تفسير آيات الحج من سورة الحج
الحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمنا، وجعله مباركاً وهدى للعالمين، وأمر عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء من بعده، أن يوجه الناس ويؤذن فيهم بالحج بعد ما بوأ له مكان البيت؛ ليأتوا إليه من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين الذي بعث رسله وأنزل كتبه لإقامة الحجة وبيان أنه سبحانه هو الواحد الأحد المستحق أن يعبد والمستحق لأن يجتمع العباد على طاعته واتباع شريعته وترك ما خالف ذلك.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله الذي أرسله سبحانه رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين، بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وأمره أن يبلغ الناس مناسكهم، ففعل ذلك قولاً وعملاً عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
وعلى آله وصحبه الأخيار، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم القرار.
أما بعد:
فسنتناول آيات سورة الحج التي ذكرت تفاصيل مناسك الحج وتعظيم أيامه وشعائره ومحله، بشيء من السرعة والاختصار،، وسيكون ذلك إن شاء الله جاريا على عادة أهل التفسير في ذكر بيان معاني الآيات وما يتعلق بها.
وجوب تطهير البيت الحرام من الشرك والمعاصي والقذر:
يذكر تعالى في سورة الحج عظمة البيت الحرام وجلالته وعظمة بانيه، وهو خليل الرحمن، فقال: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أي هيأناه له، وأنزلناه إياه، وجعل قسماً من ذريته من سكانه، وأمره الله ببنيانه، فبناه على تقوى الله، وأسسه على طاعة الله، وبناه هو وابنه إسماعيل، وأمره أن لا يشرك به شيئا، بأن يخلص لله أعماله، ويبنيه على اسم الله.
وقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} أي من الشرك والمعاصي، ومن الأنجاس والأدناس، وأضافه الرحمن إلى نفسه، لشرفه، وفضله، ولتعظم محبته في القلوب، وتنصب إليه الأفئدة من كل جانب، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه، لكونه بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده، المقيمين لعبادة من العبادات من ذكر، وقراءة، وتعلم علم وتعليمه، وغير ذلك من أنواع القرب، {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي المصلين، أي طهره لهؤلاء الفضلاء، الذين همهم طاعة مولاهم وخدمته، والتقرب إليه عند بيته، فهؤلاء لهم الحق، ولهم الإكرام، ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم، ويدخل في تطهيره، تطهيره من الأصوات اللاغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين، بالصلاة والطواف، وقدم الطواف على الاعتكاف والصلاة، لاختصاصه بهذا البيت، ثم الاعتكاف، لاختصاصه بجنس المساجد.
الإعلام بالحج:
ثم أمر الله خليله بأن يعلم الناس بالحج، وأن يعلم قاصيهم ودانيهم بفريضته وبفضله، فقال الله تعالى له: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي ناد في الناس داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه؛ فَذُكر أنه قال: “يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟”؛ فقيل: “ناد وعلينا البلاغ”. فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قُبَيس، وقال: “يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه”، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمَعَ مَن في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حَجَر ومَدَر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: “لبيك اللهم لبيك”.
أحوال الناس في المجيء إلى الحج:
قوله تعالى: {يأتوك رجالاً} فإنك إذا ما دعوتهم إلى الحج استجابوا لك فأتوك حجاجا وعمارا؛ حال بعضهم أنه أتى ماشياً على رجله لفرط شوقه لبيت الله العتيق، واستجابة لنداء الله.
وليس فقط سيأتونك مشاة على أرجلهم، وإنما سيأتونك: {عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي ناقة ضامر، تقطع المهامه والمفاوز، وتواصل السير، حتى تأتي إلى أشرف الأماكن.
قال ابن كثير: “قد يَستدلّ بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضلُ من الحج راكبا؛ لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبا أفضل؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حج راكبا مع كمال قوته -عليه السلام-“.
بل إن تكلف الحج ماشيا مع وجود وسائل الركوب والراحة هذا نوع من التعنت الذي رفعه الله عن هذه الأمة فمن فعله بعدما يسر الله من وسائل النقل والركوب السريع فكأنما رد نعم الله عليه، ومن هذا القبيل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نذرت الحج ماشية أن تركب، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أخت عقبة بن عامر رضي الله عنهم نذرت أن تحج ماشية وأنها لا تطيق ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله لغني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة“. رواه أبو داود والدارمي وفي رواية لأبي داود: فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هديا وفي رواية له: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا فلتركب ولتحج وتكفر يمينها”.
