أصول المعتزلة الخمسة

 

 

أصول المعتزلة الخمسة

 

الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليٌّ من الذل وكبره تكبيرًا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:

فإن مما يؤرق المسلم ما يراه في هذا الزمان من تفرق الأمة وعدم التفافها على مائدة الكتاب والسنة، وهذا كله مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث افتراق الأمة إلى فرق شتى.ومن بين تلك الفرق ما يسمى بالمعتزلة.

والمعتزلة فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي.

وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية؛ لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة.

وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية.1

وقد جاءت المعتزلة في بدايتها بفكرتين مبتدعتين:

الأولى: القول بأن الإنسان مختار بشكل مطلق في كل ما يفعل، فهو يخلق أفعاله بنفسه، ولذلك كان التكليف، ومن أبرز من قال ذلك غيلان الدمشقي، الذي أخذ يدعو إلى مقولته هذه في عهد عمر بن عبد العزيز. حتى عهد هشام بن عبد الملك، فكانت نهايته أن قتله هشام بسبب ذلك.

الثانية: القول بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافراً ولكنه فاسق فهو بمنزلة بين المنزلتين. هذه حاله في الدنيا أما في الآخرة فهو لا يدخل الجنة؛ لأنه لم يعمل بعمل أهل الجنة بل هو خالد مخلد في النار، ولا مانع عندهم من تسميته مسلماً باعتباره يظهر الإسلام وينطق بالشهادتين ولكنه لا يسمى مؤمناً.

ثم تطور خلافها فيما بعد، ولم يقف عند حدود تلك المسألة، بل تجاوزها ليشكل منظومة من العقائد والأفكار، والتي في مقدمتها الأصول الخمسة الشهيرة التي لا يعد معتزلياً من لم يقل بها، وسوف نعرض لتلك الأصول ولغيرها، ونبتدئ بذكر الأصول الخمسة:

أولها: التوحيد.

ثانيها: العدل.

ثالثها: الوعد والوعيد.[تجربة معينة]

رابعها: المنزلة بين المنزلتين.

خامسها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.2

وهذه تسمى بالأصول الخمسة عند المعتزلة فمن وجدت جميعها فيه فهو معتزلياً وإلا فلا.

وسنتناول في هذا اليوم شرحاً مبسطاً عن هذه الأصول الخمسة.

 

أولاً: التوحيد:

وتفسير قولهم فيما ذهبوا إليه من الباب الأول وهو باب التوحيد وهو ما اجتمعت عليه المعتزلة من البصريين والبغداديين وغيرهم، وإن كانوا في غير ذلك من فروعهم متباينين، من أن اللّه عز وجل لا كالأشياء وأنه ليس بجسم ولا عَرَضٍ ولا عنصر ولا جزء ولا جوهر، بل هو الخالق للجسم والعرض والعنصر والجزء والجوهر، وأن شيئاً من الحواس لا يدركه في الدنيا، ولا في الآخرة، وأنه لا يحصره المكان، ولا تحويه الأقطار، بل هو الذي لم يزل ولا له زمان ولا مكان ولا نهاية ولا حَدّ، وأنه الخالق للأشياء المُبْدِع لها لا من شيء، وأنه القديم، وأن ما سواه محدث.3

وهذا حق ولكنهم بنوا عليه نتائج باطلة منها:

استحالة رؤية الله تعالى لاقتضاء ذلك نفي الصفات، وأن الصفات ليست شيئاً غير الذات، وإلا تعدد القدماء في نظرهم؛ لذلك يعدون من نفاة الصفات وبنوا على ذلك أيضاً أن القرآن مخلوق لله سبحانه وتعالى لنفيهم عنه سبحانه صفة الكلام.4

 

ثانياً: العدل:

ومعناه برأيهم: أن اللهّ لا يحبُّ الفساد، ولا يخلق أفعال العباد، بل يفعلون ما أمروا به وَنُهُوا عنه بالقدرة التي جعلها اللّه لهم وركبها فيهم، وأنه لم يأمر إلا بما أراد، ولم ينه إلا عما كره، وأنه وليُّ كل حسنة أمر بها، بريء من كل سيئة نهى عنها، لم يكلفهم مالا يطيقونه، ولا أراد منهم مالا يقدرون عليه، وأن أحداً لا يقدر على قَبْض ولا بَسْط إلا بقدرة اللّه التي أعطاهم إياها.

