سورة القدر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
ففي حياة الأمم والشعوب أحداثٌ خالدة، وأيام مجيدة، تحمل في طياتها ما يغرم القلوب، ويبهم النفوس، ولقد شرفت هذه الأمة بأعظم الأحداث، وأكمل الأيام، وأتم الليالي.
ومما أنعم به الخالق على هذه الأمة ليلة وصفها الله بأنها مباركة لكثرة خيرها، وبركتها، وفضلها، إنها ليلة القدر، عظيمة القدر، ولها أعظم الشرف، وأوفى الأجر.
أُنزل القرآن في تلك الليلة فقال الله – جل وعلا -: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ1، وقال – جل وعلا -: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ2، وهذه الليلة هي في شهر رمضان المبارك ليست في غيره قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ3.
وقد أنزل الله – تعالى – سورة القدر تحكي أحوال هذه الليلة المباركة، وما فيها من البركات، وهذا شرح موجز لما ورد فيها:
قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ قال ابن كثير – رحمه الله -: “يخبر الله – تعالى – أنه أنزل القرآن ليلة القدر، وهي الليلة المباركة التي قال الله : إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ4 وهي ليلة القدر، وهي من شهر رمضان كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ5 قال ابن عباس وغيره: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العِزّة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله ﷺ.6
ثم عجَّب الله نبيه ﷺ فقال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وسُميت ليلة القدر لأنها ليلة تقدير الأمور والأحكام، يقدر الله فيها أمر السنة في عباده، وبلاده؛ إلى السنة المقبلة، كقوله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ7، وقيل: لأن العمل الصالح يكون فيها ذا قدر عند الله لكونه مقبولاً.8
وقيل: إنها سميت بذلك لعظيم قدرها وشرفها من قولهم: (لفلان قدر) أي شرف ومنزلة، كذا قال الزهري. وقال الخليل: سميت ليلة القدر لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة كقوله: وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ9 أي ضيق.10
قوله تعالى: ليلة القدر خير من ألف شهر بين الله – تعالى – فضلها، وعظمها، وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل، وفي تلك الليلة يُقَسَّم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر – والله أعلم -، وقال كثير من المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقال أبو العالية: ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون في ليلة القدر، وقيل: عنى بألف شهر جميع الدهر، لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء كما قال تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ11 يعني جميع الدهر، وقيل: إن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابداً حتى يعبد الله ألف شهر، ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر، فجعل الله – تعالى – لأمة محمد ﷺ عبادة ليلة خيراً من ألف شهر ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر كانوا يعبدونها، وقال أبو بكر الوراق: كان مُلك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فصار ملكهما ألف شهر، فجعل الله – تعالى – العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيراً من ملكهما.
وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد أن النبي ﷺ ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، قال: فعجب المسلمون من ذلك قال: فأنزل الله : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر.12، قال الشنقيطي: لم يأت تحديد لتلك الليلة من أي رمضان تكون، وقد أكثر العلماء في ذلك القول، وإيراد النصوص.
فالأقوال منها على أعم ما يكون من أنها في عموم السنة، وهذا لم يأت بجديد، وهو عن ابن مسعود، وإنما أراد الاجتهاد، ومنها: أنها في عموم رمضان وهذا حسب عموم نص القرآن.
ومنها: أنها في العشر الأواخر منه وهذا أخص من الذي قبله، ومنها: أنها في الوتر من العشر الأواخر وهذا أخص من الذي قبله، ومنها: أنها في آحاد الوتر من العشر الأواخر، فقيل: في إحدى وعشرين، وقيل: ثلاث وعشرين، وقيل: خمس وعشرين، وقيل: سبع وعشرين، وقيل: تسع وعشرين، وقيل: آخر ليلة من رمضان على التعيين، وفي كل ليلة من ذلك نصوص، ولكن أشهرها، وأكثرها، وأصحها؛ ما جاء في سبع وعشرين، وإحدى وعشرين، ولا حاجة إلى سرد النصوص الواردة في كل ذلك، فلم يبق كتاب من كتب التفسير إلا ذكرها، ولاسيما ابن كثير والقرطبي.13
ومن بركة هذه الليلة تنزَّل الملائكة قال أبو هريرة : الملائكة ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصى.
