صفات المتقين
"وقفة مع أوائل سورة البقرة"
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أخواني في الله نقف معكم في هذا الدرس مع قوله –تعالى-: (( ألم* ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين* الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون* والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون* أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)).
ابتدأت السورة بذكر أوصاف المتقين. وابتداء السورة بالحروف المقطعة (ألم) يجذب أنظار المعرضين عن القرآن، إذ تطرق أسماعهم لأول وهلة ألفاظ غير مألوفة في تخاطبهم، فينتبهون إلى ما يلقى إليهم من آيات، وفي هذه الحروف إعجاز للقرآن العظيم.
قوله -تعالى-: ((ذلك الكتاب لا ريب فيه))، أي لا شك في أنه من عند الله، وأنه حق محض لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قوله -تعالى-: (( هدى للمتقين)) أي هادٍ للمؤمنين المتقين، الذين يتقون سخط الله، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، قال ابن عباس: المتقون هم الذين يتقون الشرك، ويعملون بطاعة الله، وقال الحسن البصري: اتقوا ما حرم عليهم، وأدو ما افترض عليهم.
ما هي صفات هؤلاء المتقين؟!
الصفة الأولى:الإيمان بالغيب: ((يؤمنون بالغيب)) والغيب هو كل ما غاب عن حس الإنسان ومداركه المعروفة: العين، والأذن ومن هذه الأمور: أركان الإيمان الستة، فإنها كلها غيب إلا القرآن، فإنه بين أيدينا، ولكن يجب التصديق به والعمل؛ فإننا لم نشهد تنزيله، ولكن آمنا بأنه من عند الله.
فالإيمان بالله غيب، فهو تعالى لا تدركه الأبصار، كما قال –تعالى-: (( لا تدركه الأبصار)) ولن تراه في الدنيا، وإنما يراه عباده المتقون إكراماً لهم في الآخرة في دار النعيم، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً لمذهب أهل البدع الذين ينكرون ذلك. فالله تعالى لا يراه أحد في الحياة الدنيا، فكان الإيمان به دليل على صدق المؤمن وتقواه، ولهذا جاء في سورة الملك: ( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير) فالذين يخافون من الله وهم لم يروه دليل على حبهم له، وقوة إيمانهم ويقينهم به، فصدق أن يكون هؤلاء من المتقين الصادقين، ولهذا كان الذين لا يراقبون الله عند خلوتهم وانفرادهم بأنفسهم من أخبث الناس، وهم الذين تراهم بين الناس كالملائكة أخلاقاً وسمتاً وعبادة، فإذا اختلوا بأنفسهم، ولم يروا أحداً من البشر فعلوا كل ما ينكر عقلاً وعرفاً وشرعاً، ما جزاء هؤلاء لما راقبوا الناس ولم يراقبوا الله ؟ كما قال تعالى: ((يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذا يبيتون ما لا يرضى من القول)) ما كان جزاء هؤلاء؟ لقد كان جزاؤهم ما أخبر به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لأعلمن أناساً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال مثل جبال تهامة بيضاً يجعلها الله هباءً منثوراً!) فقال ثوبان: من هم يا رسول الله؟ صفهم لنا؟ جلهم لنا ألا نكون منهم؟! فقال: (أما إنهم إخوانكم، يصومون كما تصومون، ويقومون من الليل كما تقومون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). رواه ابن ماجه وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله-. فأي إيمان هذا؟ أن يأتي إنسان ويتظاهر بالصلاح أمام الناس، فإذا خلا بنفسه انتهك محارم الله من فواحش وغيرها، أي تقوى هذه؟ وأي إيمان هذا؟ وهل يستحق أن يدخل تحت قوله: (( المتقين الذين يؤمنون بالغيب)) فلو آمن بالله لخافه واتقاه، ولما كان الله أهون الناظرين إليه.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!
