مشروعية الوقف على المساجد
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد:
هذا بيان لمسألة مشروعية الوقف على المساجد, ومعلوم أن الوقف لغة: مصدر وقف وهو الحبس والتسبيل, وشرعاً: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
وقد دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة على مشروعية الأوقاف.
فمن الكتاب قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} (92) سورة آل عمران.
فإن أبا طلحة -رضي الله عنه- لما سمعها بادر إلى وقف أحب أمواله إليه، وهي بيرحاء (حديقة مشهورة).
ومن السنة ما رواه مسلم عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»1. والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف، ولذلك قال النووي في شرح هذا الحديث: "فيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه.."2. والصدقة الجارية هي الوقف.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: "إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ" قَالَ: (إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا».قال: قَالَ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُبْتَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ قَالَ فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ)3..
قال ابن حجر: وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف4.
ومن الأدلة –أيضاً- فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد روى البخاري وغيره عن عمرو بن الحارث -ختن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخي جويرية بنت الحارث- قال: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً وَلَا شَيْئًا إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً)5.
قال ابن حجر: إنه تصدق لمنفعة الأرض، فصار حكمها حكم الوقف6.
أما إجماع الصحابة: فقد قال القرطبي: أن المسألة إجماع من الصحابة ، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ، وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص وابن الزبير وجابرا كلهم وقفوا الأوقاف ، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة ومشهورة7.
وقال ابن قدامة: قال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ذا مقدرة إلا وقف، وهذا إجماع منهم، فلا يلتفت إلى خلافه8.
ولا شك أن أعظم الأوقاف ما كان على دور العبادة من المساجد والمدارس ونحوه9.
والله أعلم, وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين.
1 رواه مسلم -3084- (ج 8 / ص 405), والترمذي -1297- (ج 5 / ص 243), والنسائي -3591- (ج 11 / ص 424).
2 شرح النووي على مسلم – (ج 6 / ص 21).
3 رواه البخاري -2532- (ج 9 / ص 263), ومسلم -3085- (ج 8 / ص 407).
4 فتح الباري لابن حجر – (ج 8 / ص 350)
5 رواه البخاري -2534 – (ج 9 / ص 267).
6 فتح الباري لابن حجر – (ج 8 / ص 293).
7 تفسير القرطبي – (ج 6 / ص 339).
8 الشرح الكبير لابن قدامة – (ج 6 / ص 185) المغني – (ج 12 / ص 175).
9استفيد الموضوع من: المشروع والممنوع في المسجد –لـ(محمد بن علي العرفج) (ج 1 / ص23-25).