وفي الروح ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه جبريل، قاله الأكثرون، وفي حديث أنس أن رسول الله ﷺ قال: “إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة14 من الملائكة يصلُّون، ويسلِّمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله “15 لكن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله ﷺ، بل هو موضوع.
والثاني: أن الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة، ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر، قاله كعب، ومقاتل بن حيان.
والثالث: أنه ملَك عظيم يفي بخلق من الملائكة، قاله الواقدي.
قوله تعالى: فيها أي: في ليلة القدر بإذن ربهم أي: بما أمر به وقضاه من كل أمر قال ابن قتيبة: أي: بكل أمر، قال المفسرون: يتنزَّلون بكل أمر قضاه الله في تلك السنة إلى قابل.
ثم ابتدأ فقال تعالى: سلام هي حتى مطلع الفجر أي: ليلة القدر سلام.16، فهي سلام من كل شر إذ هي كلها خير من غروب الشمس إلى طلوع فجرها، إنها كلها سلام: سلام الملائكة على العابدين من المؤمنين والمؤمنات، وسلامة من كل شر، والحمد لله الذي جعلنا من أهلها.17
واختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأمم السالفة أو هي من خصائص هذه الأمة؟
فقال الزهري: حدثنا مالك أنه بلغه أن رسول الله ﷺ أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر18، وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأمة بليلة القدر، وقيل: إنها كانت في الأمم الماضية كما هي في أمتنا، ثم هي باقية إلى يوم القيامة، وفي رمضان خاصة، لا كما روي عن ابن مسعود ومن تابعه من علماء أهل الكوفة من أنها توجد في جميع السنة، وترتجى في جميع الشهور على السواء، وقد روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله ﷺ وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: هي في كل رمضان19.20 من هداية الآيات:
1- تقرير الوحي، وإثبات النبوة المحمدية.
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
3- فضل ليلة القدر، وفضل العبادة فيها.
4- بيان أن القرآن نزل في رمضان جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأنه ابتدأ نزوله على رسول الله ﷺ في رمضان أيضاً.
5- الندب إلى طلب ليلة القدر للفوز بفضلها وذلك في العشر الأواخر من شهر رمضان، وأرجى ليلة في العشر الأواخر هي الوتر كالواحدة والعشرين إلى التاسعة والعشرين للحديث الصحيح: التمسوها في العشر الأواخر.21
6- استحباب الإِكثار من قراءة القرآن وسماعه فيها؛ لمعارضة جبريل الرسول ﷺ القرآن في رمضان مرتين.22
هذا شرح ملخص لما ورد من معاني هذه السورة المباركة، فاللهم يا من خلق الإنسان وبَنَاه، واللسانَ وأجراه، يا من لا يخيب من دعاه، هب لكلٍّ منا ما رجاه، وبلّغه من الدارين مُناه، اللهم اغفر لنا جميع الزلات، واستر علينا كل الخطيئات، وسامحنا يوم السؤال والمناقشات، وانفعنا وجميع المسلمين بما أنزلته من الكتاب يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 القدر: (1،2).
2 الدخان: (3).
3 البقرة: من الآية (185).
4 (الدخان:3).
5 (البقرة:185)
6 تفسير ابن كثير (8 /441).
7 سورة الدخان (4).
8 تفسير الإمام البغوي (8 /482).
9 سورة الطلاق (7).
10 فتح القدير للشوكاني (5 /670).
11 سورة البقرة (96).
12 مختصر ابن كثير (3 /683).
13 أضواء البيان للشنقيطي (9 /251).
14 الكبكبة: الجماعة.
15 رواه البيهقي في شعب الإيمان (8 /231) وقد رواه المنذري في الترغيب والترهيب وقال الألباني: (موضوع)!.
16 زاد المسير لابن الجوزي (6 /179).
17 أيسر التفاسير للجزائري (4 /418).
18 أخرجه مالك (698).
19 أخرجه أبو داود (1387) قال الألباني: ضعيف والصحيح موقوف.
20 مختصر ابن كثير (3 /683).
21 رواه البخاري (1877) ومسلم (1989).
22 أيسر التفاسير للجزائري (4 /418).