إذن تبين لنا أن الإيمان بالله هو من الإيمان بالغيب، الذي جعل الله الإيمان به دليلاً على قوة الإيمان. ومن الإيمان بالله: التصديق بكتبه ورسله، والعمل بما أمرنا الله به ورسوله، ويشمل: توحيد الله في ربوبيته بأنه الخالق المالك المدبر، كما يشمل الإيمان بألوهيته التي لا يخضع لها كثير من البشر اليوم، حيث أن الله تعالى هو المعبود بحق وحده لا شريك له، وما سواه باطل. ويشمل الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاته كما سمى ووصف به نفسه، أو وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكذا الإيمان والتسليم لله في الحكم والأمر فإن التشريع والأحكام التي تنظم حياة البشر هي من خصوصية الله، ولا يشاركه فيها أحد؛ فإن شاركه واعترض عليه كفر، ولهذا قال –تعالى-: (( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)) ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)) فهذا كله يلزم من الإيمان بالله، ولا يكفي الاعتراف المجرد، أو التصديق الذي لا يوافقه عمل، بل لا بد من الجمع بين: تصديق القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح… إذن، فكل من آمن بهذه الأمور التي تجب لله تعالى كان حقاً من المتقين؛ لأنه آمن بالله الذي لا يراه أحد في هذه الحياة فهو غيب من الغيوب.
ومن الغيب كذلك الملائكة: فهم جنود الله، وعباده وأولياؤه وأحباؤه، هم الذين: ((يسبحون الليل والنهار لا يفترون)) وهم الذين (( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)) فلهذا كان الإيمان بهم واجب، وهذا الإيمان دليل على تقوى العبد وقوة يقينه بما أخبر عنه الله ورسوله، وقد جاء ذكر الملائكة في مواضع عدة في القرآن والسنة، قال –تعالى-: ((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)) وقال: ((وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا )) وقال: (( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون* يسبحون الليل والنهار لا يفترون)) وغيرها كثير في القرآن..
وأما في السنة فعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) رواه مسلم. وقوله: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر) رواه البخاري ومسلم.. وغيرها كثير جداً، لا يمكن في هذا المقام ذكر كثير منها فضلاً عن حصرها . ومما يجب في هذا الأمر: الإيمان بهم جملة وتفصيلاً، فأما جملة فهو الإيمان بأن لله تعالى ملائكة مخلوقين من نور، قائمين بطاعته ليلاً ونهاراً، لا يفترون عن حمده وشكره وتسبيحه، ولا يعصونه ما أمرهم سبحانه وتعالى. وأما تفصيلاً فنؤمن بمن ذكر لنا اسمه في القرآن والسنة: كجبريل، وميكال، وإسرافيل، ومالك، ورضوان، ولا يمكن بسط الأدلة هنا لذكر مواضع ورود هذه الأسماء وغيرها.
ومما يجب علينا في ملائكة الله: حبهم وتقديرهم والثناء عليهم كونهم إخواننا في الله تعالى، يجمعنا بهم الإيمان بالله، وحب الطاعة، وبغض المعاصي.. اللهم اجعلنا ممن يحبهم ويرضى عنهم.
ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بالكتب المنزلة على الرسل -عليهم السلام-، جملة وتفصيلاً، فأما جملة فهو أن نؤمن بأن الله –تعالى- أنزل على رسله كتباً لهداية البشرية، وأما تفصيلاً فالإيمان بما ذكر في القرآن الكريم والسنة المطهرة: كصحف إبراهيم، والتوراة، والزبور، والإنجيل، والقرآن الكريم، فهذه لا بد من التصديق بأنها من عند الله، وأنها حق، ثم جرى التأويل والتحريف للتوراة والإنجيل.. إلا أن القرآن الكريم له مزية خاصة حيث تكفل الله بحفظه من التحريف: (( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) والإيمان بكونه ناسخاً لما سبقه من الكتب. والإيمان بالقرآن يتضمن تصديق كونه من عند الله، واليقين في ذلك، كما جاء في أول السورة: (( ذلك الكتاب لا ريب فيه)) وأنه لا تصلح الحياة إلا به، وبتطبيق أحكامه، والعمل بما جاء فيه.. وغير ذلك مما يتضمنه هذا الكتاب العزيز الذي ((لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)).