وقد قال تعالى: {يأتوك}؛ وهم لم يأتوا الكعبة؛ لأن المنادى إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم.
ومع أنهم يأتون مشاة وركباناً، فإنهم يأتون كذلك أفواجاً وجماعات، ومن أماكن بعيدة: {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي من كل بلد بعيد.
وقد فعل الخليل -عليه السلام-، ثم من بعده ابنه محمد -صلى الله عليه وسلم-، فدعيا الناس إلى حج هذا البيت، وأبديا في ذلك وأعادا، وقد حصل ما وعد الله به، أتاه الناس رجالا وركبانا من مشارق الأرض ومغاربها.
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم حيث قال في دعائه: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} سورة إبراهيم(37) فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحنّ إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.
قف بالأباطح تسري في مشارفها *** مواكب النور هامت بالتقى شغفا
من كل فــج أتت لله طائعـة *** أفواجها ترتجـي عفو الكريم عفا
صوب الحطيم خطت أو المقام مشت *** مثل الحمائم سربا بالحمى اعتكفا
بعض فوائد زيارة بيت الله الحرام الدينية والدنيوية:
لقد ذكر -سبحانه- فوائد زيارة بيت الله الحرام، مرغبا فيه؛ فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} أي لينالوا ببيت الله منافع دينية، من العبادات الفاضلة، والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية، من التكسب، وحصول الأرباح الدنيوية. قال ابن عباس في قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} “منافع الدنيا والآخرة؛ أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البُدْن والربح والتجارات”.
وقد أطبق علماء التفسير على أن معنى قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} سورة البقرة (198). أنه ليس على الحاج إثم ولا حرج، إذا ابتغى ربحاً بتجارة في أيام الحج، إن كان ذلك لا يشغله عن شيء من أداء مناسكه.
أما حصول المنافع الدنيوية لمن شهد الحج، فهذا أمر مشاهد، والكل يعرفه ويقر به. وغير ذلك من فوائد زيارة بيت الله الحرام الدينية والدنيوية التي سيأتي الإشارة إليها في سياق الآيات.
بعض ما يجب وما يستحب للحاج أن يفعله:
يجب على الحجاج إذا ما نحر الهدي، أو ذبح الأضاحي، أو ما أشبه ذلك من النذور والذبائح أن يذكر اسم الله؛ لقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} المراد بذكر اسمه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام: التسمية عند نحر الهدايا والضحايا. كما أن التسمية واجبة على جميع من أراد أن يضحي أو يذبح ذبيحة سواء كان حاجاً أو غير حاج.
كما أنه ينبغي له ولغيره أن يكثروا من ذكر الله –تعالى-: {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}؛ قال ابن عباس: “الأيام المعلومات: أيام العشر”. وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به.
قوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} المقصود ببهيمة الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم. وهذا من المنافع الدينية والدنيوية: ذكر الله وشكره على ما من به عليهم من بهيمة الإنعام.
كما يستحب للحاج في أضحيته، وكذلك غير الحاج أن يأكل منها، وأن يتصدق، وأن يهدي منها؛ لقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} استدل بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضحية، وليس فيها دليل لما ذهبوا إليه، والذي عليه الأكثرون أن هذا من باب الرخصة، والإباحة، وهذا الأسلوب له نظائر وشواهد في القرآن؛ فعن مجاهد في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} هي كقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} سورة المائدة(2)، وكقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ} سورة الجمعة(10). وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره، واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق منها بالنصف بقوله في هذه الآية: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}؛ فجزأها نصفين: نصف للمضحي، ونصف للفقراء. وهناك قول آخر وهو: أنها تجزأ ثلاثة أجزاء: ثلث له، وثلث يهديه، وثلث يتصدق به؛ لقوله في الآية الأخرى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} سورة الحج(36). وفي الحديث الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال للناس: (إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فكلوا وادخروا ما بدا لكم)1. وفي رواية: (فكلوا وادخروا وتصدقوا). وفي رواية: (فكلوا وأطعموا وتصدقوا)2.
والمقصود بقوله: {الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} أي شديد الفقر.
كما أنه يجب على الحاج أن يتم مناسك حجه؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أي ثم ليقضوا بعد نحر الضحايا والهدايا ما بقى عليهم من أمر الحج ومن المناسك؛ كالحلق ورمي الجمار ونحوه.
كما يجب عليه أيضاً أن يوفي بنذره ما لم يكن معصية، لقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} التي أوجبوها على أنفسهم، من الحج، والعمرة والهدايا، وما إلى ذلك مما فيه طاعة لله، وأما ما فيه معصية لله فلا وفاء به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا وفاء لنذر في معصية الله)3. ولقوله: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه)4.
