خطورة التقليد

خطورة التقليد

 

خطورة التقليد

 

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله قد ذم المشركين المقلدين لآبائهم في الكفر والطغيان من غير دليل ولا برهان، وعاب عليهم صنيعهم؛ قال الله -تعالى- حاكياً عن خليله إبراهيم أنه قال لأبيه وقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ} سورة الأنبياء-(53- 52). وقد ورث هذه الخصلة الخسيسة بعض المقلدة من المسلمين، قال العلامة الشوكاني في  قوله: {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} أجابوه بهذا الجواب الذي هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز والحبل الذي يتشبث به كل غريق وهو التمسك بمجرد تقليد الآباء : أي وجدنا آباءنا يعبدونها فعبدناها اقتداء بهم ومشياً على طريقتهم، وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل هذه الملة الإسلامية، وإن العالم بالكتاب والسنة إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأي المدفوع بالدليل، قالوا هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين وبرأيه آخذين وجوابهم هو ما أجاب به الخليل ها هن1. وفي القرآن الكريم كثير من الآيات تبين خطورة التقليد، ومن هذه الآيات ما جاء في سورة البقرة، والتي سنقف معها في هذا الدرس، والله نسأل الله أن يرزقنا اتباع الكتاب والسنة، وأن يجنبنا سلوك طريق الزيغ والضلال، إنه سميع مجيب الدعاء.

الآيات:

قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( ) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ( ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ( ) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} سورة البقرة: 168-171

شرح الآيات:

قوله تعالى: {يا أيها الناس} المراد بـ{الناس} بنو آدم. قوله: {كلوا مما في الأرض} "مِن" يحتمل أن تكون لبيان الجنس؛ ويحتمل أن تكون للتبعيض؛ لكن كونها لبيان الجنس أولى؛ ويرجحه قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} سورة البقرة (29)؛ أي كلوا من هذا ما شئتم؛ ويشمل كل ما في الأرض من أشجار، وزروع، وبقول، وغيرها؛ ومن حيوان أيضاً؛ لأنه في الأرض. قوله: {حلالًا} منصوبة على الحال من "ما"؛ أي كلوه حال كونه حلالاً – أي محللاً -؛ فهي بمعنى اسم المفعول؛ و{طيباً} حال أخرى- يعني: حال كون طيباً – مؤكد لقوله تعالى: {حلالًا}.

قوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}؛ {لا} ناهية؛ و{خطوات الشيطان} أي أعماله التي يعملها، ويخطو إليها؛ وهو شامل للشرك فما دونه؛ فإن الشيطان يأمر بالفحشاء، والمنكر؛ قال تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على ما لا تعلمون} سورة البقرة (169)، وقال تعالى: {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} سورة النور (21)؛ فكل شيء حرمه الله فهو من خطوات الشيطان سواء كان عن استكبار، أو تكذيب، أو استهزاء، أو غير ذلك؛ لأنه يأمر به، وينادي به، ويدعو إليه؛ و{الشيطان} من: شطن؛ فالنون فيه أصلية؛ وليس من "شاط"؛ لأنه مصروف في القرآن؛ قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} سورة التكوير (25)؛ ومعنى "شطن" بعُد؛ فسمي الشيطان بذلك لبعده عن رحمة الله -عز وجل-. قوله: {إنه لكم عدو مبين} محل هذه الجملة استئنافية تعليل لما قبلها؛ والعدو ضد الصديق؛ وإن شئت فقل: ضد الولي؛ لقوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} سورة الممتحنة (1). وقوله: {مبين} أي ظاهر العداوة؛ وقد كان عدواً لأبينا آدم -صلى الله عليه وسلم-؛ فما زالت عداوته إلى قيام الساعة؛ وقال تعالى عنه: {لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا* وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ} سورة النساء (118-119)، ثم قال تعالى: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} سورة النساء (119). قوله: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء}؛ {إنما} أداة حصر؛ و"الحصر" إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه؛ يعني ما يأمركم إلا بالسوء والفحشاء… إلخ. وقوله: {يأمركم} أي الشيطان؛ والخطاب للناس جميعاً؛ لأن الآيات كلها سياقها للناس. وقوله: {بالسوء} أي كل ما يسوء من المعاصي الصغيرة؛ أي السيئات؛ و{الفحشاء} أي المعاصي الكبيرة؛ كالزنا، فهو يأمر بهذا، وبهذا؛ مع أن المعاصي الصغار تقع مكفّرة بالأعمال الصالحة إذا اجتنبت الكبائر؛ لكنه يأمر بها؛ لأنه إذا فعلها الإنسان مرة بعد أخرى فإنه يفسق، ويقسو قلبه. قوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} معطوف على قوله تعالى: {بالسوء} يعني أن الشيطان يأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون- أي تنسبوا إليه القول من غير علم-؛ وعطْف {أن تقولوا على الله ما لا تعلمون } على {السوء والفحشاء} من باب عطف الخاص على العام؛ فإنه داخل إما في السوء، أو الفحشاء؛ وهو أيضاً إلى الفحشاء أقرب.

