أهل الذمة: ما لهم وما عليهم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه وسار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد جرى العرف الإسلامي على تسمية المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باسم “أهل الذمة” أو “الذميين”.
و”الذمة” كلمة معناها العهد والضمان والأمان، وإنما سموا بذلك؛ لأن لهم عهد الله – عز وجل -، وعهد الرسول ﷺ، وعهد جماعة المسلمين: أن يعيشوا في حماية الإسلام، وكنف المجتمع الإسلامي؛ آمنين مطمئنين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم بناء على “عقد الذمة” بينهم وبين أهل الإسلام.
فهذه الذمة تعطي أهلها “من غير المسلمين” ما يشبه في عصرنا “الجنسية” السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين، ويلتزمون بواجباتهم.
وفي هذا الدرس – إن شاء الله – نتناول بعض أحكام أهل الذمة من كلام ابن القيم – رحمه الله -، ومن كلام غيره من العلماء في بيان ما يكون لهم وما يجب عليهم.
ما يجب لأهل الذمة على المسلمين:
يلتزم إمام المسلمين بإعطائهم الأمان ما داموا ملتزمين بما عليهم، ودليل ذلك من الكتاب آية الجزية حيث قال تعالى: حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (سورة التوبة:29)، فجعل غاية قتالهم إذعانهم بالجزية، وكذلك من السنة حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي ﷺ: مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا1 قال ابن حجر رحمه الله: “وفي لفظ النسائي من طريقه: من قتل قتيلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة2 فقال: من أهل الذمة ولم يقل معاهداً وهو بالمعنى”3.
و هذه جملة من الحقوق تترتب على التزام الإمام بأمانهم نبينها فيما يلي:
1. إذا أعطوا الجزية فإنه يحرم قتالهم وذلك لأن آية الجزية جعلت إعطاء الجزية غاية لقتالهم، فمتى بذلوها لم يجز قتالهم يقول ابن قدامة رحمه الله في المغني: “إذا بذلوا الجزية لزم قبولها، وحرم قتالهم؛ لقول الله تعالى: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ إلى قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (سورة التوبة:29) “4، ولقد تقدمت النصوص الدالة على ذلك.
2. وجوب الكف عنهم وحمايتهم: لأنهم يصبحون جزءاً من الدولة الإسلامية، ويتكفل المسلمون بأمنهم وحمايتهم، ولهذا قال علي رضي الله عنه: “إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا”، وقال عمر رضي الله عنه في وصيته للخليفة بعده: “وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيراً أن يوفي لهم بعهدهم، ويحاط من ورائهم”5.
3. عدم التعرض لكنائسهم، وخمورهم، وخنازيرهم ما لم يُظهروها، ولكن هذا القول ليس على إطلاقه؛ لأن القول في الكنائس فيه تفصيل؛ فبالنسبة للكنائس الموجودة في الأمصار التي مصروها – أي الكتابيين – ثم فتحت عنوة فإن الصحيح عدم التعرض لها، وهذا هو فعل الصحابة والخلفاء بدليل بقاء هذه الكنائس إلى يومنا هذا، وقد حكى ابن قدامة الإجماع على ذلك، وأما إذا فتحت الأرض صلحاً فبحسب الاتفاق في الصلح، وأما الأمصار التي مصَّرها المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد فلا يجوز إحداث الكنائس فيها ولو وجدت وأُحدثت وجب هدمها حتى لو اختار الإمام أن يقر أهل الذمة فيها، فلو أقرهم مع الذمة على أن يحدثوا فيها بِيعة أو كنيسة، أو يظهروا فيها خمراً أو خنزيراً، أو ناقوساً؛ لم يجز، وإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان الشرط والعقد فاسداً، وهو اتفاق من الأئمة لا يعلم بينهم فيه نزاع6.
