العصمة لمن تكون؟
الحمد لله على عظيم مننه، وصلى الله على محمد عبده وخاتم أنبيائه ورسله، وسلم تسليماً، ونبرأ إليه تعالى من الحول والقوة، ونستعينه على كل ما يعصم في الدنيا من جميع المخاوف والمكاره، ويخلص في الأخرى من كل هول وضيق .. أما بعد:
فقد وردت العصمة في اللغة لعدة معاني منها:
المنع: قال تعالى: قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء (سورة هود:43) أي يمنعني من الغرق، وقال تعالى: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ (سورة يوسف:32)، أي امتنع امتناعاً شديداً، وفي الحديث: فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم1 أي منعوا مني دماءهم، وأموالهم، قال القرطبي:”وسميت العصمة عصمة لأنها تمنع من ارتكاب المعصية”2.
الحفظ: قال في اللسان: “والعصمة الحفظ، يقال: عصمته فانعصم، واعتصمت بالله إذا امتنعت بلطفه من المعصية”3، وقال في الفتح: “باب المعصوم من عصم الله أي من عصمه الله بأن حماه من الوقوع في الهلاك، أو ما يجر إليه، يقال: عصمه الله من المكروه وقاه وحفظه”4.
القلادة: قال في لسان العرب: “والعصمة القلادة، والجمع عصم، وجمع الجمع أعصام وهي العُصْمةُ”5 وقال الراغب: “شبه السوار”6 “والعصمة بالضم القلادة، والجمع الاعصام، قال لبيد:
حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا | غُضْفَاً دواجنَ قافلاً أعصامه7 |
الحبل: قال الزجاج: “أصل العصمة الحبل، وكل ما أمسك شيئاً فقد عصمه”8، “وقال محمد بن نشوان الحميرى في ضياء الحلوم: أصل العصمة السبب والحبل، والعصام: من الدلو والقربة، والإداوة حبل يشد به، وقيل: هو سيرها الذي تحمل به، قال تأبط شراً:
وقربة أقوام جعلت عصامها | على كاهل مني ذلول مرحل9 |
السبب: قال الطبري: “يقال للسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته عاصم، ومنه قول الشاعر:
إلى المرء قيس أطيل السرى | وآخذ من كل حي عصم10 |
وخلاصة القول أن هذه المعاني كلها للعصمة ترجع إلى المعنى الأول، وهو المنع، فالحفظ منع للشيء من الوقوع في المكروه أو المحظور، والقلادة تمنع من سقوط الخرز منها، والحبل يمنع من السقوط والتردي، والسبب يمنع صاحبه عما يكره.
وأما في الشرع:
فالعصمة هي: حفظ الله لأنبيائه ورسله عن الوقوع في الذنوب والمعاصي، وارتكاب المنكرات والمحرمات، قال الحافظ: “وعصمة الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام حفظهم من النقائص، وتخصيصهم بالكمالات النفيسة، والنصرة والثبات في الأمور، وإنزال السكينة”11. وأحسن وأسلم هذه التعريفات ما ذكره صاحب كتاب نسيم الرياض: بأنها لطف من الله تعالى يحمل النبي ﷺ على فعل الخير، ويزجره عن الشر، مع بقاء الاختيار تحقيقاً للابتلاء”12
الحكمة من عصمة الأنبياء:
العقل والشرع يدلان على عصمة الأنبياء للأسباب الآتية:
1- العصمة ثابتة للأنبياء، أكرمهم الله بها، وميزهم على سائر البشر، وذلك أن الله جعلهم قدوة للبشر، فلا بد أن يكونوا هم المثل الأعلى حتى تتحقق حكمة الاقتداء والتأسي بهم، وإلا لم يكن لهم فضل ولا مزية، ولكانت القدوة بغيرهم مساوية للقدوة بهم، والأخذ عنهم كالأخذ عن غيرهم.
