نزول القرآن

نزول القرآن

الحمد لله معطي الجزيل لمن أطاعه ورجاه، وشديد العقاب لمن أعرض عن ذكره وعصاه، اجتبى من شاء بفضله فقربه وأدناه، وأبعد من شاء بعدله فولاه ما تولاه، أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومناراً للسالكين، فمن تمسك به نال مناه، ومن تعدى حدوده وأضاع حقوقه؛ خسر دينه ودنياه، أحمده على ما تفضل به من الإحسان وأعطاه، وأشكره على نعمه الدينية والدنيوية، وما أجدر الشاكر بالمزيد وأولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكامل في صفاته، المتعالي عن النظراء والأشباه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اختاره على البشر واصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما انشق الصبح وأشرق ضياه، وسلم تسليم1، أما بعد:

فإنَّ من أصول العقيدة الإسلامية الصحيحة أن يثبت لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وما أثبته له رسوله في سنته، وينفى عنه من الأسماء والصفات ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله، ومما جاء إثباته في الكتاب والسنة، وأجمع العلماء عليه من صفات الله -تعالى- صفة الكلام: “ومن كلام الله تعالى: القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود”2.

ولن يستقيم إيمان عبد حتى يؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خير وشره، ومن الإيمان بكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق؛ يَقول شيخ الإِسلام – رحمه الله -: “ومن الإِيمان بالله، وملائكته، وكتبه؛ الإِيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإِليه يعود، وأن الله تعالى تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد  هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إِطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله، أو عبارة عنه، بل إِذا قرأه الناس أو كتبوه بذلك في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقةً، فإِن الكلام إنما يضاف حقيقة إِلى من قاله مبتدئًا لا إِلى من قاله مُبلِّغًا مؤدِّيًا، وهو كلام الله، حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف”3.

قال حافظ حكمي بعد أن سرد الآيات التي فيها أن القرآن كلام الله: “والآيات في هذا الباب كثيرة جداً، بل القرآن كله فاتحته إلى خاتمته يشهد بأنه كلام الله، وتنزيله، وقصصه، وتعليمه، وألفاظه، ومعانيه، وإيجازه، وإعجازه؛ يرشد إلى أنه كلام الخالق وصفته، وأنه لا يستطيع البشر الإتيان بسورة من مثله، وقد أقرّ بذلك كل عاقل حتى المشركون”.

ثم بيَّن عقيدة أهل الحق – أهل السنة والجماعة – في القرآن فقال: “ونحن وجميع أهل السنة والجماعة نشهد الله الذي أنزله بعلمه، وشهد به، ونشهد ملائكته الذين شهدوا بذلك، ونشهد رسوله الذي أنزل عليه، وبلغه إلى الأمة، ونشهد جميع المؤمنين الذين صدقوه، وآمنوا به؛ أنا مؤمنون مصدقون، شاهدون بأنه كلام الله ​​​​​​​ وتنزيله، وأنه تكلم به قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، ولا نقول إنه حكاية عن كلام الله ​​​​​​​  أو عبارة، بل هو عين كلام الله حروفه ومعانيه، نزل به من عنده الروح الأمين على محمد خاتم المرسلين”4.

وهذا القرآن أنزله الله على قلب سيد المرسلين بواسطة جبريل الأمين، بلسان عربي مبين، في شهر الرحمة والغفران، والعتق من النيران؛ يقول المولى -جل في علاه-: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ5، قال الحافظ المؤرخ المفسر ابن كثير: “يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه، وكما اختصه بذلك قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه6 فعن واثلة بن الأسقع أن رسول الله قال: (أنزلت صُحُف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لسِتٍّ مَضَين من رمضان، والإنجيل لثلاث عَشَرَةَ خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان)7 أما الصحف، والتوراة، والزبور، والإنجيل؛ فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان، في ليلة القدر منه؛ كما قال تعالى: إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 8، وقال: إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ9، ثم نزل بعدُ مفرّقًا بحسب الوقائع على رسول الله ، وهذا ما روي من غير وجه عن ابن عباس فقد سأله عطية بن الأسود فقال: وقع في قلبي الشك من قول الله – تعالى -: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، وقوله: إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ وقوله: إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وقد أنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم، وصفر، وشهر ربيع؟ فقال ابن عباس  : إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر، وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلاً في الشهور والأيام10.

وفي رواية عن ابن عباس  قال: أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العِزَّة، ثم أنزل على رسول الله  في عشرين سنة لجواب كلام الناس، وفي رواية عن ابن عباس قال: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يُحْدثُ لنبيه ما يشاء، ولا يجيء المشركون بمثَل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وذلك قوله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ۝ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }11.12. 

وخلاصة المسألة في نزول القرآن أن الإنزال يأتي بمعنيين

الأول: أنه أنزل في ليلة القدر جملة إلى السماء الدنيا كما ثبت عن ابن عباس – رضي الله عنهما -.

