأنهم دهمهم العدو، ولكنهم جبنوا، وخرجوا خوفاً من أن يقتلهم العدو، فالذين قالوا بالأول قالوا: لأنا إذا أخذنا الآية بظاهرها -{حذر الموت}- تبين أنه نزل في أرضهم وباء، فخرجوا من ديارهم خوفاً من الوباء، والذين قالوا بالثاني قالوا: لأن الله -سبحانه وتعالى- قال بعدها: {وقاتلوا في سبيل الله} سورة البقرة(190)، فكأن الله عرض قصة هؤلاء الذين جنبوا وهربوا توطئة لأمرنا بالقتال في سبيل الله، وأن نصبر.
فلما كان فروا من قدر الله الكوني الذي لا مفر منه لكل كائن خلقه الله -تعالى-، حتى ولو فر هذه الفار إلى أي مكان فإنه لن ينجيه ذلك من قدر الله "الموت"، قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} سورة الجمعة(8)، وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} سورة النساء(78)..
فقال تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا}، وإذا أراد الله شيئاً فإنما: {يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فماتوا، {ثم أحياهم}، "ثم" تدل على التراخي، وأن الله-سبحانه وتعالى- أحياهم بعد مدة، وقيل: إنه أحياهم لسبب، وهو أن نبياً من الأنبياء مرّ بهم وهم ألوف مؤلفة جثث هامدة، فدعا الله أن يحييهم، فأحياهم الله، وقال بعض المفسرين: إن الله أحياهم بدون دعوة نبي، وهذا هو ظاهر اللفظ، وأما الأول فلا دلالة عليه، وعليه فنقول: إن الله أحياهم ليُري العباد آياته، ولهذا قال: {إن الله لذو فضل} أي عظيم {على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون} فلا تزيدهم النعمة شكرا، بل ربما استعانوا بنعم الله على معاصيه، وقليل منهم الشكور الذي يعرف النعمة ويقر بها ويصرفها في طاعة المنعم.
فائدة من الآية:
المقصود من هذه الآية الكريمة -أي من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت}- تشجيع المؤمنين على القتال بإعلامهم بأن الفرار من الموت لا ينجي ، فإذا علم الإنسان أن فراره من الموت أو القتل لا ينجيه، هانت عليه مبارزة الأقران، والتقدم في الميدان، وقد أشار تعالى أن هذا هو مراده بالآية حيث أتبعها بقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} سورة البقرة (190)، وصرح بما أشار إليه هنا في قوله: {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت أَوِ القتل وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} سورة الأحزاب (16)، وهذه أعظم آية في التشجيع على القتال، لأنها تبين أن الفرار من القتل لا ينجي منه ولو فرض نجاته منه فهو ميت عن قريب، كما قال قعنب ابن أم صاحب:
إذا أنـت لاقيت في نجدة *** فلا تتهيبك أن تقـدما
فـإن المنية مـن يخشها *** فسـوف تصادفه أينما
وإن تتخطـاك أسـبابها *** فإن قصـاراك أن تهرما
وقال أبو الطيب:
وإذا لم يكن من الموت بد *** فمن العجز أن تكون جبانا
ولقد أجاد من قال:
في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة *** والمرء في الجبن لا ينجو من القدر
وهذا هو المراد بالآيات المذكورة، ويؤخذ من هذه الآية عدم جواز الفرار من الطاعون إذا وقع بأرض وأنت فيها، وقد ثبت عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- النهي عن الفرار من الطاعون وعن القدوم على الأرض التي هو فيها إذا كان خارجاً عنها.
الجهاد بالنفس والأمر بذلك:
بعد أن بين الله -تبارك تعالى- قصة الذين فروا وهم كثر حذرا من الموت ظناً منهم أن ذلك سينجيهم من قدر الله الكوني، أمر بالقتال في سبيله، وهو قتال الأعداء الكفار لإعلاء كلمة الله ونصر دينه، فقال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} تأكيداً أنه من حضر أجله فإنه سيموت ولو كان في عقر داره وبين أهله وولده، وإن لم يحضر أجله فلن يموت ولو كان في ساحة الوغى، ومقارعة الأعداء، وشواهد ذلك كثيرة منها قصة خالد بن الوليد فقد شهد معارك كثيرة، ولم يستشهد فيها، ولكنه لاقى الموت على فراشه، فقد روى الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: "لما حضرت خالداً الوفاة بكى، ثم قال: لقد حضرت كذا وكذا زحفاً وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي حتف انفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"1، وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء خرجوا فرارا من الوباء طلبا لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم، وجاءهم الموت سريعاً في آن واحد، ومن هذا القبيل الحديث الصحيح عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فذكر الحديث فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا لبعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه) فحمد الله عمرُ ثم انصرف.
قال ابن كثير -رحمه الله- بعد سرد الأدلة التي تدل على هذا الأمر: "أي كما أن الحذر لا يغني من القدر كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلا ولا يبعده بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه، كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} سورة آل عمران(168)، وقال تعالى: {وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} سورة النساء(77)(78).
وقوله تعالى في هذه الآيات: {في سبيل الله} أي في الطريقة الموصلة إليه، وهي شريعته، وهذا يشمل النية والعمل، أما النية فأن يكون الإنسان قاصداً بقتاله أن تكون كلمة الله هي العليا، كما جاء في الحديث الصحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)2، وأما العمل فأن يكون جهاده على وفق الشرع.
