لا تطروني

لا تطروني

لا تطروني

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أما بعد:

فإن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصل عظيم من أصول الدين، فلا إيمان لمن لم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.

قال الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (24) سورة التوبة.

قال القاضي عياض في شرح الآية: "فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها -صلى الله عليه وسلم-، إذ قرّع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وتوعدهم بقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ}، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله".1

 وقال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} (6) سورة الأحزاب.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).2

 وعن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)، فقال له عمر: فإنه الآن -والله- لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر).3

فالحديث عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- منزلة رفيعة، والحديث عن محبته -عليه الصلاة والسلام- متعة عظيمة! أما الألسنة فتترطب بذكره، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وأما الآذن فتتشنف بسماع سيرته وهديه وحديثه عليه الصلاة والسلام ، وأما العقول فتخضع لما ثبت من الحكم والسنة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام ، وأما الجوارح والأعضاء فتنتفع وتتمتع بموافقة هديه وفعله وحاله صلى الله عليه وسلم.

الغلو في محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم-:

وقد انحرف بعض الناس عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحدثوا في دين الله عز وجل ما ليس منه، وغيروا وبدلوا، وغلوا في محبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- غلواً أخرجهم عن جادة الصراط المستقيم، الذي قال الله عز وجل فيه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (153) سورة الأنعام.

وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على حماية جناب التوحيد، فكان يحذر تحذيراً شديداً من الغلو والانحراف في حقه، ودلائل ذلك كثيرة جداً منها:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)4.

وعن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صعنوا.5

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما شاء الله وشئت، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (جعلتني لله عدلاً، بل قل ما شاء الله وحده).6

وعن أنس أن رجلاً قال: يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أيها الناس عليكم بتقواكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل).7

ونظائر هذه النصوص كثيرة جداً، وثمرتها كلها بيان أن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه لا تكون إلا بالهدي الذي ارتضاه وسنه لنا، ولهذا قال عليه أفضل الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ)8

مظاهر الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم:

الذين وقعوا في الغلو ناقضوا كتاب الله وصحيح سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وردوا كل ما سبق من نهيه صلى الله عليه وسلم من الغلو في حقه وضربوا به عرض الحائط، فغلوا فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلواً عظيماً فاحشاً، ومن تلك المظاهر:

·        نسبة بعض خصائص الألوهية إليه:

وهذا واقع في بعض الملاحدة من الصوفية والروافض ونحوهم ممن تعدوا حدود الله.

يقول الشيخ سفر الحوالي: "وما أكثر ما نسبوا إليه من خصائص الألوهية، فجاروا بذلك وخرجوا من الملة. مثلاً: ينسبون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بيده مقاليد السماوات والأرض، وأن له أن يقطع من أرض الجنة كما يشاء، وقالوا: إنه يعلم الغيب، وإنه يعلم سر الروح وحقيقة الروح، وإنه يعلم متى تقوم الساعة، وأنه يعلم الخمس التي ذكرها الله سبحانه في كتابه وهو مختص عز وجل بعلمها. ويقولون: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطلع على ذلك وعالم بما فيه، كيف وقد قال قائلهم:

 

فإن من جودك الدنيا وضرتها  

 

ومن علومك علم اللوح والقلم  

 

وقد بلغ بهم أيضاً الغلو في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن زعموا أنه هو أول المخلوقات، وأنه خُلِق من نور الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهم في ذلك أعاجيب ينقلونها ومن ذلك الطريقة القادرية، معروفة وهي أشهر وأكبر الطرق، تنتشر في إفريقيا والهند والباكستان والدول العربية انتشاراً عجيباً. حتى قيل: إن أتباعها يقاربون (300) مليون من المسلمين مع الأسف.

وينسبون كتاباً من كتب الطريقة اسمه سر الأسرار إلى عبد القادر الجيلاني، وهذا مقطع منه فيما يتعلق بهذه الفقرة، يقول: "اعلم وفقك الله لما يحب ويرضى، لقد خلق الله تعالى روح محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولاً: من نوره وجماله، كما قال الله عز وجل: خلقت روح محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نور وجهي -وهذا كذب لم يقله الله عز وجل- وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أول ما خلق الله روحي، وأول ما خلق الله نوري، وأول ما خلق الله القلم، وأول ما خلق الله العقل وهذا كله كذب باطل، إلا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أول ما خلق الله القلم}.9

·        إقامة الموالد النبوية:

ظهرت هذه الفكرة في عصر الدولة العبيدية الباطنية، إظهاراً منهم لدعوى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم انتشرت في كثير من دول العالم الإسلامي، إلى يومنا هذا فأصبح اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول عيداً مشهوداً عند كثير من المبتدعة يجتمعون فيه لإنشاد المدائح النبوية والأوراد الصوفية، وإقامة الحفلات والرقصات، وقد يقترن بذلك بعض الشركيات من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- والاستغاثة به، وقد يحدث الاختلاط بين الرجال والنساء والاستماع إلى الملاهي.

