خطر الاختلاف في القرآن

خطر الاختلاف في القرآن

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعيين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

فإنَّ الله ​​​​​​​ قد حذر من الاختلاف في القرآن، والتنازع فيه، أو ضرب بعضه ببعض فقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (سورة البقرة:176)، وأخبر أنَّ الاختلاف فيه دليل زيغ في قلوب المختلفين فيه فقال تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ (سورة آل عمران:7). والاختلاف في القرآن يشمل الاختلاف في أصله؛ فمنهم من آمن؛ ومنهم من كفر، ويدخل في الاختلافَ فيه تأويله تأويلاً باطلاً، أو الزعم أن ظاهره غير مراد وما أشبه ذلك. الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ۝ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (سورة البقرة:175-176).

شرح الآيات:

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ أي يخفون؛ من الكتاب “أل” إما أن تكون للعهد؛ أو للجنس؛ فإن قلنا: “للعهد” فالمراد بها التوراة؛ ويكون المراد بـ الذين يكتمون اليهود؛ لأنهم كتموا ما علموه من صفات النبي  ؛ وإن قلنا: إن “أل” للجنس شمل جميع الكتب: التوراة، والإنجيل وغيرها؛ ويكون الذين يكتمون يشمل اليهود، والنصارى وغيرهما؛ وهذا أرجح لعمومه، وقوله: ما أنزل الله من الكتاب أي على رسله؛ فإن الله  يقول: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب (سورة الحديد:25)؛ فكل رسول فإن معه كتاباً من الله ​​​​​​​ يهدي به الناس.

قوله: ويشترون به يعني يأخذون بما أنزل الله؛ ويجوز أن يكون الضمير عائداً على الكتم؛ يعني يأخذون بهذا الكتم.

وقوله: ثمناً قليلاً هذا الثمن إما المال؛ وإما الجاه والرياسة؛ وكلاهما قليل بالنسبة لما في الآخرة. قوله: أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار الاستثناء هنا مفرغ؛ والإشارة للبعيد لبعد مرتبتهم، وانحطاطها، والتنفير منها. قوله: ولا يكلمهم الله يوم القيامة يعني لا يكلمهم تكليم رضا؛ فالنفي هنا ليس نفياً لمطلق الكلام؛ ولكنه للكلام المطلق الذي هو كلام الرضا؛ ولا يزكيهم أي لا يثني عليهم بخير.

قوله: ولهم عذاب أليم “فعيل” هنا بمعنى مفعِل؛ و”مؤلم” أي موجع؛ والعذاب هو النكال، والعقوبة.

قوله: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى المشار إليهم: الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً (سورة البقرة:174)؛ واشتروا بمعنى اختاروا؛ ولكنه عبر بهذا؛ لأن المشتري طالب راغب في السلعة؛ فكأن هؤلاء – والعياذ بالله – طالبون راغبون في الضلالة بمنزلة المشتري؛ والضلالة هنا كتمان العلم؛ فإنه ضلال؛ وأما “الهدى” فهو بيان العلم ونشره.

وقوله: بالهدى الباء هنا للعوض؛ ويقول الفقهاء: إن ما دخلت عليه الباء هو الثمن سواء كان نقداً، أم عيناً غير نقد؛ فإذا قلت: اشتريت منك ديناراً بثوب، فالثمن الثوب؛ وقال بعض الفقهاء: الثمن هو النقد مطلقاً؛ والصحيح الأول؛ والثمن الذي دفعه هؤلاء هو الهدى؛ فهم دفعوا الهدى – والعياذ بالله – لأخذ الضلالة.

قوله: والعذاب بالمغفرة فهم أيضاً اشتروا العذاب بالمغفرة؛ ولو أنهم بينوا وأظهروا العلم لَجُوزوا بالمغفرة؛ ولكنهم كتموا فجُوزوا بالعذاب.

قوله: فما أصبرهم على النار “ما” تعجبية مبتدأ؛ وجملة: أصبرهم خبرها؛ والمعنى: شيء عظيم أصبرهم؛ أو ما أعظم صبرهم على النار، فيقتضي أنهم يصبرون، ويتحملون مع أنهم لا يتحملون، ولا يطيقون.

