وأن تصوموا خير لكم

وأن تصوموا خير لكم

 

وأن تصوموا خير لكم

 

الحمد لله على ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى، وما خلقه وحكم به في الأولى والأخرى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وله ترفع الشكوى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى، ونبيه المجتبى. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه العلماء الفضلاء النجباء، أما بعد:

 

فإن لله في شرعه أسراراً، وله في أحكامه حِكَماً، وله في خلقه مقاصد، فمن هذه الأسرار والحكم والمقاصد ما تدركها العقول، ومنها ما تقف عندها كآلة، ونحن نعيش في أيام هذا الشهر الكريم، ونعانق عبادة من أعظم العبادات وهي الصوم، فقد أرشدنا الله سبحانه إلى الصيام فقال تعالى: وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) سورة البقرة.

وذلك لما له من الفوائد العظيمة، والمناقب الكريمة.

 

وهذه بعض الوقفات مع هذه الآية الكريمة:

أولاً: هذه الآية نسخ حكمها بقوله تعالى: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (185) سورة البقرة. فأصبح الصيام واجباً لكل من شهد الهلال، بدلاً من كونه مندوباً.

 

ثانياً: أن الله تعالى لم يقل (والصيام خير لكم)، وإنما عبر بالفعل المضارع مع (أن) المصدرية.

والظاهر أن المعنى واحد من حيث الأصل، لكن يظل اللفظ القرآني له رونقه وإعجازه، مما لا يتوفر لأسلوب غيره، فالفعل المضارع يدل على التجدد والحدوث، بخلاف الاسم فهو أكثر جموداً.

 

وَأَن تَصُومُواْ تذكير لهم بمعنى الصيام، وتذكير بالنية فيه، وقصد الصيام وإرادته، ولهذا قال بعض العلماء: إن الصيام هو النية، وقد روي مرفوعاً: (الصيام لا رياء فيه)1 أي الصيام الحقيقي؛ لأن حقيقة الصوم: أنه سر بين العبد وربه.

 

مسألة:

كيف يجمع بين قول الله تعالى: وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وبين الحديث المتفق عليه: (الصَّوْم لي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)2 فظاهر الآية أن الصوم للعبد والحديث الصوم لله؟.

فيقال: خير لكم: أي لتقواكم: لعلكم تتقون، فمقصود الصوم تحقيق التقوى في النفوس والقلوب، فالصوم من جهة هو فعل العبد وأثر الصوم وثمرته وفائدته يرجع للعبد في تحقيق الثواب، والتربية على الصبر، وتحقيق الإخلاص، وأما نسبة الصوم إلى الله سبحانه وتعالى فباعتبار الإخلاص لله عز وجل، وأن الصوم لا يقع شرعياً إلا خالصاً له سبحانه وتعالى.3

ومن فوائده وحكمه: أنه سبب للتقوى إذا قام الصائم بصيامه، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) سورة البقرة. فبيّن سبحانه في هذه الآية أن الصيام سبب للتقوى، والتقوى: كلمة جامعة لكل خير، وهي فعل أوامره وترك مناهيه رجاءً لثوابه وخوفًا من عقابه.

 فالصوم طريق لتقوى الله عز وجل، والصائم أقرب الناس إلى مولاه جلت قدرته، فإذا جاع بطن الصائم صفا قلبه، وإذا ظمأت كبد الصائم دمعت عيناه.

 

والنفس إذا امتنعت عن الحلال طمعاً في مرضاة الله تعالى، وخوفاً من عقابه، فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام.

وإذا جاع بطن الصائم اندفع جوع كثير من حواسه، فإذا شبع بطنه جاع لسانه وعينه ويده وفرجه، فالصيام يؤدي إلى قهر الشيطان وكسر الشهوة وحفظ الجوارح.

 

والصائم مأمور بتقوى الله جل وعلا وهي المقصود الأعظم بالصيام، ولذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)4وقول الزور: كل قول محرم، والعمل بالزور: العمل بكل فعل محرم، والجهل السفه، وهو مجانبة الرشد في القول والعمل، فإذا حرص الصائم على صيامه، وابتعد عن هذه الأمور حصلت له التقوى، وكان الصيام تربية لنفسه وتهذيبًا لأخلاقه وسلوكه، وكان سببًا في زكاة نفسه وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة.

 

ومن فوائد الصيام وحكمه أيضًا: أنه يرقق القلب ويلينه، ويتخلى القلب للذكر والفكر.

ومن فوائده وحكمه أيضًا: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه حيث يسّر الله له كل ما يشتهيه من الطعام والشراب وغيره، فإذا امتنع عن ذلك في وقت مخصوص وحصل له جوع أو عطش تذكر بذلك من منع من ذلك على الإطلاق، فيوجب له ذلك شكر هذه النعمة ويحمله ذلك على مواساة أخيه المحتاج والإحسان إليه.

 

ومن فوائده الروحية: أنه يعوّد على الصبر ويمرّن نفسه على ضبطها والسيطرة عليها حتى يتمكن من قيادتها لما فيه خيرها وسعادتها في الدارين، ولا أدل على ذلك من ترك الصائم ما تشتهيه نفسه، وتطويعها لما أمر به.

ومن فوائد الصوم وحكمه: أن الصيام الخالص والصيام الحقيقي يورث في القلب حب الطاعة، ويربي الإرادة على اجتناب الهوى والبعد عن المعاصي، إذ فيه قهر للطبع وفطم للنفس عن مألوفاتها. وفيه كذلك اعتياد النظام ودقة المواعيد مما يعالج فوضى الكثيرين لو عقلوا.

 

ومن فوائده أيضًا: أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر قوة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الصوم وِجَاء، لقطعه شهوة النكاح.5

ومن فوائد الصيام أيضاً: أن فيه إعلاناً لمبدأ وحدة المسلمين، فتصوم الأمة وتُفطر في شهر واحد.

 

وفيه فرصة عظيمة للدعاة إلى الله سبحانه فهذه أفئدة الناس تهوي إلى المساجد، ومنهم من يدخله لأول مرة ومنهم من لم يدخله منذ زمن بعيد، وهم في حال رقّة نادرة، فلا بدّ من انتهاز الفرصة بالمواعظ المرقِّقة والدروس المناسبة والكلمات النافعة مع التعاون على البرّ والتقوى. وعلى الداعية أن لا ينشغل بالآخرين كليّا وينسى نفسه فيكون كالفتيلة تضيء للناس وتُحرق نفسها. 6

 

فوائد الصيام الصحية:

إن الطب الحديث لم يعد يعتبر الصيام مجرد عملية إرادية يجوز للإنسان ممارستها أو الامتـناع عنها، بل إنه وبعد الدراسات العلمية والأبحاث الدقيقة على جسم الإنسان ووظائفه الفسيولوجية ثبت أن الصيام ظاهرة طبيعية يجب للجسم أن يمارسها حتى يتمكن من أداء وظائفه الحيوية بكفاءة، وأنه ضروري جداً لصحة الإنسان تماماً كالأكـل والتنفس والحركة والنوم، فكما يعاني الإنسان، بل يمرض إذا حرم من النوم، أو الطعام لفترات طويلة، فإنه كذلك لا بد أن يصاب بسوء في جسمه لو امتنع عن الصيام.

 

ومن فوائد الصيام الصحية:

وقاية من الأورام:

يقوم الصيام مقام مشرط الجراح الذي يزيل الخلايا التالفة والضعيفة من الجسم، فالجوع الذي يفرضه الصيام على الإنسان يحرك الأجهزة الداخلية لجسمه؛ لاستهلاك الخلايا الضعيفة لمواجهة ذلك الجوع، فتتاح للجسم فرصة ذهبية كي يسترد خلالها حيويته ونشاطه، كما أنه يستهلك أيضا الأعضاء المريضة ويجدد خلاياها، وكذلك يكون الصيام وقاية للجسم من كثيـر من الزيادات الضارة مثل الحصوة، والرواسب الكلسية، والزوائد اللحمية، والأكياس الدهنية، وكذلك الأورام في بداية تكونها.