وهذه هي فتوى ابن عباس حيث روى عنه عكرمة قال: قال ابن عباس: “أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة، ولا يضربوا فيه ناقوساً، ولا يشربوا فيه خمراً، ولا يتخذوا فيه خنزيراً”.7
واجبات أهل الذمة:
يترتب على عقد الذمة مجموعة من الواجبات التي يلتزم بها أهل الذمة، ولا يجوز لهم مخالفتها، ولقد جاءت هذه الأحكام مستوفاة مفصلة في الشروط العمرية كما نقلها غير واحد من العلماء، ونقلها ابن قيم الجوزية في كتابه النفيس أحكام أهل الذمة، وهذا نصها كما يلي:
قال عبد اللّه ابن الإِمام أحمد: حدثني أبو شُرَحْبيل الحمصي عيسى بن خالد قال: حدثني عمر أبو اليمان وأبو المغيرة قالا: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: ” إننا حين قدمتِ بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا ألا نحْدِث في مدينتا كنيسة، ولا فيما حولها ديراً، ولا قلاية، ولا صومعة راهب؛ ولا نجدد ما خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة، وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً، وألا نكتم غشاً للمسلميِن، وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفياً في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة، ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، وألا نخرج صليباً ولا كتاباً في سوق المسلمين، وألا نخرج باعوثاً – قال: والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر -، ولا شعانين، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وألا نجاورهم بالخنازير، ولا ببيع الخمور، ولا نظهر شِرْكَاً، ولا نرغب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً، ولا نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين، وألا نمنع أحداً من أقربائنا أرادوا الدخول في الإسلام، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنانير على أوساطنا، ولا ننقش خواتمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نحمله، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس، ولا نطلع عليهم في منازلهم، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا يشارك أحد منا مسلماً في تجارة إلا أن يكون إلى المسلمِ أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام، ونطعمه من أوسط ما نجد، ضمِنا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا، وأزواجنا ومساكيننا، وإنْ نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه، فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق”8. معاملة أهل الذمة فيما يتعلق بالعقيدة:
إن أهل الذمة كفار، ويجب ألا يغفل مسلم أو يحتار في أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى كفار، والدليل على ذلك قوله تعالى: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (سورة المائدة:17)، وقوله تعالى: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ (سورة المائدة:73)، وقوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا (سورة المائدة:64).
وإن ما ورد في بعض آيات القرآن الكريم مما فيه مدح بعض أهل الكتاب كقوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى (سورة المائدة:82) هو في من آمن وأسلم منهم كعبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب، وما تقدم من دخول أهل الذمة من أهل الكتاب في عموم الكفار لا يمنع أن يخصهم الله تعالى ببعض التشريعات، ولذلك فإن أهل الذمة صنف خاص من الكفار باعتبار ما يختصون به من معاملات وأحكام فقهية لا أنهم ليسوا كفاراً.
والدليل على ذلك ما تقدم من آيات صريحة في كفرهم، وما روي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله ﷺ أنه قال: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني؛ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار9، فدل على أنهم مع ما لهم من أحكام فقهية خاصة لا يزالون مخاطبين برسالة محمد ﷺ، وأن من مات منهم على عقيدته من يهودية أو نصرانية فإنه في النار قال الإمام النووي رحمه الله: ” وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهاً على من سواهما، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاباً فغيرهم ممن لا كتاب له أولى”.10
وبناء على ذلك تتفرع الأحكام العقدية التالية:
1- وجوب البراء من أهل الذمة: إن عقيدة التوحيد عند كل مسلم تستلزم منه أن يتبرأ إلى الله تعالى من كفر اليهود والنصارى، وأن يبغض ما هم عليه من كفر، ويبغضهم لكفرهم بغضاً شرعياً لا بغضاً شخصياً لمجرد دواعي الهوى، فالبغض والعداء في الدين من أركان التوحيد، فلا يجتمع حب الله وحب عدو الله.