قوله: ذلك بأن الله نزل الكتاب المشار إليه ما ذكر من جزائهم؛ أي ذلك الجزاء الذي يجازون به؛ بأن الباء هنا للسببية؛ والرابط هنا بين السبب، والمسبَّب واضح جداً؛ لأنه ما دام الكتاب نازلاً بالحق فمن اللائق بهذا الكتاب المنزل بالحق أن لا يُكتم؛ فالحق يجب أن يبين؛ فلما أخفاه هؤلاء استحقوا هذا العذاب؛ ومعنى: نزل الكتاب بالحق أن ما نزل به حق، وأنه نازل من عند الله حقاً؛ والكتاب المراد به الجنس: القرآن، والتوراة، والإنجيل، وغيرها من الكتب التي أنزلها الله.

قوله: وإن الذين اختلفوا في الكتاب أي اختلفوا في الكتاب الذي نزله الله ​​​​​​​ بحق؛ وهذا الاختلاف يشمل الاختلاف في أصله: فمنهم من آمن؛ ومنهم من كفر، والاختلافَ فيما بينهم أي فيما بين أحد الطرفين: فمنهم من استقام في تأويله؛ ومنهم من حرف في تأويله على غير مراد الله .

قوله: لفي شقاق بعيد أي لفي جانب بعيد عن الحق.

فائـدة:

قوله تعالى: فما أصبرهم على النار؛ “ما” تعجبية مبتدأ؛ وجملة أصبرهم خبرها وهذا التعجب يتوجه عليه سؤالان: السؤال الأول: أهو تعجب من الله أم تعجيب منه؛ بمعنى: أيرشدنا إلى أن نتعجب – وليس هو موصوفاً بالعجب؛ أو أنه من الله -؟

السؤال الثاني: أن قوله: فما أصبرهم يقتضي أنهم يصبرون، ويتحملون مع أنهم لا يتحملون، ولا يطيقون؛ ولهذا يقولون لخزنة جهنم: ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب (سورة غافر:49)؛ وينادون: يا مالك ليقض علينا ربك (سورة الزخرف:77) أي ليهلكنا؛ ومن قال هكذا فليس بصابر؟

والجواب عن السؤال الأول:- وهو أهو تعجب، أو تعجيب -: فقد اختلف فيه المفسرون؛ فمنهم من رأى أنه تعجب من الله ​​​​​​​ لأنه المتكلم به هو الله؛ والكلام ينسب إلى من تكلم به؛ ولا مانع من ذلك لا عقلاً، ولا سمعاً – أي لا مانع يمنع من أن الله  يعجب؛ وقد ثبت لله العجب بالكتاب، والسنة؛ فقال الله – تعالى – في القرآن: بل عجبتُ ويسخرون (سورة الصافات:12) بضم التاء؛ وهذه القراءة سبعية ثابتة عن النبي  ؛ والتاء فاعل يعود على الله  المتكلم؛ وأما السنة ففي الحديث الصحيح عن النبي  أنه قال: عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب غِيَرِه1؛ وعلى هذا فالعجب لله  ثابت بالكتاب، والسنة؛ فلا مانع من أن الله ​​​​​​​ يعجب من صبرهم؛ فإذا قال قائل: العجب يدل على أن المتعجب مباغَت بما تعجب منه؛ وهذا يستلزم أن لا يكون عالماً بالأمر من قبل – وهو محال على الله -؟ فالجواب: أن هذا اللازم من قياس صفات البشر على صفات الخالق لأن التعجب بسبب المباغتة يكون في حقهم، وقياس صفات الخالق على صفات الخلق من جهل بالخالق. وأيضاً فإن التعجب لا يختص بما ذكر؛ بل ربما يكون سببه الإنكار على الفاعل، حيث خرج عن نظائره كما تقول: «عجبت من قوم جحدوا بآيات الله مع بيانها، وظهورها»؛ وهو بهذا المعنى قريب من معنى التوبيخ، واللوم؛ ومن المفسرين من قال: إن المراد بالعجب: التعجيب؛ كأنه قال: أعجب أيها المخاطب من صبرهم على النار؛ وهذا وإن كان له وجه لكنه خلاف ظاهر الآية.