ومن الإيمان بالغيب الإيمان بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- جملة وتفصيلاً –أيضاً- فمن حيث الجملة: نؤمن ونوقن بأن الله –تعالى- لما خلق الناس احتاجوا إلى هداية، وإرشاد، وتوجيه مستمر، فأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق.. والكتاب هنا اسم جنس، أي كل نبي له كتاب يدعو إليه، ويرشد الناس به. وكذا الإيمان بأن هؤلاء الرسل حق من عند الله، وهم كثير جداً على امتداد تاريخ البشرية إلى عهد نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- عن أبي أمامة أن رجلاً قال : يا رسول الله أنبياً كان آدم ؟ قال : (نعم ، مكلَّم) قال : كم كان بينه وبين نوح ؟ قال: (عشرة قرون ). قال : يا رسول الله! كم كانت الرسل قال : (ثلاثمائة وخمسة عشر ) وروي بلفظ: قلت: يا نبي الله فأي الأنبياء كان أول؟ قال: (آدم عليه السلام) . قال : قلت: يا نبي الله ! أو نبي كان آدم ؟ قال : (نعم ، نبي مكلم ، خلقه الله بيده ، ثم نفخ فيه من روحه ، ثم قال له : يا آدم قبلا ). قال : قلت : يا رسول الله ! كم وفى عدد الأنبياء؟ قال : (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر، جماً غفيراً)رواه ابن حبان وصححه الألباني. وأما تفصيلاً: فمن ورد ذكرهم في القرآن الكريم أو السنة، نؤمن بهم ونصدق برسالتهم،وهم: آدم، ونوح، وإدريس، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وصالح، وهود، وذو الكفل، ويونس، وشعيب، والأسباط، واليسع، ولوط، وموسى، وهارون، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وإلياس، وعيسى، ومحمد -صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين- فهؤلاء من ورد ذكرهم في القرآن، وعددهم خمسة وعشرون.
ومن الإيمان بالرسل الإيمان بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وما جاء به من الحق المبين، والوحي الآمين، المنزل من رب العالمين. ولا يكفي الإيمان به دعوى الحب باللسان، أو إقامة الاحتفالات والموالد لذكره، بل إن هذه الموالد بدعة منكرة، لم يفعلها السلف الكرام، وإنما ابتدعها الخلف الطغام.. إن حب النبي -صلى الله عليه وسلم- يتمثل بطاعته في كل ما أمر به أو نهى عنه، وحبه وتوقيره، واتباع سنته، وحب أصحابه وآله الطيبين، هذا هو المقياس الحق للإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-. وهكذا فالإيمان بالرسل يعد من الإيمان بالغيب؛ لأنهم لا يرون اليوم في الحياة، فالإيمان بهم بعد انقطاع طويل عنهم يعد من الإيمان بالغيب، وحُقَّ لصاحبه أن يدخل تحت قوله –تعالى-:(المتقين).
ومن الإيمان بالغيب أيضاً: الإيمان باليوم الآخر، الذي أنكره كثير من الكفار من وثنيين وبوذيين، ومجوس ومشركين، وكل الملحدين الدهريين.. والإيمان به يتضمن: الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، والإيمان بالبعث والخروج من القبور للقاء الله، و الإيمان بالعرض على الله، والإيمان بالمقام المحمود الذي أوتيه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان بالجزاء والحساب، والإيمان بالصراط، والإيمان بالجنة والنار، والإيمان بحوض النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه يشرب منه المؤمنون، ويرد عنه المنافقون والكافرون، والإيمان بما جاء ذكره في الجنة من نعيم مقيم، وبما جاء في النار من الأغلال والحميم، كما دل على ذلك القرآن ودلت عليه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيدخل فيه كلما يتعلق باليوم الآخر مما جاء الخبر به. وهناك أمور أخرى يجب أن يؤمن بها الإنسان في يوم الدين: كرؤية المؤمنين لربهم في الجنة، وذبح الموت بين الجنة والنار، وغير ذلك كثير جداً، يجب الإيمان به وهو دلالة على قوة اليقين. ومما يستلزم من الإيمان باليوم الآخر: العمل له، والاستعداد للقاء الله بالباقيات الصالحات، والحسنات النافعات، والبعد عن كل موارد الهلاك والبوار، نعوذ بالله العظيم من موارد البلاء والحرمان.
ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله –تعالى-: فكل ما يحصل في الحياة قد علمه الله قبل خلقه، وكتبه عنده، فهو (عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) وعلى هذا فما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، كما جاء في الحديث. فكل ما يحصل فهو مقدر في اللوح المحفوظ.. ولا يمكن أن يخرج عن قدر الله تعالى شيء.. كيف؟ وهو –تعالى- قد علم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. وقد جاء ذكر القدر في مواضع كثيرة من القرآن والسنة نذكر بعض الأدلة: قال تعالى: (( إنا كل شيء خلقناه بقدر )) وقال: (( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله )) وقال: ((ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن تبرأها إن ذلك على الله يسير* لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور))
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء ) رواه مسلم.
ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بما أخبر الله به من الأمور المستقبلية، التي لم تحصل بعد: كخروج الدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى -عليه السلام-، وما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أشراط الساعة الصغرى والكبرى، وغير ذلك.