وهو المالك لها دونهم يفنيها إذا شاء، ويبقيها إذا شاء، ولو شاء لجبر الخلق على طاعته، ومنعهم اضطراريا عن معصيته، ولكان على ذلك قادرا، غير أنه لا يفعل، إذ كان في ذلك رفع للمحنة، وإزالة البلوى.5

وذلك لخلطهم بين إرادة الله تعالى الكونية، وإرادته الشرعية، وبهذا نفوا القدر، وعلم الله تعالى!!

 

ثالثاً: الوعد والوعيد:

والمقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل فيهم شفاعة، ولا يخرج أحدا منهم من النار، فهم كفار خارجون عن الملة مخلدون في نار جهنم.

قال الشهرستاني: “واتفقوا -أي المعتزلة- على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض.. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار وسموا هذا النمط وعداً ووعيداً”.6

وبهذا خلدوا العصاة الموحدين في نار جهنم، ومذهب السلف على خلاف ذلك، إذ جاءت الأحاديث بأن الله يخرج كل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.

رابعاً: المنزلة بين المنزلتين:

وهذا الأصل يوضح حكم الفاسق في الدنيا عند المعتزلة.

وهي المسألة التي اختلف فيها واصل بن عطاء مع الحسن البصري، إذ يعتقد المعتزلة أن الفاسق في الدنيا لا يسمى مؤمناً بوجه من الوجوه، ولا يسمى كافراً بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصراً على فسقه كان من المخلدين في عذاب جهنم.

قال المسعودي: وبهذا الباب سميت المعتزلة، وهو الاعتزال، وهو الموصوف بالأسماء والأحكام، مع ما تقدم من الوعيد في الفاسق من الخلود في النار.7

 

يقول الشيخ سفر الحوالي: “إن أول ما ابتدأ ضلال المعتزلة من مسألة المنزلة بين المنزلتين، وهي أول بدعة أظهروها؛ ابتدعها واصل ثم تبعه عليها عمرو، وجعلوها أصلاً من أصول دينهم، فلم يسبق لأحد من أئمة الإسلام ولا من فرق الضلال قبلهم أن ذكر هذا، وإنما كان الناس قبلهم على ثلاث فرق في مسألة مرتكب الكبيرة، كانت الخوارج تقول: إنه كافر، وكانت المرجئة تقول: إنه كامل الإيمان، وأهل السنة والجماعة على مذهبهم المعروف في المسألة، فخرج هؤلاء بهذه البدعة الجديدة، وقد برر واصل بن عطاء هذه البدعة بقول الحسن البصري لما سئل عن مرتكب الكبيرة فقال: إن مرتكب الكبيرة منافق. والحسن -رحمه الله- -إن ثبت عنه ذلك- لا يقصد به النفاق الأكبر، كما لا يقصد أن يبتدع في دين الله سبحانه وتعالى، أو يقرر أصلاً من أصول الابتداع، وإنما قال: كيف يدعي الإيمان ثم يرتكب الكبيرة؟! هذا يقول ما لا يفعل، وهذه صفة المنافقين.

 

وكان الأمر في مجلس موعظة، وليس في تقرير أصل بدعي جديد لم يقله أحد من قبل.

لكن لما أراد الله تبارك وتعالى الفتنة لـواصل ولـعمرو وأشباههم، احتاروا بسبب هذا القول وترددوا، و قالوا: إن قلنا: إنه مؤمن؛ فكيف يكون مؤمناً وقد ارتكب الكبائر؟! وإن قلنا: إنه كافر كما تقول الخوارج، فكيف يكون كافراً وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله مع إيمانه في الباطن؟! فاحتاروا واضطربوا في هذا الأمر.

