حكم الإيلاء ومدته

حكم الإيلاء ومدته

حكم الإيلاء ومدته

الحمد لله على نعمائه، والشكر له على تفضله وامتنانه، والصلاة والسلام على أشرف رسله وخير أنبيائه، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن سار على منواله.

أما بعد:

فإن الله قد ارتضى لنا دين الإسلام، بعبادته لا شريك له على الدوام، وشرع الشرائع والأحكام، وبيّن الحلال من الحرام، ومن هذه الأحكام التي بينها الله في كتابه: الإيلاء، صيغته، ومدته، وماذا يترتب عليه.

يقول الله ­-تعالى-: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة(226)(227).

تعريف الإيلاء:

بعد أن ذكر الله في الآيات السابقة الأيمان الملغاة أعقب ذلك بذكر الأيمان الخاصة بالزوجة أو الزوجات بترك وطئهن.

قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الإيلاء: هو الحلف؛ ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ…} سورة النــور(22). أي لا يحلف. وفي الشرع: الحلف الواقع من الزوج أن لا يطأ زوجته1.

حكم الإيلاء:

الإيلاء جائز شرعاً بدلالة الآية؛ ولأن النبي آلى من أزواجه شهرا تأديباً لهن. وقد اختلفت الروايات في سبب إيلائه صلى الله عليه وسلم:

أحدها: أنه بسبب إفشاء حفصة للحديث الذي أسره إليها.

ثانيها: السبب في إيلائه أنه فرّق هدية جاءت له بين نسائه فلم ترض زينب بنت جحش بنصيبها فزادها مرة أخرى فلم ترض فقالت عائشة: لقد أَقْمَتْ وَجْهَكَ تردُ عليكَ الهَدِيّة، فقال: لأنتن أهون على الله من أن يغمني، لا أدخل عليكنّ شهر2. ثالثها: أنه بسبب طلبهنّ النفقة3.

مدة الإيلاء:

قوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} التربص هو: الانتظار، ومنه قوله تعالى: {فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} سورة التوبة(24). أي انتظروا.

فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة فلا يخلو: إما أن يكون أقل من أربعة أشهر، أو أكثر منها، فإن كانت أقل فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته، وعليها أن تصبر، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة: أن رسول الله آلى من نسائه شهرًا، فنزل لتسع وعشرين، وقال: (الشهر تسع وعشرون)4. فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر: إما أن يفيء-أي يجامع- وإما أن يطلق، فيجبره الحاكم على هذا أو هذا لئلا يضر به5.

وقد قيل: الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها، وقد روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد:

ألا طال هذا الليل وأسود جانبه *** وأرقني أن لا حبيب ألاعبه

فوالله لولا الله لا شيء غيره  *** لزعزع من هذا السرير جوانبه

مخافة ربي والحـياء يكفني *** وإكرام بعلي أن تنال مراكـبه

فلما كان من الغد استدعى عمر بتلك المرأة، وقال لها: أين زوجك؟ فقالت: بعثت به إلى العراق! فاستدعى نساءً فسألهن عن المرأة كم مقدار ما تصبر عن زوجها؟ فقلن: شهرين ويقل صبرها في ثلاثة أشهر وينفد صبرها في أربعة أشهر، فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر فإذا مضت أربعة أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين. وهذا -والله أعلم- يقوي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر6.

انقضاء مدة الإيلاء:

قوله: {فَإِنْ فَاءُوا} أي رجعوا، ومنه: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} سورة الحجرات(9). قال القرطبي: “ومنه قيل للظل بعد الزوال فيء؛ لأنه رجع من جانب المشرق إلى جانب المغرب”. والمقصود بالفيء هنا الرجوع عما كانوا عليه من ترك الجماع الزوجة إلى جماعها في مدة لا تزيد على أربعة أشهر..

قال ابن المنذر: “أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الفيء الجماع، لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن أو شبه ذلك فإن ارتجاعه صحيح وهي امرأته فإذا زال العذر بقدومه من سفره أو إفاقته من مرضه أو انطلاقه من سجنه فأبى الوطء فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت”7.

فإن فاء قبل انتهاء المدة التي حلف عليها فعليه كفارة يمين؛ لقوله عليه السلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه)8. وهذا قول الجمهور. وأن وفّى بالمدة التي حلف عليها سقطت عنه الكفارة.

ولكن الفيئة والرجوع إلى زوجته أحب إلى الله –تعالى-، ولهذا قال: {فَإِنْ فَاءُوا} أي رجعوا إلى ما حلفوا على تركه، وهو الوطء، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} يغفر لهم ما حصل منهم من الحلف بسبب رجوعهم {رَحِيمٌ} حيث جعل لأيمانهم كفارة وتحلة، ولم يجعلها لازمة لهم غير قابلة للانفكاك، ورحيم بهم أيضا، حيث فاءوا إلى زوجاتهم، وحنوا عليهن ورحموهن.