قوله: {وإذا قيل لهم}؛ {قيل} مبني أصلها "قُوِل"؛ لكن صار فيها إعلال؛ وهي أن الواو مكسورة فقلبت ياءً، فكُسر ما قبلها للمناسبة؛ و{لهم} أي للكفار. قوله: {اتبعوا ما أنزل الله} عقيدةً، وقولاً، وفعلاً؛ و{ما} اسم موصول يفيد العموم، فتشمل جميع ما أنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الكتاب، والحكمة؛ وقد قال كثير من أهل العلم: "الحكمة" هي السنة. قوله: {قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}؛ {بل} هذه للإضراب الإبطالي؛ يعني: قالوا مبطلين هذا القول الذي قيل لهم: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}؛ {ما} اسم موصول؛ {ألفينا} أي وجدنا؛ كما قال الله –تعالى- في آية أخرى: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} سورة لقمان (21)؛ والقرآن يفسر بعضه بعضاً. وقوله: {ما ألفينا عليه آباءنا} يعني ما وجدناهم عليه من العقيدة والعمل، حقاً كان أو باطلاً؛ و{آباءنا} يشمل الأدنى منهم والأبعد؛ وجوابهم هذا باطل؛ ولهذا أبطله الله –تعالى- في قوله: {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}؛ والمعنى: أيتبعون آباءهم ولو كان آباؤهم في هذه الحال التي لا يستحقون أن يُتَّبعوا فيها لا يعقلون شيئاً؛ والمراد بالعقل هنا عقل الرشد؛ لا عقل الإدراك؛ فآباؤهم أذكياء، ويدركون ما ينفعهم، وما يضرهم؛ ولكن ليس عندهم عقل رشد – وهو حسن تصرف-. وقوله تعالى: {شيئاً} نكرة في سياق النفي؛ والنكرة في سياق النفي للعموم. قوله: {ولا يهتدون} أي لا يعملون عمل العالم المهتدي؛ وبهذا انتفى عنهم الرشد في العمل؛ والعلم في طريق لا يستحقون أن يتبعوا؛ ولهذا جاءت همزة الإنكار في قوله تعالى: {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}؛ وأقرب شبه لهؤلاء الآية التي بعدها.