وكان المخرج من الحيرة والاضطراب والاختلاف هو العودة إلى الكتاب والسنة، كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نرد الأمور عند التنازع إلى الله ورسوله، أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لكنهما ردَّا الأمر إلى الرأي المجرد فقالا: نجعله في منزلةٍ بين المنزلتين: لا هو مؤمن ولا هو كافر، المنزلتان هما: منزلة الإيمان، ومنزلة الكفر، فهو في منزلةٍ بينهما. وهي منزلة وهمية لا وجود لها في الحقيقة والواقع”.8

 

خامساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

وأما القول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الأصل الخامس فهو أن ما ذكر على سائر المؤمنين واجب، على حسب استطاعتهم في ذلك، بالسيف فما دونه، وإن كان كالجهاد، ولا فرق بين مجاهدة الكافر والفاسق.

فقرروا وجوب ذلك على المؤمنين؛ نشراً لدعوة الإسلام وهداية للضالين وإرشاداً للغاوين كل بما يستطيع.

فذو البيان ببيانه، والعالم بعلمه، وذو السيف بسيفه وهكذا.

ومن حقيقة هذا الأصل أنهم يقولون بوجوب الخروج على الحاكم إذا خالف وانحرف عن الحق.

وهناك عقائد أخرى للمعتزلة منها ما هو محل اتفاق بينهم، ومنها ما اختلفوا فيه.

فهذا ما اجتمعت عليه المعتزلة، ومن اعتقد ما ذكرنا من هذه الأصول الخمسة كان معتزلياً، فإن اعتقد الأكثر أو الأقل لم يستحق اسم الاعتزال، فلا يستحقه إلا باعتقاد هذه الأصول الخمسة، وقد تنوزع فيما عدا ذلك من فروعهم.9

 

استبدال المعتزلة أصول الإسلام الخمسة بأصولهم الخمسة:

يقول صاحب شرح الطحاوية في العقيدة السلفية –في معرض الكلام عن أصول الإسلام الخمسة والتي أولها شهادة أن لا إله إلا الله…وإقامة الصلاة والزكاة والصوم والحج-: “وقد أبدلتها المعتزلة بأصولهم الخمسة التي هدموا بها كثيرا من الدين: فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعرض، الذي هو الموصوف والصفة عندهم، واحتجوا بالصفات التي هي الأعراض، على حدوث الموصوف الذي هو الجسم، وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل، فنفوا عن الله كل صفة، تشبيها بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام، ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر، وسموا ذلك “العدل”، ثم تكلموا في النبوة والشرائع والأمر والنهي والوعد والوعيد، وهي مسائل الأسماء والأحكام، التي هي المنزلة بين المنزلتين، ومسألة إنفاذ الوعيد، ثم تكلموا في إلزام الغير بذلك، الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمنوه جواز الخروج على الأئمة بالقتال.

فهذه أصولهم الخمسة، التي وضعوها بإزاء أصول الدين الخمسة التي بعث بها الرسول”.10

ويتضح للقارئ الكريم أن كل أهل بدعة لهم من المقت والذم نصيب، حيث خالفوا هدي النبيين والمرسلين، وعمدوا إلى أقوال الفلاسفة فجعلوها عقائد تضاهي شرع رب العالمين، وسنة سيد المرسلين.. فنسأل الله العلي الكبير أن يثبتنا على كتابه وسنة نبيه وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب..

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.



1 الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/26).

2 المصدر السابق (1/30-32).

3 مروج الذهب للمسعودي (1/444).

4 الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/28).

5 مروج الذهب للمسعودي (1/444).

6 الملل والنحل للشهرستاني (1/3).

7 مروج الذهب للمسعودي (1/444).

8 المصدر موقع الشيخ سفر الحوالي.

9 المرجع السابق.

10 شرح الطحاوية في العقيدة السلفية – (2/212).