الركـن الخامس
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور, ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون، وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحدٌ صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد, لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم يبعثون1…. أما بعد:
فإن الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام, والمسلم يعتز أن من الله عليه بتلبية دعوة أبيه إبراهيم الخليل -عليه وعلى نبينا المصطفى أفضل الصلاة والتسليم- لحج بيت الله المقدس, فكم من مؤمل ذلك حال دون أمله قصر الأجل، وكم من مستشرف لمشاهدة هذه الرحاب المقدسة والوقوف على مشاعر الحج المعظمة لم يظفر ببغيته ولم يصل إلى غايته, فهنيئا لك هذا القرب والوصال، وهنيئا لك بالسعادة وبلوغ الآمال.
والحج فريضة تأتلف فيها مصالح المسلمين، وتجتمع منافعهم وتجدد الروابط بينهم، وتصدق العزائم عند اللقاء الكريم لقاء الأخ بأخيه في رحاب البلد الأمين، وذلك ما تشير إليه الآية الكريمة التي يخاطب الله بها خليله إمام الحنفاء حين بنى البيت المعظم قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (27-28) سورة الحـج.
ولقد فُرض الحج على المسلم في العمر مرة واحدة رحمة به ودفعاً للحرج عنه؛ ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ)2. الحديث.
فهو مشروع في العمر مرة, ولا يجب إلا على البالغ العاقل الحر المستطيع، والاستطاعة تتحقق بما يأتي:
1- صحة البدن والقدرة على الركوب, فإن كان من يعتزم الحج مريضاً أو شيخاً كبيراً لا يستطيع الركوب ومشقات السفر، أو مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه أقام من يحج عنه.
2- أمن الطريق بحيث يسير فيه الحاج آمنا على نفسه وماله.
3- الحصول على الزاد والراحلة الصالحة لمثله، وأن يكفي أهله ومن يعولهم مؤونة النفقة حتى يعود من أداء الحج, فإذا تيسر كل ذلك فعليه أن يبادر بالحج خشية أن يعتريه ما يشغله من مرض وحاجة.
إن الحج هو التعبد لله بقصد البيت الحرام للقيام بشعائر الحج ولو مرة واحدة في العمر, لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً, ومن ثمراته أن فيه اجتماع المسلمين من كل مكان، يلتقون في مكان واحد، ويلبسون زيًّا واحداً، ويعبدون ربًّا واحداً في وقت واحد، لا فرق بين رئيس ومرؤوس، وغني وفقير، وأبيض وأسود، الكل خلق الله وعباده، ويحصل للمسلمين بذلك التعارف والتعاون، ويتذكرون يوم يبعثهم الله جميعاً, ويحشرهم في صعيد واحد للحساب، فيستعدون لما بعد الموت بطاعة الله تعالى, ومن ذلك أنه عبادة لله تعالى بالروح والجسم والمال.
وإن الكعبة هي البيت الذي اختاره الله للمسلمين قبلة, وهو بيت الله الذي جعل له هذه الكرامة, وهو أول بيت أقيم في الأرض للعبادة, وهو بيت أبيهم إبراهيم، وفيه شواهد على بناء إبراهيم له, والإسلام هو ملة إبراهيم, فبيته هو أولى بيت بأن يتجه إليه المسلمون, وهو مثابة الأمان في الأرض, وفيه هدى للناس، بما أنه مثابة هذا الدين, ولقد فرض الله على الناس أن يحجوا إلى هذا البيت ما تيسر لهم ذلك, وإلا فهو الكفر الذي لا يضر الله شيئاً؛ كما قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (97) سورة آل عمران. ويلفت النظر في التعبير هذا التعميم الشامل في فرضية الحج بقوله: {عَلَى النَّاسِ} حيث أن فيه ما يلي:
أولاً: إيحاء بأن هذا الحج مكتوب على هؤلاء اليهود الذين يجادلون في توجه المسلمين إليه في الصلاة, على حين أنهم هم أنفسهم مطالبون من الله بالحج إلى هذا البيت والتوجه إليه، بوصفه بيت أبيهم إبراهيم، وبوصفه أول بيت وضع للناس للعبادة, فهم اليهود المنحرفون المقصرون العاصون!
ثانياً: إيحاء بأن الناس جميعاً مطالبون بالإقرار بهذا الدين، وتأدية فرائضه وشعائره، والاتجاه والحج إلى بيت الله الذي يتوجه إليه المؤمنون به, وإلا فهو الكفر مهما ادعى المدعون أنهم على دين! والله غني عن العالمين, فما به من حاجة -سبحانه- إلى إيمانهم وحجهم, إنما هي مصلحتهم وفلاحهم بالإيمان والعبادة.
