تعنت اليهود

تعنـت اليـهـــود

تعنـت اليـهـــود

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

الآيات:

يقول المولى -جل وعلا- حكاية عن بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } سورة البقرة: 55-59.

 

شرح الآيات:

قوله: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى } أي واذكروا يا بني إسرائيل إذ قلتم؛ والخطاب لمن كان في عهد الرسول-صلى الله عليه وسلم-. قوله: { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ } أي لن ننقاد، ولن نصدق،ولن نعترف لك بما جئت به. قوله: { حَتَّى ن اللَّهَ جَهْرَةً } {نَرَى} بمعنى نبصر؛ ولهذا لم تنصب إلا مفعولاً واحداً؛ لأنها رؤية بصرية. قوله: { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } يعني الموت الذي صُعقوا به؛ { وََأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } أي ينظر بعضُكم إلى بعضٍ حين تتساقطُون.

قوله:{ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } أصل "البعث" في اللغة الإخراج؛ ويطلق على الإحياء، كما في هذه الآية؛ ويدل على أن المراد به الإحياء هنا قوله-تعالى-: { مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ }؛ وهو موت حقيقي، وليس نوماً؛ لأنَّ النَّومَ يُسمَّى وفاةً؛ ولا يُسمَّى موتاً؛ كما في قولِهِ-تعالى-:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} سورة الأنعام(60). وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} سورة الزمر(42).

وقوله: { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } هذه نعمة كبيرة عليهم أن الله-تعالى- أخذهم بهذه العقوبة، ثم بعثهم ليرتدعوا؛ ويكون كفارة لهم؛ ولهذا قال: { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تشكرون الله -سبحانه وتعالى-.

قوله: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } أي جعلناه ظلاً عليكم؛ وكان ذلك في التيه حين تاهوا؛ وقد بقوا في التيه بين مصر والشام أربعين سنة يتيهون في الأرض؛ وما كان عندهم ماء، ولا مأوى؛ ولكن الله -تعالى- رحمهم، فظلل عليهم الغمام؛ و{الْغَمَامَ} الظاهر أن المراد بالغمام هنا السحاب البارد الذي يكون به الجو بارداً، ويتولد منه رطوبة، فيبرد الجو. قوله: { وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } يقولون: { الْمَنَّ } شيء يُشبه العسل؛ ينْزل عليهم بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس؛ فإذا قاموا أكلوا منه { وَالسَّلْوَى } طائر ناعم يسمى "السُّمَانَى"، أو هو شبيه به؛ وهو من أحسن ما يكون من الطيور، وألذه لحماً. قوله: { كُلُوا } الأمر هنا للإباحة؛ يعني أننا أبحنا لكم هذا الذي أنزلنا عليكم من المن والسلوى { مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } {مِنْ} هنا لبيان الجنس؛ لأنهم أبيح لهم أن يأكلوا جميع الطيبات. قوله: { وَمَا ظَلَمُونَا } أي ما نقصونا شيئاً؛ لأنَّ الله لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين. قوله: { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي لا يظلمون بهذا إلا أنفسهم؛ أما الله-تبارك وتعالى- فإنهم لا يظلمونه؛ لأنه -سبحانه وبحمده- لا يتضرر بمعصيتهم، كما لا ينتفع بطاعتهم.

قوله: { وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ } أي واذكروا يا بني إسرائيل إذ قلنا ادخلوا هذه القرية. و{ ادْخُلُوا } أمر كوني وشرعي؛ لأنهم أُمروا بأن يدخلوها سجداً وهذا أمر شرعي؛ ثم فُتحت، فدخلوها بالأمر الكوني. وقد اختلف المفسرون في تعيين هذه القرية؛ ولعلَّ الصواب أن المراد بها: بيت المقدس؛ لأن موسى قال لهم: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} سورة المائدة(21). قوله: { فَكُلُوا مِنْهَا } أمر إباحة وإرشاد وامتنان، فقد أبحنا لكم أن تأكلوا منها { حَيْثُ شِئْتُمْ } أي في أي مكان كنتم من البلد في وسطها، أو أطرافها تأكلون ما تشاءون {رغداً} أي طمأنينة، وهنيئاً لا أحد يعارضكم في ذلك، ولا يمانعكم. قوله: { وَادْخُلُوا الْبَابَ } أي باب القرية؛ لأن القرى يجعل لها أبواب تحميها من الداخل والخارج {سجداً} منصوب على أنه حال من الواو في قوله –تعالى-: {ادخلوا} أي ساجدين. والمعنى: إذا دخلتم فاسجدوا شكراً لله. قوله: {وقولوا حطة} أي قولوا هذه الكلمة {حطة} أي احطط عنا ذنوبنا، وأوزارنا. والمراد: اطلبوا المغفرة من الله -سبحانه وتعالى- إذا دخلتم وسجدتم. قوله: {نغفر لكم خطاياكم} "المغفرة" هي ستر الذنب، والتجاوز عنه؛ ومعناه أن الله ستر ذنبكم، ويتجاوز عنكم، فلا يعاقبكم؛ لأن "المغفرة" مأخوذة من المغفر، وهو ما يوقى به الرأس في الحرب؛ لأنه يستر ويقي. و{خطاياكم} جمع خَطِيَّة، كـ"مطايا" جمع مطية؛ و "الخطية" ما يرتكبه الإنسان من المعاصي عن عمد. قوله: {وسنزيد} أي سنعطي زيادة على مغفرة الذنوب {المحسنين} أي الذين يقومون بالإحسان في عبادة الله، وفي معاملة الخلق.