2- ولأن المعاصي والذنوب ما هي إلا نجاسات معنوية، وهي تشبه القاذورات والنجاسات الحسية، فلا يجوز نسبتها للأنبياء، وقد سماها الرسول ﷺ قاذورات بقوله: فمن أصاب منكم من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله 13 إذ كيف يجوز أن يكون نبياً مصطفى؛ ويكون سارقاً أو شارباً خمر، أو قاطع طريق، أو زانياً، أو غير ذلك من المعاصي التي تمنع من الاقتداء به أو اتباعه؟! وهل يكون لكلام النبي ﷺ أثر في النفوس إذا كانت سيرته غير عطرة، أو كانت حياته ملوثة ببعض الموبقات والآثام؟!”14.
3- ولأن القول بعدم عصمة الأنبياء يفضي إلى القدح في تبليغهم الرسالة، حيث يمكن نسبة الخطأ، أو الزيادة، أو النقص في التشريع، وهذا غير ممكن في حقهم، لأن الله قد عصمهم من ذلك.
العصمة لغير الأنبياء:
صفة العصمة من صفات الأنبياء التي اخصوا بها دون غيرهم؛ لتحصيل مقصود النبوة والرسالة قال الحافظ في الفتح: “وفيه أن غير النبي ولو بلغ من الفضل الغاية ليس بمعصوم”15، وقال شيخ الإسلام:”بخلاف غير الأنبياء فإنهم ليسوا معصومين كما عصم الأنبياء – عليهم السلام -، ولو كانوا أولياء لله”16، وقال: “وأما غيرهم فلا تجب له العصمة، وإنما يدعي العصمة المطلقة لغير الأنبياء الجهال من الرافضة، وغالية النساك، وهذا مبسوط في موضعه”17، وقال:”فإن العصمة في ذلك ليست لغير الأنبياء – عليهم السلام -، بل كان من سوى الأنبياء يؤخذ من قوله ويترك، ولا تجب طاعة من سوى الأنبياء والرسل في كل ما يقول، ولا يجب على الخلق اتباعه والإيمان به في كل ما يأمر به، ويخبر به، ولا تكون مخالفته في ذلك كفراً، بخلاف الأنبياء”18. وقال: “قال الأشعري في المقالات: واختلفت الروافض في الرسول هل يجوز عليه أن يعصي أم لا؟ وهم فرقتان: فالفرقة الأولى منهم: يزعمون أن الرسول جائز عليه أن يعصي الله، وأن النبي قد عصى في أخذ الفداء يوم بدر، فأما الأئمة فلا يجوز ذلك عليهم، فإن الرسول إذا عصى فإن الوحي يأتيه من قبل الله، والأئمة لا يوحى إليهم، ولا تهبط الملائكة عليهم، وهم معصومون، فلا يجوز عليهم أن يسهوا ولا يغلطوا، وإن جاز على الرسول العصيان، والقائل بهذا القول هشام بن الحكم.
والفرقة الثانية منهم: يزعمون أنه لا يجوز على الرسول أن يعصي الله ، ولا يجوز ذلك على الأئمة؛ لأنهم جميعاً حجج الله، وهم معصومون من الزلل، ولو جاز عليهم السهو واعتماد المعاصي وركوبها لكانوا قد ساووا المأمومين في جواز ذلك عليهم؛ كما جاز على المأمومين، ولم يكن المأمومون أحوج إلى الأئمة من الأئمة، لو كان ذلك جائزاً عليهم جميعاً، وأيضاً فكثير من شيوخ الرافضة من يصف الله تعالى بالنقائص”19.