إن تحويل الإسلام إلى طقوس وثنية من الأهازيج الشعرية والطبول والمزامير والتمايل والرقص، وبالتالي الانحراف به عن صفائه ونقائه، هو من قبيل جعله إلى العبث والخرافة أقرب منه إلى الدين الحق.

وحينما تكون هذه العقلية الساذجة المنحرفة حاكمة للعالم الإسلامي يكون رد الفعل الرئيس لدخول خيول نابليون إلى الأزهر الشريف هو اجتماع الشيوخ للتبرك بقراءة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- من صحيح البخاري! وكلما ازدادت الدائرة على المسلمين ازدادت الدروشة، وتمايلت الرؤوس وبحت الأصوات بالأناشيد والأوراد والمدائح النبوية.

إن الاحتفال بالمولد النبوي أصبح عند بعض الناس من العامة والخاصة الآية الرئيسة لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال أحمد الصويان: وأذكر أنني كنت قبل سنوات في بلد إسلامي في أوائل شهر ربيع الأول، والناس منهمكون في التجهيز والإعداد لليوم الثاني عشر، تحدثت مع أحد كبار الأساتذة الجامعيين عن هذه البدعة، وبعد أن بح صوتي بذكر الأدلة والشواهد، قال لي: هذا صحيح، ولكن هذا سيدنا النبي!! عندها تذكرت قول غلاة الصوفية: "من أراد التحقيق فليترك العقل والشرع!"، وصدق ابن تيمية حينما قال عن غلاتهم: "كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم".10

ومن المفارقات التي تدعو إلى التأمل، أن بعض الناس قد يعصي النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلاً ونهاراً، ويتهاون في تعظيم أوامره، فضلاً عن الالتزام بسنته، ومع ذلك فهو يحتفي بيوم المولد، ويوالي فيه ويعادي، وكأن غاية الحب عنده هو إحياء هذا اليوم بالمدائح والأوراد، وبعد ذلك ليفعل ما يشاء…؟!

يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "من تتبع التاريخ يعلم أن أشد المؤمنين حباً واتباعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- أقلهم غلواً فيه ولاسيما أصحابه رضي الله عنهم ومن يليهم من خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً وأقلهم اتباعاً له هم أشد غلواً في القول وابتداعاً في العمل".

وليس عجيباً أن يحظى هذا اليوم باحتفاء رسمي من الحكومات العلمانية وتسخر له كافة الإمكانات الرسمية، وتجري تغطية فعالياته من جميع وسائل الإعلام، لأنها تعلم يقيناً أن غاية هؤلاء الدراويش لا تتجاوز الأوراد والمدائح حتى إن النذور والقرابين التي ترمى على القبور والأضرحة والمزارات أصبحت مصدر دخل رئيس لوزارات الأوقاف والسياحة، ولهذا كان حافظ إبراهيم يقول متهكماً:

أحياؤنا لا يرزقون بدرهم من لي بحظ النائمين بحفرة  

 

وبألف ألف يرزق الأموات قامت على أحجارها الصلوات؟!  

محبة الرسول عقيدة راسخة:

إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عقيدة راسخة في قلوب المؤمنين، ثمرتها الاقتداء والبذل والعطاء والتضحية والجهاد في سبيل نصرة دينه وإعلاء لوائه وحماية سنته، ولا يوجد بين محبي الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكان للعجزة النائحين، وما أجمل قول أنس بن النضر رضي الله عنه لما مر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قُتِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه.11

والحمد لله رب العالمين!!!.


 


1 الشفا بتعريف أحوال المصطفى للقاضي عياض (2/18).

2 أخرجه البخاري (15) ومسلم (44).

3 أخرجه البخاري برقم (6257).

4 رواه البخاري(3261).

5 رواه البخاري (425) ومسلم (531).

6 رواه أحمد (2561) قال شعيب الأرنؤوط: حسن لغيره.

7 رواه أحمد برقم (12573)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم , رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة فمن رجال مسلم.

8 رواه مسلم برقم (1718).

9 من مقال للشيخ سفر الحوالي، بعنوان"محبة الرسول صلى الله عليه وسلم" المصدر:http://www.alhawali.com بتصرف. والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود والبيهقي وابن أبي شيبة وغيرهم، وهو حديث صحيح.

10 مجموع الفتاوى شيخ الإسلام (2/174).

11 مستفاد من مقال بعنوان: "دلائل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بين السنة والبدعة" لأحمد بن عبد الرحمن الصويان. مجلة البيان: العدد (79)، ص (22).