والثاني: أن معنى إنزاله فيها ابتداء نزوله كما قال به بعضهم13، ثم بعد ذلك تتابع نزوله من السماء الدنيا حسب الوقائع والأحداث خلال ثلاث وعشرين سنة. ونحن – عباد الله – في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وقد كان نبينا  يتدارس مع جبريل القرآن في هذا الشهر المبارك، فقد كان جبريل يعارض النبي  القرآن في رمضان كل سنة مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه مرتين تأكيدا ًوتثبيتاً، وكان السلف الصالح  يكثرون من تلاوة القرآن في رمضان في الصلاة وغيرها، فقد كان الزهري – رحمه الله – إذا دخل رمضان يقول: “إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام”، وكان مالك – رحمه الله – إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث، ومجالس العلم، وأقبل على قراءة القرآن من المصحف14. فعلينا أن نتدارس القرآن فيما بيننا، وأن نتلوه حق تلاوته، وتلاوته على نوعين:

النوع الأول: تلاوة لفظية وهي قراءته، وقد جاءت النصوص الكثيرة في فضلها إما في جميع القرآن، وإما في سور، أو آيات معينة منه، فمن ذلك ما جاء عن عثمان بن عفان  أن النبي  قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه 15، وعن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي  قال: الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجران 16 والأجران أحدهما على التلاوة، والثاني على مشقتها على القارئ، وعن عبدالله بن مسعود   أن النبي  قال: من قَرأ حرفاً من كتاب الله فَلَهُ به حَسَنَةٌ، والحسنَةُ بعشْر أمْثالها، لا أقُول الم حرفٌ، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولاَمٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ 17، وغير ذلك من النصوص التي جاء في الحث على تلاوة القرآن.

النوع الثاني: تلاوة حكمية، وذلك بتصديق أخباره، واتباع أحكامه، فعلاً للمأمورات، وتركاً للمنهيات: وهذا النوع هو الغاية الكبرى من إنزال القرآن؛ كما قال تعالى: كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ إِلَيْكَ مُبَـرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَـتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاَْلْبَـبِ 18. ولهذا درج السلف الصالح  على ذلك يتعلمون القرآن، ويصدقون به، ويطبقون أحكامه تطبيقاً إيجابياً عن عقيدة راسخة، ويقين صادق قال أبو عبدالرحمن السلمي – رحمه الله -: “حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن عثمان بن عفان، وعبدالله بن مسعود، وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي  عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموها، وما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل جميعاً.

وهذا النوع من التلاوة هو الذي عليه مدار السعادة والشقاوة قال الله -تعالى-: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيـمَةِ أَعْمَى۝ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَـتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى۝ وَكَذلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِـَايَـتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى19. فبيَّن الله في هذه الآيات الكريمة ثواب المتبعين لهداه الذي أوحاه إلى رسله، وأعظمه هذا القرآن العظيم، وبيَّن عقاب المعرضين عنه، أما ثواب المتبعين له فلا يضلون ولا يشقون، ونفي الضلال والشقاء عنهم يتضمن كمال الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة، وأما عقاب المعرضين عنه، المتكبرين عن العمل به؛ فهو الشقاء والضلال في الدنيا والآخرة، فإن له معيشة ضنكا، فهو في دنياه في هم وقلق نفس ليس له عقيدة صحيحة، ولا عمل صالح: أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَـمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَـفِلُونَ 20.

وهو في قبره في ضيق وضنك، قد ضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، وهو في حشره أعمى لا يبصر: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا 21، فهم لما عموا في الدنيا عن رؤية الحق، وصموا عن سماعه، وأمسكوا عن النطق به: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فيْ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَـمِلُونَ22؛ جازاهم الله في الآخرة بمثل ما كانوا عليه في الدنيا، وأضاعهم كما أضاعوا شريعته: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَـتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى جَزَآءً وِفَـاقاً23.

وعن أبي مالك الأشعري  أن النبي قال: القرآن حجة لك أو عليك 24، وقال ابن مسعود  : “القرآن شافع مشفع، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار”، فيا من كان القرآن خصمه؛ كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟ ويل لمن شفعاؤه خصماؤه يوم تربح البضاعة 25.

اللهم ارزقنا تلاوة كتابك حق التلاوة، واجعلنا ممن نال به الفلاح والسعادة، اللهم ارزقنا إقامة لفظه ومعناه، وحفظ حدوده ورعاية حرمته، اللهم اجعلنا من الراسخين في العلم المؤمنين بمحكمه ومتشابهه تصديقاً بأخباره، وتنفيذاً لأحكامه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.


1 مجالس شهر رمضان، صـ(45) لابن عثيمين. الناشر: دار المجتمع للنشر والتوزيع.

2 لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، صـ(96). لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي. الناشر: الدار السلفية- الكويت. الطبعة الأولى(1406) تحقيق: بدر بن عبد الله البدر.

3 راجع: العقيدة الواسطية، صـ(16).

4 راجع: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول(265- 266).

5 سورة البقرة (185).

6 تفسير القرآن العظيم(1/292).

7 رواه أحمد، وقال الألباني: “حسن”؛ كما في صحيح الجامع، رقم (1497).

8 سورة القدر(1).

9 سورة الدخان(3)

10 رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وهذا لفظه.

11 انظر: تفسير القرآن العظيم(1/292). لابن كثير.

12 سورة الفرقان(32-33).

13 أضواء البيان (1/99).

14 مجالس شهر رمضان، صـ(24) لابن عثيمين.

15 رواه البخاري.

16 رواه البخاري ومسلم.

17 الحديث رواه الترمذي، وقال: “حديث حسن صحيح غريب”، وقال الألباني: “صحيح”؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم، (1416). وللمزيد راجع: مجالس شهر رمضان(21- 22).

18 سورة ص(29).

19 سورة طه(123- 127)

20 سورة الأعراف(179).

21 سوة الإِسراء(97).

22 سورة فصلت(5).

23 سورة النبأ(26).

24 رواه مسلم.

25 راجع: مجالس شهر رمضان، صـ(54- 56).