وإن القصد من الطواف حول الكعبة (قبلة المسلمين) التي أمرهم الله بالتوجه إليها في كل صلاة أينما كانوا، والقصد من الوقوف بالأماكن الأخرى في مكة في أوقاتها المحددة لها، وهي: عرفات ومزدلفة والإقامة بمنى، القصد من ذلك كله هو عبادة الله تعالى في تلك الأماكن المقدسة على الهيئة التي أمر الله بها.
أما الكعبة نفسها وتلك الأماكن وجميع المخلوقات فإنها لا تعبد، ولا تنفع ولا تضر، وإنما العبادة لله وحده، والنافع الضار هو الله وحده، ولو لم يأمر الله بحج البيت لما صح للمسلم أن يحج؛ لأن العبادة لا تكون بالرأي والهوى، وإنما بموجب أمر الله تعالى في كتابه أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
إن الحج مؤتمر المسلمين السنوي العام, يتلاقون فيه عند البيت الذي صدرت لهم الدعوة منه, الذي بدأت منه الملة الحنيفية على يد أبيهم إبراهيم, الذي جعله الله أول بيت في الأرض لعبادته خالصاً, فهو تجمع له مغزاه، وله ذكرياته هذه التي تطوف كلها حول المعنى الكريم لذي يصل الناس بخالقهم العظيم معنى العقيدة استجابة الروح لله الذي من نفخة روحه صار الإنسان إنساناً, وهو المعنى الذي يليق بالأناسي أن يتجمعوا عليه، وأن يتوافدوا كل عام إلى المكان المقدس الذي انبعث منه النداء للتجمع على هذا المعنى الكريم.
أدلة وجوب الحج:
قد دل الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على وجوب الحج مرة واحدة في العمر، وهو إِحدى الدعائم الخمس، التي بني عليها الإسلام إجماعاً, أما دليل وجوبه من كتاب الله: فقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (97) سورة آل عمران.
ويقول تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (27) سورة الحـج. ففي هذه الآية دليل على وجوب الحج، وعلى قول الجمهور، فوجوب الحج بها على هذه الأمة مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا، مع أنه دلت آيات أخر، على أن الإيجاب المذكور على لسان إبراهيم وقع مثله أيضاً على لسان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (97) سورة آل عمران. وقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (196) سورة البقرة, وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (158) سورة البقرة.
وأما السنة فالأحاديث في ذلك كثيرة، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ قال « خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا) فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ), ثُمَّ قَالَ: (ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ, وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ)3.
ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا) ونحوه أخرجه الإمام أحمد والنسائي، واستدل بهذا الحديث على أن الأمر المجرد من القرائن لا يقتضي التكرار، كما هو مقرر في الأصول.
والدليل على أنه إحدى الدعائم الخمس التي بني عليها الإسلام: حديث ابن عمر المتفق عليه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ)4. وفي حديث جبريل المشهور لما سأل النبي -صلى الله عليه و سلم- عن الإسلام فقال: (أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)5.
فيتبين لنا من هذه الآيات والأحاديث أن الحج من جملة الإسلام وهو أحد أركانه العظام.
وأركان الإسلام هي دعائمه وأُسسه التي يقوم عليها ويتكون منها، فمن أخلَّ بركن من هذه الأركان فقد اختل إسلامه؛ فالبناء إذا انهدم أحد أركانه -يعني أحد جوانبه- فإنه لا يُنْتَفَعُ به، بخلاف إذا ما تمت حيطانه وجوانبه وزواياه، فكذلك الإسلام إذا اختل منه ركن من هذه الأركان فإنه يكون غير كامل ويكون دين المسلم فيه نقص, وهذا معنى كونه ركناً من أركان الإسلام.
والحج لا يجب إلا بشروط، ذكرها العلماء في كتبهم، فمن أراد معرفتها فإنه يُرْجَعُ إليها في مواضعها, وسنشير إلى شيء منها في هذا الدرس لاحقاً.
أما من ترك الحج وهو قادر عليه ومستطيع لأدائه واكتملت فيه الشروط، فإنه على خطر عظيم، لما ورد من الوعيد الشديد على تركه, فقد ثبت عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "لقد هممت أن أبعث إلى بعض البلاد، فمن وجدوه قادراً على الحج فلم يحج أن أضع عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين" أو كما في الأثر.