فالرافضة – قاتلهم الله – يقولون بعصمة أئمتهم، بل ينزلونهم فوق منزلة الأنبياء، وهذه مقولة شنيعة لا يظن بأهل الإسلام أن يقولوا مثلها حتى قال أبو محمد ابن حزم: “…حتى رأينا المعروف بابن الباقلاني فيما ذكر عنه صاحبه أبو جعفر السمناني قاضي الموصل أنه قد يكون في الناس بعد النبي ﷺ من هو أفضل من النبي ﷺ من حين يبعث إلى حين يموت! فاستعظمنا ذلك، وهذا شرك مجرد، وقدح في النبوة لا خفاء به، وقد كنا نسمع عن قوم من الصوفية أنهم يقولون أن الولي أفضل من النبي، وكنا لا نحقق هذا على أحد يدين بدين الإسلام، إلى أن وجدنا هذا الكلام كما أوردنا؛ فنعوذ بالله من الارتداد”20 إلى أن قال: “ولو أن هذا الضال المضل يدري ما معنى لفظة أفضل، ويدري فضيلة النبوة، لما انطلق لسانه بهذا الكفر وهذا التكذيب للنبي ﷺ إذ يقول: أني لأتقاكم لله21، وإني لست كهيئتكم22، وإني لست مثلكم23، فإذا قد صح بالنص أن في الناس من لم يجترح السيئة، وإن من اجترح السيئات لا يساويهم عند الله ؛ فالأنبياء – عليهم السلام – أحق بهذه الدرجة، وبكل فضيلة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام، بقول الله : اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ(سورة الحج:75)، فأخبر تعالى أن الرسل صفوته من خلقه”24، فالقائل بهذا ما وقر النبوة، ولا عظم الرسالة، ولا عزر حرمة الاصطفاء، ولا عزز حظوة الكرامة، بل هذا لجهله بمقام النبوة، ومجازفته بالقول، بل أراد أن يُعرِب فأعجم، وأحب أن يُضيء فأظلم.
فالعصمة عند المسلمين للأنبياء والمرسلين، وهي أيضاً لمجموع أمة محمد ﷺ فهي معصومة من أن تجتمع على ضلالة لقوله ﷺ: إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد ﷺ على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار25، وقال شيخ الإسلام: “وكذلك الأمة أيضاً معصومة أن تجتمع على ضلالة”26. أما ما عدا هذين النوعين فلا عصمة لأحد كائناً من كان.
فهذه هي عقيدة المسلمين في العصمة، فمن حاد عنها فهو هالك، نسأل الله أن يرزقنا العقيدة الصحيحة، وأن يجنبنا الغلو والانحراف، إنه قريب مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1– صحيح البخاري جزء 1 صفحة 17 – 25
2– تفسير القرطبي (ج 9 / ص 184)
3– لسان العرب (ج 12 / ص 403)
4– فتح الباري لابن حجر (ج 18 / ص 454)
5– لسان العرب (ج 12 / ص 403)
6– تاج العروس مادة (عصم) (ج 1 / ص 7819)
7– تاج العروس (ج 1 / ص 7819)
8– لسان العرب (ج 12 / ص 403)
9– تاج العروس (ج 1 / ص 7820)
10– تفسير الطبري 4/26
11– فتح الباري لابن حجر (ج 18 / ص 454)
12– نسيم الربا في شرح الشفاء للقاضي عياض 4/ 39
13– السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 326) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ج 2 / ص 305 – 2395)
14– محمد علي الصابوني، النبوة والأنبياء صـ73
15– فتح الباري لابن حجر (ج 10 / ص 459)
16– مجموع فتاوى ابن تيمية (ج 2 / ص 373)
17– مجموع فتاوى ابن تيمية (ج 3 / ص 17)
18– مجموع فتاوى ابن تيمية (ج 9 / ص 215)
21– صحيح مسلم (ج 5 / ص 418 – 1863)
22– صحيح البخاري (ج 7 / ص 68 – 1827) وصحيح مسلم (ج 5 / ص 398 – 1844)
23– صحيح البخاري (ج 7 / ص 67 – 1826) وصحيح مسلم (ج 5 / ص 399 – 1845)
24– الفصل في الملل والأهواء والنحل (ج 1 / ص 411)
25– سنن الترمذي (ج 8 / ص 71) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 1848 دون (ومن شذ شذ في النار)
26– مجموع فتاوى ابن تيمية (ج 8 / ص 402)