بناء المساجد بالدوائر والعمارات الشاهقة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الحديث هنا – بإذن الله – سيكون عن بناء المساجد في بنايات تضم عددًا كبيراً من الرجال قد يفوق تعداد سكان الحي الواحد، كموظفي الدوائر الحكومية، والأهلية، وسكان العمارات الشاهقة، والضخمة، والسؤال هو: ما حكم تخصيص مكان معين منها ليكون مسجداً؟
وللجواب عن هذا التساؤل نقول: اختلف العلماء – رحمهم الله تعالى – في مسألة جعل المكان مسجداً، وفوقه أو تحته بناء، أو فوقه وتحته معاً بناء على أربعة أقوال:-
القول الأول: يجوز أن يبنى المسجد وفوقه أو تحته بناء، أو فوقه وتحته معاً بناء، قال به أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، وابن قدامة صاحب المغني – رحمهم الله –1.
القول الثاني: يجوز أن يبنى فوق المسجد بناء، ولا يكون تحته بناء، وروي عن أبي حنيفة في رواية عنه2، وهي رواية عن الإمام أحمد3، قال أحمد: “كان ابن مسعود يكره أن يصلي في المسجد الذي بني على قنطرة” ا.ه4.
القول الثالث: إذا كان البناء تحت المسجد، والمسجد ليس فوقه بناء صح ذلك، عكس القول الثاني روي عن أبي حنيفة في رواية عنه، وذهب إليها بعض أصحابه، وبهذا قال مالك، وهو رواية عن الإمام أحمد5.
القول الرابع: لا يصح أن يبنى مسجد فوقه بناء أو تحته؛ بناء عكس القول الأول، قال بهذا بعض الأحناف، وابن حزم6.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بأنه يجوز بيع البناء الذي تحته بناء أو فوقه بناء كالشقق في العمارات؛ ولأن وقفه تصرف يزيل الملك إلى من يثبت له حق الاستقرار بالشراء، ويجوز تمليك منفعته بالأجرة ونحوه7.
واستدل أصحاب القول الثاني: بأن المسجد إذا كان في قرار الأرض يتأبد فلا يتغير، بخلاف العلو8.
واستدل أصحاب القول الثالث بأن المسجد إذا كان فوقه بناء فإنه يهان، قال في المدونة: “وسألت مالكا عن المسجد يبنيه الرجل، ويبني فوقه بيتاً يرتفق به، قال: ما يعجبني ذلك، وقد كان عمر بن عبد العزيز إمام هدى، وقد كان يبيت فوق ظهر المسجد – مسجد النبي ﷺ فلا تقربه فيه امرأة، وهذا إذا بنى فوقه صار مسكناً يجامع فيه، ويأكل فيه”9.
واستدل أصحاب القول الرابع بأن الهواء لا يُتَملّك؛ لأنه لا يضبط، ولا يستقر، ولا يكون منفكاً عن حقوق العباد، والمسجد حق لله – تعالى – قال سبحانه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (سورة الجن:18)، وأن له أن يهدمه؟ إذ لا يحل منعه من ملكه، وهدم المسجد لا يجوز، فلا يكون مسجد10.
والراجح الجواز مطلقاً سواء كان تحته أو فوقه بنايات، وهذا ما لا يعلم دليل على خلافه، إلا مجرد تعليلات لا يرد بها الأصل في الجواز، وهذا هو المعمول به في زماننا .. قال الخضيري: “لا أعلم دليلاً قطعياً من الشرع، ولا ظنياً؛ يمنع من بناء المسجد وتحته أو فوقه بناء، وما أورده العلماء الكرام – رحمهم الله تعالى – إنما هي تعليلات لا دليل عليها، وأما انفكاكه عن الاختصاص فهو راجع للعرف، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وفي زمننا هذا إقامة المساجد بالعمائر الضخمة أمر تدعو إليه الحاجة، وهكذا في المصانع، والدوائر الحكومية التي في العمائر الكبيرة، وأما إن أمكن الاستقلال ببناء المسجد فهو أولى وأفضل، وإن لم يمكن فيجوز بناء المسجد وفوقه أو تحته بناء. قال: وأقترح تكليف أصحاب العمائر الضخمة بتخصيص جزء في أسفل العمارة يكون مسجداً يصلي فيه المسلمون، حتى يستفيد منه كل من حول العمارة من أصحاب الحوانيت، أو المشاة، أو نحوهم، ويكون في جهة بارزة ليعرفه الناس” أ ه11.
والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد وآله، وصحبه، وسلم
والحمد لله رب العالمين.
1 هو: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خنيس بن سعد بن بجير بن حسنة الأنصاري، صاحب أبي حنيفة، روى عنه، وعن عطاء بن السائب، وعبيد الله بن عمر، تولى القضاء في بغداد للمهدي، والهادي، والرشيد، كان صدوقاً، وثقه النسائي، وأخذ عنه: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، ومحمد بن الحسن الشيباني، وله آراء استقل بها عن صاحبه، ولد سنة 113هـ، وتوفي سنة 182 هـ، انظر: أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية (ج 1/ 6) نقلاً عن: أخبار القضاة (2 /10-107)، وميزان الاعتدال (4 /397)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3 /334)، وشرح فتح القدير لابن الهمام (5 /444 )، والمغني لابن قدامة (5 /607).
2 انظر: أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية، للخضيري (ج1 /6) نقلاً عن: شرح فتح القدير (5 /445).
3 المرجع السابق نقلاً عن: الفروع لابن مفلح (4 /637)، والإنصاف ( 7 /102).
4 القنطرة: هي جسر يبنى بالآجر أو بالحجارة على الماء يعبر عليه، وقيل: القنطرة: ما ارتفع من البنيان، ويشبهها الساباط وهو: سقيفة بن حائطين تحتها طريق. انظر: لسان العرب (5 / 118)، وتاج العروس (1/ 3428).
5 أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية (1 /6) نقلاً عن: الورع لأحمد (ص26)، حاشية ابن عابدين (4 /358), المدونة الكبرى (1 /108), الفروع لابن مفلح (4 /637).
6 المصدر السابق، نقلاً عن: حاشية ابن عابدين (4 /358)، (1 /657)، المحلى لابن حزم (4 /248).
7 المصدر السابق، نقلاً عن: المغني (5 /607) ، والمجموع شرح المهذب – تكملة المطيعي رحمه الله -(14 /222).
8 المصدر السابق، نقلاً عن:شرح فتح القدير لابن الهمام (5 /445).
9 انظر: المدونة للإمام مالك – رحمه الله – (1 /262).
10 المصدر السابق نقلاً عن: المحلى لابن حزم (4 /248-249).
11 أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية لإبراهيم بن صالح الخضيري – أثابه الله – (ج1 /ص8).