قوله: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق} يعني كمثل الراعي الذي ينادي. قوله: {بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً} وهم البهائم؛ فهؤلاء مثلهم كمثل إنسان يدعو بهائم لا تسمع إلا صوتاً  ولا تفهم دعاءً، ولا نداءً؛ و "الدعاء" إذا كان يدعو شيئاً معيناً باسمه؛ و "النداء" يكون للعموم؛ وهناك بهائم يسميها الإنسان باسمها بحيث إذا ناداها بهذا الاسم أقبلت إليه؛ والنداء العام لجميع البهائم هذا لا يختص به واحدة دون أخرى؛ فتقبل الإبل جميعاً؛ لكن مع ذلك لا تقبل على أساس أنها تعقل، وتفهم، وتهتدي؛ ربما يناديها لأجل أن ينحرها؛ هؤلاء الكفار مثلهم – في كونهم يتبعون آباءهم بدون أن يفهموا هذه الحال التي عليها آباؤهم – كمثل هذا الناعق بالماشية التي لا تسمع إلا دعاءً، ونداءً. قوله: {صم} جمع أصم؛ وهو الذي لا يسمع؛ و{بكم} جمع أبكم؛ وهو الذي لا ينطق؛ و{عمي} جمع أعمى؛ وهو الذي لا يبصر؛ أي فهم صم عن سماع الحق؛ ولكن سماع غيره لا فائدة منه؛ فهو كالعدم؛ وهم بُكم لا ينطقون بالحق؛ ونطقهم بغير الحق كالعدم؛ لعدم نفعه؛ وهم كذلك عُمي لا يبصرون الحق؛ وإبصارهم غير الحق لا ينتفعون به. قوله: {فهم لا يعقلون} أي لكونهم صماً بكماً عمياً فهم لا يعقلون عقل رشد -وإن كان عندهم عقل إدراك -؛ فلعدم انتفاعهم بعقولهم نفى الله عنهم العقل؛ ورتب الله انتفاء العقل عنهم على كونهم صماً بكماً عمياً؛ لأن هذه الحواس وسيلة العقل والإدراك.

فوائد الآيات:

1.     إظهار منة الله على عباده، حيث أباح لهم جميع ما في الأرض من حلال طيب؛ لقوله: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً}.

2.     أن الأصل فيما في الأرض الحل والطيب حتى يتبين أنه حرام.

3.  أنه يجب على العاقل أن يأخذ حذره من الشيطان، ومن نزغاته، ومن طرقه وسبله، فإنه عدو مبين، وقد أبان الله عداواته، وحذر من اتباع خطواته؛ لقوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}. وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} سورة فاطر (6).

4.  أن الإنسان إذا وقع في قلبه همّ بالسيئة أو الفاحشة فليعلم أنها من أوامر الشيطان، فليستعذ بالله منه؛ لقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}سورة الأعراف (200).

5.     أن القول على الله بلا علم من أوامر الشيطان؛ لقوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.

6.  تحريم الفتوى بلا علم؛ فإن المفتي يقول على الله، ويعبر عن شرع الله؛ وقد جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} سورة الأعراف ( 33).

7.  ذم التقليد وقبحه والمنع منه؛ والبحث فيه يطول، ومن أراد الاستيفاء فليراجع: " القول المفيد في حكم التقليد" وأدب الطلب ومنتهى الأرب" للشوكاني.

8.  أن من تعصب لمذهب مع مخالفة الدليل ففيه شبه من هؤلاء؛ والواجب أن الإنسان إذا قيل له: "اتبع ما أنزل الله" أن يقول: "سمعنا وأطعنا".

9.     أن كل من خالف الحق، وما أنزل الله فليس بعاقل، وليس عنده هدًى؛ لقوله تعالى: {لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}.

10. أن هؤلاء في اتباع آبائهم مثل البهائم التي تستجيب للناعق وهي لا تسمع إلا صوتاً ولا تفهم دعاءً، ولا نداءً؛ لا تسمع شيئاً تعقله، وتعرف فائدته، ومضرة مخالفته2. والله أعلى وأعلم.


 


1 – راجع فتح القدير (3/589).

2راجع : " جامع البيان في تأويل القرآن" لمحمد بن جرير الطبري(2/101- 110). ط: درا الإعلام + دار ابن حزم. الطبعة الأولى(1423هـ – 2002م). و" الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي(2/207- 215). الطبعة الثانية. "تفسير القرآن العظيم " للحافظ ابن كثير(1/190- 191). ط: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1424هـ- 2004م). و" فتح القدير" للشوكاني(1/258- 261). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لابن سعدي(1/130- 133). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ). و" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري(1/144- 145). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ). و" تفسير ابن عثيمين"  المجلد الثاني.