2- وجوب تبليغ دعوة الإسلام إليهم: إن البغض والعداء الديني ليس مبرراً للعدوان والإجحاف بحقوق الناس، وأول حق لأهل الكتاب علينا هو تبليغ رسالة الإسلام، وإن الضابط والمعيار الصحيح لكون بغضهم في الله هو أن نحب لهم الهداية والخير كما نحبه لأنفسنا، وأن نحرص على أن ندلهم على الخير كما نحرص عليه لأحب الناس إلينا قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (سورة آل عمران:64)، ولقد جاء في الحديث الصحيح قوله ﷺ: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)11 قال الإمام النووي رحمه الله: “ويضع الجزية: فالصواب في معناه أنه لا يقبلها، ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام، ومن بذل منهم الجزية لم يكف عنه بها، بل لا يقبل إلا الإسلام، أو القتل”12.
3- حرمة موالاتهم: إن لازم البغض والعداء في الله تحريم تولي أعداء الله قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (سورة المائدة:51)، فمن تولى اليهودي فهو يهودي، ومن تولى النصراني فهو نصراني، ومعنى التولي الحب والمودة، والإعجاب والنصرة، والمظاهرة – أي المساعدة – على المسلمين، وحب الاقتداء بهم، وحب رياستهم، وفعل ذلك كله مما هو مبسوط في مقالات أهل العلم، ومجمع عليه بينهم.
4- إن تهود النصراني أو العكس لم يقر: والنكتة في ذلك أننا أعطيناه الذمة لبقاء الشبهة في قلبه على كون دينه صحيحاً، فلما بدل دينه فكأنما انتقل إلى دين باطل قد أقر ببطلانه أشبه المرتد13، وعليه فإنه لا يقبل منه حينئذً إلا الإسلام، أو دينه، فخلاصة أحكام هؤلاء في مجال العقيدة إذاً هو اعتقاد كفرهم وبغضهم لذلك، واعتقاد توجه الدعوة إليهم، وحب ذلك لهم، وتحريم توليهم ومداهنتهم في الدين، ووجوب التبرؤ منهم ومن كفرهم من أجل سلامة التوحيد في قلوبنا.14
وأطلنا قليلاً في بيان هذه المسألة لما نعاينه اليوم من خلط عند كثير من المسلمين الذين التبست عليهم نصوص الوفاء بعقد الذمة، فظنوها إقراراً على الكفر، وقبولاً به، بل وجد من ينازع في كون أهل الكتاب وأهل الذمة كفاراً ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا ناتج عن جهل كبير بأبسط مسلمات الإسلام، وبعد كبير عن مجمل آيات القرآن التي تذكر هذا أتم ذكر وبيان في كثير من سور القرآن العظيم.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى سلوك الصراط المستقيم، والحمد لله رب العالمين.
1 رواه البخاري (2930).
2 رواه النسائي برقم (4669) قال الألباني:(صحيح) انظر صحيح الترغيب والترهيب: (2/318).
3 فتح الباري لابن حجر (9/434).
4 المغني لابن قدامة المقدسي: دار الفكر – بيروت:ط1، 1405هـ (10/566).
5 المغني لابن قدامة: (10/613).
6 أحكام أهل الذمة لابن القيم الجوزية (1/220)
7 المغني لابن قدامة المقدسي: (10/599).
8 أحكام أهل الذمة – (ج 1 / ص 217).
9 رواه مسلم (218).
10 شرح النووي على مسلم (1/279).
11 رواه البخاري برقم (2070) ومسلم (220).
12 شرح النووي على مسلم (1/281).
13 هذا الكلام منقول عن كتاب الوجيز في أحكام أهل الذمة، وهذا ما ذكره المؤلف، وفيه نظر، إذ أن الكفر ملة واحدة، وقد أدخل بعضهم انتقال اليهودي إلى النصرانية في حديث من بدل دينه فاقتلوه ! فقال بأنه يقتل، وهذا يحتاج إلى بحث ونظر واسع.
14 من كتاب “الوجيز في أحكام أهل الذمة” لوسيم فتح الله.