بلاغة القرآن وفصاحته:
قوله –تعالى-: ( الغيب) دخل فيها كل غيب يجب الإيمان به، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وما أخبر به الله ورسوله من المستقبلات التي لم تحصل. فسبحان من اختص كتابه بقوة عبارته وفصاحتها، وبلاغتها، في جمعه المعاني العظيمة بألفاظ موجزة..
ذكر أقوال العلماء والمفسرين في قوله: (يؤمنون بالغيب): عن أبي العالية في قوله –تعالى-: ((يؤمنون بالغيب)) قال: يؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره، ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت، وبالبعث، فهذا غيب كله. وكذا قال قتادة وغيره، وكلام العلماء في معنى هذا، يدور حول ما ذكر سابقاً من كلام أبي العالية -رحم الله الجميع-.
الصفة الثانية: ((ويقيمون الصلاة)) قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: إقامة الصلاة إتمام الركوع، والسجود، والخشوع، والإقبال عليها فيها، وقال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها، ووضوئها، وركوعها وسجودها.. وكلام المفسرين في هذا متقارب، والمعنى واحد، وهو أن المقصود بإقامة الصلاة أن تكون صلاة كاملة كما أراد الله.. والمفهوم السائد في هذا الزمن: أنهم فهموا من ذلك مطلق الصلاة، فكل من صلى فهو مقيم للصلاة، ولو كانت كيفما تكون.. إنه لا بد من التفريق بين القيام إلى الصلاة، وبين إقامة الصلاة.. إن إقامة الصلاة تعني: إتمام الصلاة بخشوعها، وركوعها، وسجودها والإقبال على الحي القيوم، وأما القيام إليها فمن الممكن أن يقوم كل واحد منا إلى الصلاة.. ولكن قد يكون قلبه معلق في أمور خارج الصلاة، فالجسد حاضر والروح طائر، فيخرج العبد من الصلاة ولا يدري ما قال فيها.. إلا أن هناك مسألة مهمة وهي: أن الواجب و الفريضة من حيث كون الصلاة فرضاً تكون قد رفعت عنه، أي الإيجاب و الإلزام بالصلاة، فهو بمجرد القيام بالصلاة يكون قد سقط عنه الفرض.. لكن الشيء الخطير الذي لا يتقنه إلا الحذاق، وهو كيف تكون صلاتنا كلها أو أكثرها مقبولة من حيث الأجر والثواب، ورفع الحسنات، وكيف لا تكون كذلك؟
إن الفارق بين هذا وذاك هو الخشوع والخضوع، والإقبال بالجوراح والقلب على الله –تعالى-، ولهذا جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: " إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته, تسعها, ثمنها, سبعها,سدسها, خمسها، ربعها, ثلثها, نصفها " رواه أحمد وحسّنه الألباني .
وإقامة الصلاة من المفاهيم التي سيء فهمها، وغلط في تطبيقها، حيث أننا أخذنا الأمر على أنه ركيعات ننقرها كنقر الغرب الدم، ثم نخرج منها ونحن عباد الله المقربون!!
فسبحان من جعل لكتابه هذه الفصاحة والبلاغة، والمعاني العظيمة التي تستخرج من ألفاظ موجزة. فمن أقام الصلاة كما ذكر علماء التفسير وغيرهم، فهو المتقي حقاً، ويصدق عليه قول الله ( المتقين) وهو المهتدي بهذا القرآن، والمنتفع به حقاً.
الصفة الثالثة: دفع الزكاة الواجبة والمستحبة: (( ومما رزقناهم ينفقون)) أي ومما أعطاهم الله من الرزق الذي سهله لهم في الأرض ينفقون ويخرجون زكاة أموالهم، التي هي ركن من أركان الإسلام.. قال قتادة: فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عوار وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها. قال ابن كثير رحمه الله: (كثيراً ما يقرن الله بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق لله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده، والثناء عليه، وتمجيده، والابتهال إليه، ودعائه، والتوكل عليه.. والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين، بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك: القرابات، والأهلون، والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله –تعالى-: (( ومما رزقناهم ينفقون)). أ.هـ.
لقد اتضح لنا من خلال الكلام السابق أن الزكاة تشمل الآتي:
1. زكاة الأموال إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، وهي ركن من أركان الإسلام.
2. الإنفاق على الوالدين والأهل، وهذا واجب.
