يسألونك عن الأهلة

تفسير آية الأهلة

 

 

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ

 

مقدمة:

الحمد لله الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه الله للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً، محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فهذه وقفةٌ مع آيةٍ من كتاب المولى – سبحانه وتعالى – سيتم استعراض أقوال المفسرين فيها، وهي الآية التاسعة والثمانون بعد المائة من سورة البقرة، نسأل الله أن ينفعنا بالعلم الشرعي وأن يجعلنا من العالِمين العاملين.

يقول – تعالى – : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (189) سورة البقرة.

سبب نزول الآيـة:

يكاد يتفق أهل التفسير في نقل سبب نزول الآية إلا أن بعضهم أبهم وبعضهم صرح في ذكر الذي كان سائلاً رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الهلال ونزلت الآية لسؤاله.

قال الإمام القرطبي – رحمه الله – : هذا مما سأل عنه اليهود واعترضوا به النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال معاذ – رضي الله عنه – : يا رسول الله إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة، فما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يزيد حتى يستوي ويستدير ثم ينتقص حتى يعود كما كان؟ فأنزل الله هذه الآية، وقيل: إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الهلال وما سبب محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس، قاله ابن عباس و قتادة والربيع وغيرهم1.

قال في زاد المسير: هذه الآية من أولها إلى قوله: "والحج" نزلت على سبب، وهو أن رجلين من الصحابة قالا: يا رسول الله: ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد ويمتليء حتى يستدير ويستوي ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}. هذا قول ابن عباس2،.3

بيان معنى الآية:

الأهلَّة:

جَمعُ الهلال، وجُمِعَ وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالاً واحداً في شهر غير كونه هلالاً في آخر، فإنما جمع أحواله من الأهلة. ويريد بالأهلة شهورها، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلوله فيه كما قال:

أخوان من نجد على ثقة … الشهر مثل قلامة الظفر

وقيل: سمي شهراً لأن الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه.

ويطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر وليلتين من أوله، وقيل: لثلاث من أوله، وقال الأصمعي: هو هلال حتى يحجر ويستدير كالخيط الرقيق، وقيل: بل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء وذلك ليلة سبع، قال أبو العباس: وإنما قيل له هلال؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه.

ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه واستهل وجهه فرحاً، وتهلل إذا ظهر فيه السرور.

قال أبو كبير:

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه … برقت كبرق العارض المتهلل

وقال آخر:

المرءُ مِثْلُ هلالٍ حين تُبصرهُ … يبدو ضئيلاً ضعيفاً ثم يَتَّسِقُ

يَزدادُ حتّى إذا ما تَمَّ أعْقَبه … كَرُّ الجديدين نقصاً ثم يَنْمَحِقُ4

قوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحجِّ}

المِيقاتُ: مصدر الوَقْت، والآخِرةُ مِيقاتُ الخَلْقِ، ومَواضِعُ الإِحرامِ مَواقيتُ الحاجِّ، والهِلالُ مِيقاتُ الشَّهْرِ5.

والمواقيت: جمع ميقات بمعنى الوقت، كالميعاد بمعنى الوعد، والفرق بينه وبين المدة والزمان: أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها والزمان: مدة مقسومة، والوقت: الزمان المفروض لأمر6.

ومعنى الآية: (يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرَارِها وَتمامها واستوائها، وتغير أحوالها بزيادة ونُقصان وَمحاق واستسرار، وما المعنى الذي خَالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدًا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان؟

 فقُلْ يا محمد: خالف بين ذلك ربُّكم لتصييره الأهلة – التي سألتم عن أمرها، ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه – مواقيتَ لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقِها واستسرارها وإهلالكم إياها، أوقات حلّ ديونكم، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه، وتصرُّم عدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم، فجعلها مواقيت للناس7.

وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب، أعني قوله: {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ}من الأسلوب الحكيم، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب، تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد، ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ونقصانها، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة والنقصان لأجلها؛ لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل وأحق بأن يتطلع لعلمه8.

وعن ابن عمر – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : "جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً"9.

قوله تعالى: }وَالْحَجِّ}: يعني: وللحجِّ، يقول: وجعلها – أيضًا – ميقاتًا لحجكم، تعرفون بها وقت مناسككم وحَجكم.

"والحج" بفتح الحاء قراءة الجمهور. وقرأ ابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وعن سيبويه: الحج كالرد والشد، والحج كالذكر، فهما مصدران بمعنى، وقيل: الفتح مصدر، والكسر الاسم.