وأما إذا انتهت مدة الإيلاء المحددة في الآية وهي أربعة أشهر ولم يجامع زوجته فإن للزوجة في هذه الحالة أن تسأل وتطلب الطلاق وذلك عند الحاكم؛ لقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ}؛ أي امتنعوا من الفيئة، فكان ذلك دليلا على رغبتهم عنهن، وعدم إرادتهم لأزواجهم، وهذا لا يكون إلا عزما على الطلاق، فإن حصل هذا الحق الواجب منه مباشرة، وإلا أجبره الحاكم عليه أو قام به.

{فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فيه وعيد وتهديد لمن يحلف هذا الحلف، ويقصد بذلك المضارة والمشاقة9.

فوائد الآيات:

1.     ثبوت حكم الإيلاء؛ لأن الله –تعالى- وقَّت له أربعة أشهر، وفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- للحاجة وهو تأديب أزواجه10.

2.     أن الإيلاء خاص بالزوجة، لقوله: {من نسائهم}.

3.  استنبط الشيخ السعدي من  الآية فائدة: وجوب الوطء في كل أربعة أشهر مرة، لأنه بعد الأربعة يجبر إما على الوطء، أو على الطلاق، ولا يكون ذلك إلا لتركه واجب11. وهذا غريب جداً.

4.     أن من حلف على ترك الوطء أقل من أربعة أشهر لم يكن مؤليا وهذا قول الجمهور وفيه قول شاذ أنه مؤل.

5.  أنه لا يثبت له حكم الإيلاء حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر، فإذا كانت مدة الامتناع أكثر من أربعة أشهر لم يثبت له حكم الإيلاء؛ لأن الله جعل لهم مدة أربعة أشهر وبعد انقضائها إما أن يطلقوا وإما أن يفيؤوا وهذا قول الجمهور منهم أحمد والشافعي ومالك وجعله أبو حنيفة مؤليا بأربعة أشهر سواء وهذا بناء على أصله أن المدة المضروبة أجل لوقوع الطلاق بانقضائها، والجمهور يجعلون المدة أجلا لاستحقاق المطالبة وهذا موضع اختلف فيه السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم. وقال عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت: إذا مضت أربعة أشهر ولم يفئ فيها طلقت منه بمضيها وهذا قول جماعة من التابعين وقول أبي حنيفة وأصحابه، فعند هؤلاء يستحق المطالبة قبل مضي الأربعة الأشهر، فإن فاء وإلا طلقت بمضيها، وعند الجمهور لا يستحق المطالبة حتى تمضى الأربعة الأشهر فحينئذ يقال: إما أن تفيء وإما أن تطلق، وإن لم يفئ أخذ بإيقاع الطلاق، إما بالحاكم وإما بحبسه حتى يطلق12.

6.  أن المولي يضرب له مدة أربعة أشهر من إيلائه؛ لقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر}؛ فيفيد أن ابتداء المدة من الإيلاء.

7.  حكمة الله -عزّ وجلّ-، ورحمته بعباده في مراعاة حقوق الزوجة؛ وكما أنه حق للزوجة فهو من مصلحة الزوج أيضاً حتى لا يضيع حق المرأة على يده، فيكون ظالماً.

8.  أن المولي يوقف عند مضي أربعة أشهر، ويقال له: إما أن تفيء؛ وإما أن تطلق؛ لما جاء في الأثر عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: “إذا مضت أربعة أشهر وقف المولي حتى يطلق ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق”13.

9.     أن الإيلاء من أربعة أشهر فما فوق محرم؛ لقوله تعالى: {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم}؛ فإن المغفرة لا تكون إلا في مقابلة ذنب.

10. أن رجوع الإنسان عما هو عليه من المعصية سبب للمغفرة؛ لقوله تعالى: {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم}14. والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 


1  انظر: نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار(7/29) للشوكاني. الناشر: إدارة الطباعة المنيرية. ومع الكتاب: تعليقات يسيرة لمحمد منير الدمشقي.

2  أخرجه ابن سعد عن عمرة عن عائشة.

3  راجع: سبل السلام(1/164).

4  الحديث أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك.

5  تفسير القرآن العظيم (1/361). لابن كثير.

6  الجامع لأحكام القرآن(4/99). للقرطبي.

7  المصدر السابق(3/99).

8  رواه مسلم من حديث أبي هريرة.

9 راجع: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان(1/101). لابن السعدي.

10 تفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.

11 راجع: راجع: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان(1/101).

12  زاد المعاد في هدي خير العباد(5/310). الناشر: مؤسسة الرسالة – مكتبة المنار الإسلامية – بيروت – الكويت. الطبعة الرابعة عشر (1407هـ).

13 أَخْرَجَهُ البُخَاري.

14 راجع تفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.