وأما الجواب عن السؤال الثاني:- وهو كيف يتعجب من صبرهم مع أنهم لم يصبروا على النار – فقال أهل العلم: إنهم لما صبروا على ما كان سبباً لها من كتمان العلم صاروا كأنهم صبروا عليها، مثلما يقال للرجل الذي يفعل أشياء ينتقد فيها: ما أصبرك على لوم الناس لك مع أنه ربما لم يلوموه أصلاً؛ لكن فعل ما يقتضي اللوم؛ يصير معنى: ما أصبرهم على النار أنهم لما كانوا يفعلون هذه الأفعال الموجبة للنار صاروا كأنهم يصبرون على النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل، كما تفيده الآيات الكثيرة، فيعبر بالعمل عن الجزاء؛ لأنه سببه المترتب عليه؛ والنار هي الدار التي أعدها الله  للكافرين والظالمين؛ لكن الظلم إن كان ظلم الكفر فهم مخلدون فيها؛ وإن كان ظلماً دون الكفر فإنهم مستحقون للعذاب بحسب حالهم.

بعض فوائد الآيات:

1. أن يوم القيامة يُزَكى فيه الإنسان؛ وذلك بالثناء القولي، والفعلي؛ فإن الله يقول لعبده المؤمن حين يقرره بذنوبه: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم2، وأما الفعلي فإن علامة الثناء أنه يعطى كتابه بيمينه، ويَشهد الناسُ كلهم على أنه من المؤمنين؛ وهذه تزكية بلا شك.

2. أن عذاب هؤلاء الكافرين عذاب مؤلم ألماً نفسياً، وألماً جسمانياً؛ فأما الألم النفسي فدليله قوله تعالى: قال اخسئوا فيها ولا تكلمون فهذا من أبلغ ما يكون من الإذلال الذي به الألم النفسي؛ وأما الألم البدني فدليله قول الله – تعالى -: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً (سورة النساء:56)، وقوله تعالى: وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم (سورة محمد:15)، وقوله تعالى: يصب من فوق رؤوسهم الحميم۝ يصهر به ما في بطونهم والجلود۝ ولهم مقامع من حديد۝ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق (سورة الحج:19-22).

3.  تحذير علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب بكتمانهم الحق، وإفتاء الناس بالباطل للحصول على منافع مادية معينة.

4.  التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم لما يفضي إليه من العداء والشقاق البعيد بين المسلمين.

5.  أن المختلفين في كتب الله لا يزالون في شقاق بعيد، لا تتقارب أقوالهم وإن تقاربت أبدانهم.

6. أن الاختلاف ليس رحمة؛ بل شقاق، وبلاء؛ وبه نعرف أن ما يروى عن النبي  أنه قال: اختلاف أمتي رحمة3، لا صحة له؛ وليس الاختلاف برحمة؛ بل قال الله  : ولا يزالون مختلفين۝ إلا من رحم ربك (سورة هود:118) أي فإنهم ليسوا مختلفين؛ نعم؛ الاختلاف رحمة بمعنى: أن من خالف الحق لاجتهاد فإنه مرحوم بعفو الله عنه؛ فالمجتهد من هذه الأمة إن أصاب فله أجران؛ وإن أخطأ فله أجر واحد؛ والخطأ معفو عنه؛ وأما أن يقال هكذا على الإطلاق: إن الاختلاف رحمة فهذا مقتضاه أن نسعى إلى الاختلاف؛ لأنه هو سبب الرحمة على مقتضى زعم هذا المروي!! فالصواب أن الاختلاف شر4.

والله نسأل أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، والله أعلم.


1أخرجه أحمد وابن ماجة كلاهما بلفظ (ضحك ربنا…). وأما لفظ: (عجب ربنا) فقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية وقال: حديث حسن، وكذلك ابن كثير في تفسيره عند قوله – تعالى – في سورة البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ.. (سورة البقرة:214).

2رواه البخاري ومسلم.

3قال الألباني في السلسلة الضعيفة: لا أصل له، ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا (1 /76)، رقم (57).

4راجع : “جامع البيان في تأويل القرآن” لمحمد بن جرير الطبري (2 /118-124) ط: درا الإعلام + دار ابن حزم الطبعة الأولى (1423هـ – 2002م)، و”الجامع لأحكام القرآن” للقرطبي (2 /234-237) الطبعة الثانية، “تفسير القرآن العظيم ” للحافظ ابن كثير (1/193) ط: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1424هـ-2004م)، و”فتح القدير” للشوكاني (1 /264-265) المكتبة التجارية مصطفى أحمد الباز مكة المكرمة الطبعة الثانية، و”تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان” لابن سعدي (1 /134- 135) طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة (148هـ)، و”أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير” لأبي بكر الجزائري (1 /149-151) الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف (1414هـ)، و”تفسير ابن عثيمين”  المجلد الثاني.