قوله تعالى: {واعلموا أن الله سميع عليم} أي سميع لأقوالكم، عليم بأحوالكم، وختم الله هذه الآية بالأمر بعلمنا بأن {الله سميع عليم} تحذيراً من المخالفة، وترغيباً في الموافقة، فنقوم بما أوجب علينا، ونجتنب ما حرم علينا.
الجهاد بالمال:
لما كان القتال في سبيل الله لا يتم إلا بالنفقة وبذل الأموال في ذلك، أمر تعالى بالإنفاق في سبيله ورغب فيه، وسماه قرضا فقال: {من ذا الذي} استفهام بمعنى التشويق، والحث، يعني: أين الذي يقرض الله، فليتقدم.
قوله تعالى: {يقرض الله قرضاً حسنا}، فينفق ما تيسر من أمواله في طرق الخيرات، خصوصاً في الجهاد، والحسن هو الحلال المقصود به وجه الله -تعالى-، {فيضاعفه له أضعافا كثيرة} الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، بحسب حالة المنفق ونيته ونفع نفقته والحاجة إليها، ولما كان الإنسان ربما توهم أنه إذا أنفق افتقر دفع تعالى هذا الوهم بقوله: {والله يقبض ويبسط} أي يوسع الرزق على من يشاء ويقبضه عمن يشاء، فالتصرف كله بيديه ومدار الأمور راجع إليه، فالإمساك لا يبسط الرزق، والإنفاق لا يقبضه، ومع ذلك فالإنفاق غير ضائع على أهله، بل لهم يوم يجدون ما قدموه كاملا موفرا مضاعفاً، ولهذا قال: {وإليه ترجعون} تقديم المعمول: "إليه" له فائدتان، فائدة لفظية، وفائدة معنوية، أما الفائدة اللفظية: فهي توافق رؤوس الآيات، وأما الفائدة المعنوية: فهي الحصر، فالمرجع كله إلى الله -عز وجل-، لا إلى غيره، كما أن المبدأ كله من الله -سبحانه وتعالى-.
بعض فوائد الآيات:
1. أنه لا فرار من قدر الله، لقوله تعالى: {حذر الموت فقال لهم الله موتوا}، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في الطاعون: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه)3، ولهذا شواهد كثيرة سبق ذكرها في الشرح.
2. أن الأسباب لا تنفع مع القضاء والقدر، وخصوصا الأسباب التي تترك بها أوامر الله.
3. تمام قدرة الله –عز وجل- بإماتة الحيّ، وإحياء الميت، وأن ذلك عيانا في هذه الدار.
4. أن الشاكر من الناس قليل، لقوله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يشكرون}، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} سورة سبأ(13).
5. الأمر بالقتال على وجه الإخلاص لله –تعالى- بأن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله}.
6. أن الجهاد في سبيل الله يكون بالمال كما يكون بالنفس، ولذلك فقد جمع الله بين الأمر بالقتال في سبيله بالمال والبدن؛ لأن الجهاد لا يقوم إلا بالأمرين.
7. الترغيب في موافقة الشرع، فإن ذلك لا يضيع عند الله، لأنه سميع لأقوالنا عليم بأحوالنا.
8. الحث على الإنفاق في سبيل الله -عز وجل-، وخاصة في تجهيز الغزاة والمقاتلين في سبيل الله، فإن ذلك من أفضل القرب.
9. الإشارة إلى أن الإنفاق ليس هو سبب الإقتار والفقر؛ لأن ذكر هذه الجملة بعد الحث على الإنفاق يشير إلى أن الإنفاق لا يستلزم الإعدام أو التضييق، لأن الأمر بيد الله -سبحانه وتعالى-، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ما نقصت صدقة من مال)4، وكم من إنسان أمسك، ولم ينفق في سبيل الله، فسلط الله على ماله آفات في نفس المال، كالضياع، والاحتراق، والسرقة، وما أشبه ذلك، أو آفات تلحق هذا الرجل ببدنه، أو بأهله يحتاج معها إلى أموال كثيرة، وقد يتصدق الإنسان وينفق، ويوسع الله له في الرزق.
10. ترهيب المرء من المخالفة، وترغيبه في طاعة الله، لقوله تعالى: {وإليه ترجعون}، لأن الإنسان إذا علم أنه راجع إلى ربه لا محالة فإنه لا بد أن يكون فاعلاً لما أُمِر به تاركاً لما نُهي عنه؛ لأنه يخاف من هذا الرجوع5.
هذه بعض الفوائد من الآيات الكريمات، نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما نقرأ ونسمع ونقول إنه سميع مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 البداية والنهاية(7/114). لابن كثير. الناشر: مكتبة المعارف – بيروت.
2 رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى.
3 رواه البخاري.
4 روا مسلم من حديث أبي هريرة.
5 راجع: تفسير القرآن العظيم (1/400) لابن كثير. والجامع لأحكام القرآن(3/218- 225) للقرطبي. ومعالم التنزيل(292- 293) للبغوي. وأضواء البيان(1/179). للشنقيطي. وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ(951- 952) لابن سعدي. وتفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.