وقد كان الحج إلى بيت الله العتيق قديماً قبل الإسلام، فقد كان الأنبياء يحجون هذا البيت، وقد روي في ذلك آثار وأحاديث، وكذلك رُوي أن الملائكة طافت به قبل أن يُخلق آدم، و الله تعالى قد أمر إبراهيم ببناء هذا البيت، وأمره بالنداء إليه بقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (27) سورة الحـج. وظاهر ندائه أنه كما روي في بعض الآثار: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا)6.
فدلّ هذا على أن الحج واجب.
فإذا عرفنا أن الحج أحد أركان الإسلام، وأن الله تعالى أتم به الدين، وعرفنا أنه لازم وواجب، فعلى كل مسلم إذا تمت فيه الشروط المعروفة أن يأتي لهذا البيت المعظم، ملبياً نداء الله إليه، فإن من تركه تهاوناً فإنه متعرض للوعيد الشديد؛ سيما وقد فرضه النبي -عليه الصلاة والسلام- وبيَّنه وأتمه، وقال للناس لما وقف بهم في المشاعر: (أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا)7.
ولما وقف بعرفة أنزل الله عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (3) سورة المائدة. أي: في ذلك اليوم الذي تمت فيه المناسك والمشاعر, وتمت فيه أركان الإسلام، وكان به تمام الدين وكماله، وفيه إتمام لسنة الله -عز و جل- ورضاه بأن يكون الإسلام دينهم، فهذا كله دليل على أن الحج فرض وواجب.
وإن من الأدلة على فرضيته: عموم أقوال الرسول -صلى الله عليه و سلم- وأفعاله في التأكيد عليه وبيان فضائله وأنه خاتمة الشرائع، وأن من أتى به كان ذلك من تمام إسلامه، ومن لم يأت به كان إسلامه ناقص8.
وقد وردت في فضل الحج والترغيب أحاديث كثيرة: فمن ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (حَجٌّ مَبْرُورٌ)9.
وعنه -رضي الله عنه- أيضاً قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)10. وعنه أيضاً -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ)11.
واعلم: أن وجوب الحج المذكور تشترط له شروط هي: العقل، والبلوغ، والإسلام، والحرية، والاستطاعة, ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم، أما العقل فكونه شرطاً في وجوب كل تكليف واضح؛ لأن غير العاقل لا يصح تكليفه بحال, وأما اشتراط البلوغ فواضح؛ لأن الصبي مرفوع عنه القلم، حتى يحتلم، فالبلوغ والعقل كلاهما: شرط وجوب.
وأما الإسلام: فالظاهر أنه على القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فهو شرط صحة لا شرط وجوب، وعلى أنهم غير مخاطبين بها فهو شرط وجوب، فعلى الأول يكون الإسلام شرط صحة في حقهم، ومعلوم أنه على أنه شرط وجوب، فهو شرط صحة أيضاً؛ لأن بعض شروط الوجوب يكون شرطاً في الصحة أيضاً, كالوقت للصلاة فإنه شرط لوجوبها وصحتها أيضاً، وقد يكون شرط الوجوب ليس شرطاً في الصحة كالبلوغ والحرية؛ فإن الصبي لا يجب عليه الحج مع أنه يصح منه لو فعله، وكذلك العبد إلا أنه لا يجزئ عن حجة الإسلام، إلا إذا كان بعد البلوغ وبعد الحرية, وأما الحرية فهي شرط وجوب فلا يجب الحج على العبد، واستدل العلماء على عدم وجوب الحج على العبد بأمرين:
الأول: إجماع أهل العلم على ذلك, ولكنه إذا حج صح حجه، ولم يجزئه عن حجة الإسلام، فإن عتق بعد ذلك فعليه حجة الإسلام. قال النووي في المجموع: "أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج؛ لأن منافعه مستحقة لسيده، فليس هو مستطيعاً, ويصح منه الحج بإذن سيده ، وبغير إذنه بلا خلاف عندنا, قال القاضي أبو الطيب: وبه قال الفقهاء كافة، وقال داود: لا يصح بغير إذنه"ا ه12 كلام النووي.
الأمر الثاني: جاء عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على ذلك: وهو أنه -صلى الله عليه وسلم- جاء عنه من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- أنه قال: (أيما صبي حج ثم بلغ الحنث عليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه أن يحج حجة أخرى)13.