وقد أفرد سبحانه الحج بالذكر؛ لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، وأنه لا يجوز النسيء فيه عن وقته، بخلاف ما رأته العرب، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور، فأبطل الله قولهم وفعلهم.

ولقد استدل الإمام مالك وأبو حنيفة وأصحابهما في أن الإحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج بهذه الآية؛ لأن الله تعالى جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك، فصح أن يحرم في جميعها بالحج، وخالف في ذلك الشافعي؛ لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} (197) سورة البقرة، وأن معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس، وبعضها مواقيت للحج، وهذا كما تقول: الجارية لزيد وعمرو، وذلك يقضي أن يكون بعضها لزيد وبعضها لعمرو، ولا يجوز أن يقال: جميعها لزيد وجميعها لعمرو10.

وذُكر عن القفال – رحمه الله – أنه قال: إن إفراد الحج بالذكر إنما كان لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء، والله أعلم11.

وقوله تعالى: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها}

وجه اتصال هذا بالسؤال عن الأهلة: أن الأنصار كانوا إذا حجوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه؛ لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز أن يحول بينه وبين السماء حائل، وكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم.

قال أبو عبيدة: إن هذا من ضرب المثل، والمعنى: ليس البرّ أن تسألوا الجهال، ولكن البرّ التقوى واسألوا العلماء، كما تقول: أتيت هذا الأمر من بابه. وقيل: هو مَثَل في جماع النساء، وأنهم أمروا بإتيانهنّ في القبل لا في الدبر. وقيل غير ذلك.

 والبيوت جمع بيت، وقُرئ بضم الباء وكسرها.12

وسواء كانت هذه عادتهم في السفر بصفة عامة، أو في الحج بصفة خاصة وهو الأظهر في السياق، فقد كانوا يعتقدون أن هذا هو البر – أي الخير أو الإيمان – فجاء القرآن ليبطل هذا التصور الباطل، وهذا العمل المتكلف الذي لا يستند إلى أصل، ولا يؤدي إلى شيء، وجاء يصحح التصور الإيماني للبر، فالبر هو التقوى، هو الشعور بالله ورقابته في السر والعلن، وليس شكلية من الشكليات التي لا ترمز إلى شيء من حقيقة الإيمان، ولا تعني أكثر من عادة جاهلية.

كذلك أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها، وكرر الإشارة إلى التقوى، بوصفها سبيل الفلاح:

{وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون}.

وبهذا ربط القلوب بحقيقة إيمانية أصيلة هي التقوى، وربط هذه الحقيقة برجاء الفلاح المطلق في الدنيا والآخرة؛ وأبطل العادة الجاهلية الفارغة من الرصيد الإيماني، ووجه المؤمنين إلى إدراك نعمة الله عليهم في الأهلة التي جعلها الله مواقيت للناس والحج، كل ذلك في آية واحدة قصيرة13.

إلى هنا نصل إلى ختام تفسير الآية، والله أعلم.

وصلى الله على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

 


 


1 – انظر: الجامع لأحكام القرآن لمحمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله (2/339).

2 – زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (1/195) ط: المكتب الإسلامي- بيروت الطبعة الثالثة ، 1404 هـ.

3 – انظر: فتح القدير للشوكاني(1/291) حيث ذكر أن سبب النزول أخرجه ابن عساكر بسند ضعيف، كما ذكر سبب النزول النسفي في تفسيره (1/93) والسيوطي في الدر المنثور(1/490)، والبيضاوي في تفسيره(1/474).وكذا في معالم التنزيل للبغوي(1/211).

4 – أسرار البلاغة (1/49).

5 – انظر: كتاب العين(5/199) للخليل بن أحمد الفراهيدي.

6 – تفسير البيضاوي(1/474)بتصرف

7 – جامع البيان في تأويل القرآن(3/555) لمحمد بن جرير الطبري،  224 – 310 هـ  ط: مؤسسة الرسالة.

8 – فتح القدير(1/249).

9 – قال الشيخ الألباني: ( صحيح ) انظر حديث رقم : 3093 في صحيح الجامع.

10 – جامع البيان في تأويل القرآن (2/343)

11 – مفاتيح الغيب (3/139) للرازي.

12 – فتح القدير (1/249).

13 – في ظلال القرآن لسيد قطب (1/158).