 

يحمي من السكر:

فعلاً هو خير فرصة لخفض نسبة السكر في الدم إلى أدنى معدلاتها، وعلى هذا فإن الصيام يعطي غدة البنكرياس فرصة رائعة للراحة، فالبنكرياس يفرز الأنسولين الذي يحول السكر إلى مواد نشوية ودهنية تخزن في الأنسجة، فإذا زاد الطعام عن كمية الأنسولين المفرزة فإن البنكرياس يصاب بالإرهاق والإعياء، ثم أخيرا يعجز عن القيام بوظيفته، فيتراكم السكر في الدم وتزيد معدلاته بالتدريج حتى يظهر مرض السكر. وقد أقيمـت دورة للعلاج في شتى أنحاء العالم لعلاج مرضى السكر باتباع نظام الصيام لفترة تزيد على عشر ساعات وتقل عن عشرين كل حسب حالته، ثم يتناول المريض وجبات خفيفـة جداً، وذلك لمدة متوالية لا تقل عن ثلاثة أسابيع. وقد جاء هذا الأسلوب بنتائج مبهرة في علاج مرضى السكر ودون أية عقاقير كيميائية.

 

الأمراض الجلدية:

إن الصيام يفيد في علاج الأمراض الجلدية، والسبب في ذلك أنه يقلل نسبة الماء في الدم فتقل نسبته بالتالي في الجلد، مما يعمل على:

 

– زيادة مناعة الجلد ومقاومة الميكروبات والأمراض المعدية الجرثومية.

– التقليل من حدة الأمراض الجلدية التي تنتشر في مساحات كبيرة في الجسم مثل مرض الصدفية.

– تخفيف أمراض الحساسية والحد من مشاكل البشرة الدهنية.

– مع الصيام تقل إفرازات الأمعاء للسموم وتتناقص نسبة التخمر الذي يسبب دمامل وبثوراً مستمرة.

 

وقاية من داء الملوك:

وهو المسمى بمرض "النقرس"، والذي ينتج عن زيادة التغذية والإكثار من أكل اللحوم، ومعه يحدث خلل في تمثيل البروتينات المتوافرة في اللحوم "خاصة الحمراء" داخل الجسم، مما ينتج عنه زيادة ترسيب حمض البوليك في المفاصل خاصة مفصل الأصبع الكبير للقدم، وعند إصابة مفصل بالنقرس فإنه يتورم ويحمر ويصاحب هذا ألم شديد، وقد تزيد كمية أملاح البول في الدم ثم تترسب في الكلى فتسبب الحصـوة، وإنقاص كميات الطعام علاج رئيسي لهذا المرض الشديد الانتشار.

 

جلطة القلب والمخ:

أكد الكثيرون من أساتذة الأبحاث العلمية والطبية -وأغلبهم غير مسلمين- أن الصوم -لأنه ينقص من الدهون في الجسم- يؤدي إلى نقص مادة "الكوليسترول" فيه، وما أدراك "ماالكوليسترول"؟ إنها المادة التي تترسب على جدار الشرايين، وبزيادة معدلاتها مع زيادة الدهون في الجسم تؤدي إلى تصلب الشرايين، كما تسبب تجلط الدم في شرايين القلب والمخ.

 

فلا نندهش إذن عندما نستمع إلى قول الحق سبحانه وتعالى: وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) سورة البقرة. فكم من آلاف من البشر جنت عليهم شهيتهم المتوثبة دائما إلى الطعام والشراب دون علم ولا إرادة، ولو أنهم اتبعوا منهاج الله وسنة النبي محمد بعدم الإسراف في الأكل والشرب، وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر لعرفوا لآلامهم وأمراضهم نهايـة، ولتخففت أبدانهم من عشرات الكيلوجرامات.7

ومع كل هذه الفوائد الصحية العظيمة، إلا أنه لزاماً على كل مسلم يبتغي الأجر في صيامه أن ينوي ذلك الصيام بقصد الطاعة لله تعالى، وإلا حُرم القبول والثواب.

هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمدٍ، والحمد لله أولاًَ وآخراً.

 

 


 


1 أخرجه السيوطي، قال الألباني(ضعيف جدا) انظر حديث رقم: 3580 في ضعيف الجامع.

2 رواه البخاري (6938) ومسلم (1946).

3 شرح آيات الصوم د.سلمان بن فهد العودة، المصدر: www.Islamtoday.net بتصرف.

4 رواه البخاري (1804).

6 سبعون مسألة في الصيام:سلمان العودة.المصدر: http://www.islam-qa.com بتصرف.

7 المصدر: http://www.khayma.com بتصرف.