ووجه الدلالة منه: أن الحرية شرط في وجوب الحج؛ لأنه لو حج وهو مملوك ثم أعتق بعد ذلك لزمته حجة الإسلام، فلو كان واجباً عليه في حال كونه مملوكاً أجزأه حجه عن حجة الإسلام كما هو ظاهر، والعلم عند الله تعالى.
قال الترمذي -رحمه الله- ما نصه: وقد أجمع أهل العلم أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج، فإذا أدرك لا تجزئ عنه تلك الحجة عن حجة الإسلام، وكذلك المملوك إذا حج في رقه ثم أعتق فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلاً، ولا يجزئ عنه ما حج في حال رقه، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق.
وأما الاستطاعة: فقد نص تعالى على اشتراطها في قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً}, ومعنى الاستطاعة في اللغة العربية معروف، وتفسير الاستطاعة في الآية اختلف فيه العلماء وليس هنا محل ذكر الخلاف في هذه المسألة.
من صور التيسير في الحج:
إن المتأمل في هذه الفريضة العظيمة يجد أن السماحة في الحج تضح من خلال النقاط الآتية:
– الاستطاعة في الزاد والراحلة، وأن لا يكون عليه دين أو التزام مالي آخر من حقوق الآخرين، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.
– وجوبه في العمر مرة واحدة، لأن فيه المشقة والعناء, فيصعب على المؤمن أن يؤديه كل عام.
– التخيير بين المناسك الثلاثة: التمتع، والقران، والإفراد.
– التخيير في الترتيب بين الأعمال الثلاثة يوم العيد، الرمي والحلق والطواف، وهذا فيه تيسير على الحاج الذي يعاني من زحمة الناس والمواصلات والأسفار، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: قال رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم- "زرت قبل أن أرمي، قال: لا حرج. قال آخر: حلقت قبل أن أذبح قال: لا حرج. قال آخر: ذبحت قبل أن أرمي، قال: لا حرج.
– كل خلل في واجبات الحج من غير قصد يجبر بفدية، وحجه صحيح إذا كان القصور من هذا الوجه فقط.
– ومن اليسر والسماحة في هذا الركن المبارك، أن الله تعالى جعله سبباً لمغفرة الذنوب والخطايا، وقد وعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحاج بالجنة وأنه يرجع كيوم ولدته أمه، وصفحته بيضاء ناصعة خالية من السيئات والذنوب: (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ). ويقول أيضًا: (وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ). وقد جعله الله -تعالى- من الأعمال الفاضلة التي تلي الإيمان بالله والجهاد في سبيله، فقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (حَجٌّ مَبْرُورٌ).
نسأل الله أن يجعل لنا منه حظاً ونصيباً، وأن يجعلنا من المقبولين والمغفور لهم, إنه على كل شيء قدير, وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين14.
1 أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة – (1/1).
2 رواه مسلم -2380- (7/42).
3 رواه مسلم -2380- (7/42).
4 رواه البخاري -7- (1/11) ومسلم -21- (1/103).
5 رواه مسلم -9- (1/87).
6 رواه مسلم -2380- (7/42).
7 رواه النسائي -3012- (10/91) وأحمد -13899- (ج 28/448)والفظ لهما, وأما لفظ مسلم وغيره: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ). انظر: صحيح مسلم -2286- (6/426).
8 من كتاب: فتاوى الشيخ ابن جبرين –أثابه الله.
9 رواه البخاري -1422- (5/398) ومسلم -118-(1/231).
10 رواه البخاري – (5/400) ومسلم -2404- (7/72).
11 رواه البخاري -1650- (6/274) ومسلم -2403- (7/71).
12 المجموع للنووي (7/43).
13 رواه الطبراني -2838- (6/294) وصححه الألباني في: مختصر إرواء الغليل برقم: (986).
14استفيد الموضوع بتصرف من المراجع التالية:
1- ما يجب أن يعرفه المسلم عن دينه لـ(عبد الله عبد الغني الخياط). 2- قصة البشرية لـ( محمد بن إبراهيم الحمد).
3- دين الحق لـ(عبد الرحمن بن حماد آل عمر). 4- في ظلال القرآن لـ(سيد قطب). 5- أضواء البيان للشنقيطي.
6- رسالة التوحيد للشيخ إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي. 7- اليسر والسماحة في الإسلام لـ(فالح بن محمد الصغير).
8- المجموع للإمام النووي. 9- فتاوى الشيخ ابن جبرين -أثابه الله.