كما يجب عليه أيضاً أن يطوف طواف الإفاضة، بل إن ذلك ركن من أركان الحج؛ لقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} الطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة.
وللفائدة فإن في الحج ثلاثة أطواف: “طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع”. فطواف القدوم حكمه أنه سنة، وطواف الإضافة ركن من أركان الحج، وهو المقصود هنا في هذه الآية، وطواف الوداع واجب من واجبات الحج.
ومعنى: {العتيق} أي القديم، وهو أفضل المساجد على الإطلاق كما هو معلوم5.
حرمات الله:
قوله: {ذَلِكَ} الذي ذكرنا لكم من تلكم الأحكام، {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}؛ لأن تعظيم حرمات الله من الأمور المحبوبة لله، المقربة إليه، التي من عظمها وأجلها، أثابه الله ثوابا جزيلا وكانت خيرا له في دينه، ودنياه وأخراه عند ربه.
وحرمات الله: كل ماله حرمة، وأمر باحترامه، بعبادة أو غيرها، كالمناسك كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها، فتعظيمها إجلالها بالقلب، ومحبتها، وتكميل العبودية فيها، غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل.
ثم ذكر منته وإحسانه بما أحله لعباده من بهيمة الأنعام، حيث قال: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} من إبل وبقر وغنم، وشرعها من جملة المناسك التي يتقرب بها إليه، فعظمت منته فيها من الوجهين.
قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} في القرآن تحريمه في مثل قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} سورة المائدة(3).
ولكن الذي من رحمته بعباده أن حرمه عليهم ومنعهم منه تزكية لهم، وتطهيرا من الشرك به وقول الزور، ولهذا قال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ} أي الخبث القذر {مِنَ الْأَوْثَانِ} أي الأنداد، التي جعلتموها آلهة مع الله، فإنها أكبر أنواع الرجس، والظاهر أن {من} هنا ليست لبيان الجنس، كما قاله كثير من المفسرين، وإنما هي للتبعيض، وأن الرجس عام في جميع المنهيات المحرمات، فيكون منهيا عنها عموما، وعن الأوثان التي هي بعضها خصوصا، {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} أي جميع الأقوال المحرمات، فإنها من قول الزور الذي هو الكذب، ومن ذلك شهادة الزور.
التحذير من الشرك:
أمر الله بأن نكون: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} أي مقبلين عليه وعلى عبادته، معرضين عما سواه.
وقوله: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} فمثله {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} أي سقط منها {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} بسرعة {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي بعيد، كذلك المشرك، فالإيمان بمنزلة السماء، محفوظة مرفوعة.
ومن ترك الإيمان، بمنزلة الساقط من السماء، عرضة للآفات والبليات، فإما أن تخطفه الطير فتقطعه أعضاء، كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان تخطفته الشياطين من كل جانب، ومزقوه، وأذهبوا عليه دينه ودنياه.
تعظيم شعائر الله:
قوله:{ذَلِكَ} أي ذلك الذي ذكرنا لكم من تعظيم حرماته وشعائره، والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ومنها الهدايا والقربان للبيت، وتقدم أن معنى تعظيمها، إجلالها، والقيام بها، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد، ومنها الهدايا، فتعظيمها، باستحسانها واستسمانها، وأن تكون مكملة من كل وجه، فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه، لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله.
وقوله: {لَكُمْ فِيهَا} أي في الهدايا {مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} هذا في الهدايا المسوقة من البدن ونحوها، ينتفع بها أربابها، بالركوب، والحلب ونحو ذلك، مما لا يضرها {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} مقدر موقت، وهو ذبحها إذا وصلت مَحِلُّهَا وهو الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، أي: الحرم كله “منى” وغيرها، فإذا ذبحت، أكلوا منها وأهدوا، وأطعموا البائس الفقير.
تعدد الشرائع واتحاد الأصل:
قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} أي ولكل أمة من الأمم السالفة {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} أي: فاستبقوا إلى الخيرات وتسارعوا إليها، ولننظر أيكم أحسن عملا والحكمة في جعل الله لكل أمة منسكا، لإقامة ذكره، والالتفات لشكره، ولهذا قال: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وإن اختلفت أجناس الشرائع، فكلها متفقة على هذا الأصل، وهو ألوهية الله، وإفراده بالعبودية، وترك الشرك به ولهذا قال: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} أي انقادوا واستسلموا له لا لغيره، فإن الإسلام له طريق إلى الوصول إلى دار السلام.
قوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} بخير الدنيا والآخرة، والمخبت: الخاضع لربه، المستسلم لأمره، المتواضع لعباده ، ثم ذكر صفات المخبتين فقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي خوفا وتعظيما، فتركوا لذلك المحرمات لخوفهم ووجلهم من الله وحده.
{وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} من البأساء والضراء، وأنواع الأذى، فلا يجري منهم التسخط لشيء من ذلك، بل صبروا ابتغاء وجه ربهم، محتسبين ثوابه، مرتقبين أجره، {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} أي الذين جعلوها قائمة مستقيمة كاملة، بأن أدوا اللازم فيها والمستحب، وعبوديتها الظاهرة والباطنة، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة، كالزكاة، والكفارة، والنفقة على الزوجات والمماليك، والأقارب، والنفقات المستحبة، كالصدقات بجميع وجوهها، وأتي بـ {من} المفيدة للتبعيض، ليعلم سهولة ما أمر الله به ورغب فيه، وأنه جزء يسير مما رزق الله، ليس للعبد في تحصيله قدرة، لولا تيسير الله له ورزقه إياه. فيا أيها المرزوق من فضل الله، أنفق مما رزقك الله، ينفق الله عليك، ويزدك من فضله.
الطريقة الشرعية في الهدي:
قوله: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. هذا دليل على أن الشعائر عام في جميع أعلام الدين الظاهرة. وتقدم أن الله أخبر أن من عظم شعائره فإن ذلك من تقوى القلوب، وهنا أخبر أن من جملة شعائره، البدن، أي: الإبل، والبقر، على أحد القولين، فتعظم وتستسمن، وتستحسن، {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} أي المهدي وغيره، من الأكل، والصدقة، والانتفاع، والثواب، والأجر، {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} أي عند ذبحها قولوا: “بسم الله”، واذبحوها، {صَوَافَّ} أي قائمات، بأن تقام على قوائمها الأربع، ثم تعقل يدها اليسرى، ثم تنحر.
قوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي سقطت في الأرض جنوبها، حين تسلخ، ثم يسقط الجزار جنوبها على الأرض، فحينئذ قد استعدت لأن يؤكل منها، {فَكُلُوا مِنْهَا} وهذا خطاب للمهدي، فيجوز له الأكل من هديه، {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} أي الفقير الذي لا يسأل تقنعا وتعففا، والفقير الذي يسأل، فكل منهما له حق فيهما.
قوله: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} أي البدن {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على تسخيرها، فإنه لولا تسخيره لها لم يكن لكم بها طاقة، ولكنه ذللها لكم وسخرها رحمة بكم وإحسانا إليكم، فاحمدوه.
الإخلاص لله في الأعمال:
قوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} أي ليس المقصود منها ذبحها فقط. ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء، لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها، والاحتساب، والنية الصالحة، ولهذا قال: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخرا ولا رياء، ولا سمعة، ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله، كانت كالقشور الذي لا لب فيه، والجسد الذي لا روح فيه.
قوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} أي تعظموه وتجلوه، {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي مقابلة لهدايته إياكم، فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد، وأعلى التعظيم، {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} بعبادة الله بأن يعبدوا الله، كأنهم يرونه، فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة فليعبدوه، معتقدين وقت عبادتهم اطلاعه عليهم، ورؤيته إياهم، والمحسنين لعباد الله، بجميع وجوه الإحسان من نفع مال، أو علم، أو جاه، أو نصح، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو كلمة طيبة ونحو ذلك، فالمحسنون لهم البشارة من الله، بسعادة الدنيا والآخرة وسيحسن الله إليهم، كما أحسنوا في عبادته ولعباده {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ} {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}.
فهذا ما تيسر جمعه وبيانه في معنى آيات سورة الحج التي تبين أحكام الحج وشعائره ومناسكه، والله نسأل أن يجنبنا الزلل، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 أخرجه مسلم من حديث بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه-.
2 رواه مالك في الموطأ من حديث جابر -رضي الله عنه-.
3 رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم(2834).
4 رواه البخاري.
5 راجع: تفسير القرآن العظيم (3/290- 291) للحافظ ابن كثير. والجامع لأحكام القرآن(12/37) وما بعدها. للقرطبي. ومعالم التنزيل(1/378- 380) للبغوي. وأضواء البيان (4/469) وما بعدها، للشنقيطي. وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ(536) لابن سعدي. مؤسسة الرسالة.