3. الإنفاق على الفقراء والمساكين، من غير الأقارب الواجب الإنفاق عليهم، فهذا من المستحبات، وهذا من غير الزكاة الواجبة والمفروضة؛ لأن الإنسان في هذه الحال يدفعها بدون إلزام ولا إيجاب من الشرع، ولكن لمزيد خير وإحسان.
فالإنفاق شامل لهذه الأصناف المذكورة.
فمن أدى زكاة ماله سخية بها نفسه، راضياً بحكم الله، من غير تكلف ولا جحود، ولم يكن كارهاً لبخله وحرصه، بل كان طيب النفس فهو من (المتقين).
الصفة الرابعة: (( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)).
قال ابن عباس: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به مَن قبلك مِن المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم.. وهذا يدخل في عموم قوله –تعالى-: ( الغيب) لأن كتب من قبلنا وإنزالها على الرسل لم نشهده ولم نعلمه، فالإيمان بذلك من الإيمان بالغيب، وهذا التخصيص هنا يدلنا على أهمية الإيمان بالكتب، وأشرفها: القرآن الذي نسخ من قبلها؛ لأن الإيمان به يستلزم الإيمان ببقية أمور الغيب.
الصفة الخامسة: (وبالآخرة هم يوقنون) أي بالبعث، والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان – كما ذكر ابن كثير، وسميت ( الآخرة) بذلك؛ لأنها بعد الدنيا متأخرة عنها، و اليقين معناه: التصديق الجازم الذي لا يعتريه شك، وهو ضد الريب والشك، فاليقين منتهى التصديق، ومنه عين اليقين، وحق اليقين، وعلم اليقين، فعلم اليقين: الإيمان بالشيء عن بعد، وحق اليقين: الإيمان بالشيء عن قرب منه، وتلمس لأحواله ودلالاته، وعين اليقين: هو أعلى درجات اليقين؛ لأنه يرى عين الشيء وكنهه. ولهذا جاء في الخبر الصحيح ( ليس الخبر كالمعاينة)[1]ومثاله: ما لو قيل لإنسان إن في هذه العلبة حلواء، وهو يراها من بعيد فصدق، فهذا علم اليقين، فإن قربت إليه ونظرها ازداد يقينه، وهذا هو حق اليقين، فإن ذاقها وطعم حلاوتها، فهذا هو عين اليقين.
فاليقين هنا معناه: التصديق بيوم الدين؛ لدلائل القرآن والسنة، ولسنة الله في العدل والفصل.. وهو يتفاوت بين مؤمن وآخر، فمنهم من يكون عنده علم اليقين، ومنهم من يكون عنده حق اليقين، ومنهم من يكون عنده عين اليقين، وهو أعلى الدرجات، كما جاء عن بعض الصحابة أنه قال: ( لو رأيت الجنة لما ازداد في يقيني شيئاً) وقال الآخر: ( لو كشف الحجاب لما ازداد في إيماني شيئاً ) بمعنى أن اليقين لديهم لا يعتريه أدنى شك فيما يؤمنون به, وهذا أعلى درجات الدين وهو الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه)[2] .
وقوله –تعالى-: (أولئك): إشارة إلى من تقدمت صفاتهم من الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والإنفاق، والإيمان بما أنزل على الرسل، واليقين بالدار الآخرة.
(على هدى): أي على نور وبيان وبصيرة من الله، (وأولئك هم المفلحون). أي الفائزون في الدنيا والآخرة. قال ابن عباس: الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.. فالفلاح هو الفوز الأبدي في الدنيا والآخرة، فإن من وفقه الله للسداد في هذه الحياة، والاستقامة على سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والموت عليها، كان من الفائزين المفلحين..
فكل هذه الصفات تجعل الإنسان مؤمناً حقاً، وهو بذاك من المتقين، الذين اتقوا عقاب الله بهذه الصفات الشريفة العالية… كل هذه الآيات تتحدث عن صفات المتقين.. وستأتي الآيات بعدها لتحدثنا عن صنف ثانٍ ممن اتصفوا بصفات خبيثة، وهم الكفار.. ثم في الآيات بعدها صفات لشر الخليقة وأخبثها، وهم المنافقون، الذين يطعنون في صف الإسلام من داخله، وقانا الله شرهم، فما أكثرهم في هذا الزمن! ولا قوة إلا بالله.
إن شاء الله في الحلقة الثانية سيكون الكلام عن صفات الكافرين والمنافقين.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.