قوله: {فبدل الذين ظلموا} أي فاختار الذين ظلموا منهم على وجه التبديل، والمخالفة {قولاً غير الذي قيل لهم} وذلك أنهم قالوا: "حنطة في شعيرة" بدلاً عن قولهم: "حطة". قوله: {فأنزلنا} الفاء للسببية؛ والمعنى: فبسبب ما حصل منهم من التبديل أنزلنا {على الذين ظلموا} أي عليهم {رجزاً} أي عذاباً {من السماء} أي من فوقهم؛ كالحجارة، والصواعق، والبَرَد، والريح، وغيرها؛ والمراد بـ{السماء} هنا العلوّ، ولا يلزم أن يكون المراد بها السماء المحفوظة؛ لأن كل ما علا فهو سماء ما لم يوجد قرينة؛ كما في قوله –تعالى-: {وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} سورة الأنبياء(3). قوله: {بما كانوا يفسقون} الباء هنا للسببية. أي بسبب؛ و "ما" مصدرية. أي بكونهم فسقوا. و{كانوا} المراد تحقيق اتصافهم بذلك. و{يفسقون} أي يخرجون عن طاعة الله-عز وجل-.

 

فائـدة:

قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه إحدى الآيات الخمس التي في سورة البقرة التي فيها إحياء الله -تعالى- الموتى؛ والثانية: في قصة صاحب البقرة؛ كما في قوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى} سورة البقرة(73). والثالثة: في الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال الله لهم: {مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} سورة البقرة(243). والرابعة: في قصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال: {أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } سورة البقرة(259). والخامسة : في قصة إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى…} سورة البقرة(260) الآية.

بعض فوائد الآيات:

1. تذكير الله –تعالى- بني إسرائيل بنعمته عليهم، حيث بعثهم من بعد موتهم.

2. سفاهة عقول بني إسرائيل؛ وما أكثر ما يدل على سفاهتهم!؛ فهم يؤمنون بموسى، ومع ذلك قالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}.

3. وجوب الشكر على من أنعم الله عليه بنعمة؛ لقوله –تعالى-: {لعلكم تشكرون}.

4. نعمة الله-تبارك وتعالى- بما هيأه لعباده من الظلِّ؛فإن الظلّ عن الحرّ من نعم الله على العباد.

5. بيان نعمة الله على بني إسرائيل بما أنزل عليهم من المن والسلوى يأتيهم بدون تعب، ولا مشقة.

6. أن الإنسان إذا أنعم الله عليه بنعمة فينبغي أن يتبسط بها، ولا يحرم نفسه منها؛ لقوله- تعالى-: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}.

7. أن المباح من الرزق هو الطيب الحلال؛ لقوله: {كلوا من طيبات}؛ وأما الرزق المكتسب عن طريق الحرام فهو خبيث.

8. أنه يجب على من نصره الله، وفتح له البلاد أن يدخلها على وجه الخضوع، والشكر لله؛ لقوله: {وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة}.

9. حرمة تأويل النصوص الشرعية للخروج بها عن مراد الشارع منها.

10. أنَّ الإحسان سبب للزيادة, سواء كان إحساناً في عبادة الله، أو إحساناً إلى عباد الله.

11. أفضيلة أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم- على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم، وعدم تعنتهم لأمر الله أو أمر رسوله؛ مع ما كانوا يلقونه من التعب والمشقة في أسفارهم وغزواتهم مع النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ ومن ذلك في غزوة تبوك، وفي ذلك الحر الشديد، والجوع القاتل؛ فلم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم خرق العادة، ولا إيجاد معدوم أو مستحيل. مع أنه صلى الله عليه وسلم لو دعا ربه  أن يجعل لهم الأرض ذهباً لاستجاب له، ومع ذلك لم يطلبوا من نبيهم ذلك، حتى لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم، فجمعوا ما معهم، فجاء قدر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله -تعالى- فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر. وأما بنو إسرائيل " يهود" مع أنهم شاهدوا الآيات البينات، والمعجزات القاطعات, وخوراق العادات، ومع هذا خالفوا وكفروا، وظلموا أنفسهم.

12. بيان عقوبة هؤلاء الظالمين، وأن الله أنزل عليهم الرجز من السماء .1

والله أعلى وأعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 – راجع: " تفسير القرآن العظيم" للحافظ ابن كثير(1/89- 96). ط: دار الحديث القاهرة. الطبعة السادسة. (1413هـ). مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة. و "جامع البيان في تأويل القرآن" لمحمد بن جرير الطبري(1/328- 346). ط: دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان. الطبعة الأولى(1421هـ). و " الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي(1/403- 417). الطبعة الثانية. و " تفسير ابن عثيمين ". المجلد الأول. و " أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري(1/56- 60). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ). و " فتح القدير" للشوكاني(1/137- 142). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لابن سعدي(1/60- 61). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ).