الشرك- أصله ونشأته
الحمد لله الذي هدانا للإسلام،وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله،والصلاة والسلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه.
أمَّا بعدُ:
خلق اللهُ-تعالى-هذا الإنسانَ على فطرة التوحيد والإسلام مُتهيئاً لقبول الدين1، فلا يعدل عن هذا وينحرف إلا لآفة تنحرف بهذه الفطرة،وذلك عندما تتضافرُ جملة من العوامل التي تساعد على الانحراف،فيقع الإنسان عندئذٍ في واحدةٍ من صوره كالشرك والنفاق.
وسنقف-إنْ شاء اللهُ تعالى-على واحدة من هاتين الصورتين بكلمةٍ تعريفيةٍ مُوجزة،تحدد معناها اللغويَّ والاصطلاحيَّ، وأصلها ونشأتها، وبعض صورها.
إذا استنطقنا كتب اللغة وجدنا أن (الشين والراء والكاف) أصلان يدل أحدهما على مقارنة وخلاف انفراد، والآخر يدل على امتداد واستقامة. فالأول الشركة، وهو أن يكون الشيء بين اثنين، لا ينفرد به واحد منهما. يُقال:”شاركتُ فلاناً في الشيء؛ إذا صرتُ شريكه،وأشركتُ فلاناً: إذا جعلته شريكاً لك”. يُقال: أشرك بالله: جعل له شريكاً في ملكه-تعالى الله عن ذلك-…
ومن عدل باللهِ-تعالى-شيئاً من خلقه فهو كافر مشرك؛ لأن الله وحده لا شريك له،ولاندّ له ولا نديد2.
وفي الاصطلاح الشرعي: يطلق لفظ الشرك على نوعين:أحدهما: إثبات شريك لله-تعالى-، وهو الشرك الأكبر.والثاني: مراعاة غير الله-تعالى- في بعض الأمور،وهو الشِّركُ الأصغر. فالشِّركُ الأكبرُ هو أن يتخذ مع الله-تعالى-،أو من دون الله، إلهاً آخر، يعبده بنوع من أنواع العبادة.
قال ابنُ القيِّم:”والشِّرك الأكبر لا يغفره اللهُ إلا بالتوبةِ منه، وهو أنْ يتخذمن دُون الله نِدَّاً يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين بربِّ العالمين”3. وقال الشَّيخُ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ:” الشرك قد عرَّفه النَّبيُّ ﷺ بتعريف جامع،كما في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله،أي الذنب أعظم ؟ قال:(أن تجعل لله نداً وهو خلقك)4، والند: المثل والشبيه، فمن صرف شيئاً من العبادات لغير الله، فقد أشرك به شركاً يُبطل التَّوحيدَ ويُنافيه”5.
وعرَّف الشيخ عبد الرحمن السعدي هذا الشرك بتعريف جامع مانع، فقال:”إنَّ حدَّ الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده؛ أنْ يصرفَ العبدُ نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله، فكلُّ اعتقادٍ أو قولٍ أو عملٍ ثبت أنه مأمورٌ به من الشارع، فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر، فعليك بهذا الضابط الذي لا يشذ عنه شيء”.6
وهذا أعظم الشرك والظلم، ولا يغفره الله لصاحبه إن مات عليه، لأنه يناقض أصلَ التوحيد ويخرج صاحبه عن الملّة،ويحبط عمله،ويخلِّد في النار. وإذا أطلقت كلمة الشرك فإنها تنصرف إلى هذا النوع منه.
نشأةُ الشِّركِ:
روى البخاريُّ في صحيحه عن ابن عباس-رضي الله عنهما-،قال:(صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غُطَيْفٍ بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان،وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد،حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عبدت)7.
قال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ-رحمه الله-:قوله (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ) في رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: كانت آلهةً تعبدها قوم نوح،ثم عبدتها العرب بعد، وقال أبو عبيدة: وزعموا أنهم كانوا مجوساً، وأنها غرقت في الطوفان، فلما نضب الماء عنها، أخرجها إبليس فبثها في الأرض.انتهى. وقوله كانوا مجوساً غلط، فإن المجوسية كلمة حدثت بعد ذلك بدهر طويل، وإن كان الفرس يدعون يدعون خلاف ذلك. وذكر السهيلي في “التعريف” أن يغوث هو ابن شيت بن آدم فيما قيل،
وكذلك سواع وما بعده وكانوا يتبركون بدعائهم، فلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بهاإلى زمن مهلائيل فعبدوها بتدريج الشيطان لهم، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية، ولا أدري من أين سرت لهم تلك الأسماء؟ من قِبَل الهند فقد قيل إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح، أم الشيطان ألهم العرب ذلك انتهى. وما ذكره مما نقله تلقاه من” تفسير بقي بن مخلد” فإنه ذكر فيه نحو ذلك على ما نبه عليه ابن عسكر في ذيله،وفيه أن تلك الأسماء وقعت إلى الهند فسموا بها أصنامهم، ثم أدخلها إلى أرض العرب عمرو بن لحي.
وعن عُروة بن الزُّبير أنهم كانوا أولاد آدم لصلبه، وكان ود أكبرهم وأبرَّهم به،وهكذا أخرجه عمر بن شبة في” كتاب مكة”من طريق محمد بن كعب القرظي، قال: كان لآدم خمس بنين فسمَّاهم، قال: وكانوا عُبَّاداً، فمات رجل منهم فحزنوا عليه، فجاءالشيطانُ فصوَّره لهم، ثم قال للآخر إلى آخر القصة، وفيها: فعبدوها حتى بعث الله نوحاً. ومن طريق أخرى أنَّ الذي صوَّره لهم رجل من ولد قابيل بن آدم8.
أصلُ الشِّركِ:
هو تسوية غير الله بالله-تعالى-،أو هو تشبيه غير الله بالله-تعالى-في صفة من الصفات التي يختصُّ بها؛ مما لم يُعْهَدْ في جنس الإنسان، فالذي يعبد كائناً ما من دون الله فيدعوه أو يطلب منه الشفاعة أو يخافه، أو يتخذ حكمه شرعاً له… إنما يفعل ذلك لأنه يعتقد أنه صاحب سلطة وحكم على الخلق..
يقول ابن تيمية رحمه الله:” وأصل الشرك أن تعدل بالله- تعالى- مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده، فإنه لم يعدل أحد بالله شيئاً من المخلوقات في جميع الأمور، فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك”.9والصورة الواضحة الجلية لهذا الشرك هي عبادة الأصنام، التي كانت تتخذ سابقاً في عصور الجاهلية القديمة من حجر أو خشب… ولكنها تظهر في عصور أخرى بمظاهر شتى قد تكون مذهباً من المذاهب الفكرية، أو الاقتصادية،وقد تكون أهواء وشهوات يخضع لها الناس فيتخذونها آلهة.. وقد تكون الأصنام مجموعة من القيم الاجتماعية والمادية التي تسيطرعلى الناس، على ما حكاه الله- تعالى- عن أقوام فقال:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}10،
ويبحث العلماء تحت هذا الشرك أنواعاً من العبودية لغير الله، كشرك الدعاء سواء كان دعاء عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة، مما لا يجوز أن يُتوجه به إلا لله-تعالى- وحده؛ لأنَّ الدعاء هو العبادة. وكذلك شرك العبادة والتقرب الذي يظهر جلياً وواضحاً في عبادة الأصنام وإعطائها بعض خصائص الألوهية، أياً كانت هذه الأصنام وبأي صورة ظهرت. ولا يقل عن هذا اللون من الشرك ما يُسمَّى –أيضاً- بشرك طلب الشفاعة من غيرالله، فيما لا يقدر عليه إلا الله-تعالى-..وكتب العقيدة والتوحيد أفاضت في بيان ذلك كله. وتبقى ألوان أخرى من الشرك الأكبر قد تكون اتسعت دائرتها في العُصُور الأخيرة،أكثر مما كانت في عصور سابقة،وذلكم هو شِرْكُ الطاعة والاتباع،وشرك المحبة والنصرة.
وقد اتفق العلماءُ على أن الحكم لله وحده-سبحانه وتعالى-، فهو المتفرد بالخلق فينبغي أن يكون متفرداً بالأمر. فلا أحد يستحقُّ أن ينفذ حكمُهُ على الخلق إلا من كان له الخلق والأمر – سبحانه وتعالى-، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولامالك إلا الله الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له. أما غيره- سبحانه-، فلا يجب شيء بإيجابه، بل بإيجاب الله- تعالى- طاعتهم11.
وقد تواردت النصوص الشرعية تؤيد هذا المنطق السليم وتؤكده، فهي تُلْزِم البشر باتباع ما جاء من عند الله- تعالى-، وتحرِّم عليهم تحريما قاطعاً اتباع ما يخالفه قال-تعالى-: {اتَّبِعْ َا أُوحِيَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ}12وقال-تعالى-:{اتَّبِعُوامَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}13.. والآيات في ذلكَ كثيرةٌ تفوق الحصر.. توجب الحكم بما أنزل الله، وتحكم بالكفروالفسق والظلم على كل من يخالف حكم الله-تعالى-.
ولذلك كان كل من أطاع مخلوقاً في تحريم الحلال أو تحليل الحرام-وهو متبع له في هذاالتبديل-فهو مشركٌ شرك الطاعة والانقياد والاتباع14، وقد حكم اللهُ على اليهود والنَّصارى بالشرك لاتباعهم الأحبار والرهبان واتخاذهم أرباباً من دُون الله، ثم بيَّن النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-ذلك بياناً واضحاً ببيان ماهية العبادة التي وقعُوا فيها.15،
وهذا النَّوعُ من الشرك يعمُّ اليوم أصقاعاً وبقاعاً كثيرةً في بلدان العالم، بعد تنحية الشريعةِ الإسلاميةِ عن الحكم في شؤون الحياة كبيرها وصغيرها،وحصرها في جوانب ضيقة، واستبدلوا بها القوانين الوضعية التي ارتضاها الناس لأنفسهم بمعزل عن دين الله تعالى وشرعه. ولذلك كان من الواجب العناية بهذا اللون من الشرك وبيان خطورته،وإن كان ذلك سيُؤدِّي إلى تكاليف باهظة يحتسبها المسلم عند الله-تعالى-.وأما شرك المحبة والنصرة والولاء فيكون عندما يتوجه الإنسان بالمحبة لغير الله-تعالى-، إذْ من مقتضيات التوحيد وأصول العبادة أن نفرد الله-تعالى- بالمحبة التي لا تصلح إلا له وهي حب طاعته والانقياد لأمره،وإلا وقع الشرك الذي جاء التحذير منه،عندما تكون المحبة لأعداء الله،عند موالاة الكافرين ونصرتهم، لأن في ذلك نقضاً للميثاق ولكلمة التوحيد، وخروجاً على مقتضيات الإيمان:{لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}16،{يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}17 . وأمَّا تعريفُ الشِّركِ الأصغرِ،فهو ما أتى في النصوص الشرعية أنه شرك،ولم يصل إلى حدِّ الشرك الأكبر. ومن أمثلة هذا الشرك: التطير؛ وهو التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع وغيرها.
ومن الشرك الأصغر: شرك الألفاظ كالحلف بغير الله،وقول أحدهم: ما شاء الله وشئت،ولولا الله وفلان… إلخ.. ومن الشرك الأصغر:يسير الرياء؛ لقوله ﷺ : (إن يسير الرياء شرك)18.
وفي ختام هذا الدرس ندعو بما ورد عن رسول الله ﷺ في قوله:»(اللهمإني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم واستغفرك لما لا أعلم)19.
1– هذا الدرس مستفاد من مجلة البيان العدد 69 ص 8.
2– معجم مقاييس اللغة: 3 / 265، لسان العرب: 10/449 – 450.
3– مدا رج السالكين: (1/ 339).
4-أخرجه البخاري كتاب تفسير القرآن باب قوله تعالى فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون برقم (4117) ومسلم كتاب الإيمان باب كون الشرك أقبح الذنوب برقم (124).
5– الدرر السنية: (2/153).
6 -القول السديد: (43).
7– أخرجه البخاري كتاب التفسير باب (وداً ولا يغوث ويعوق) برقم(4920).
8– فتح الباري (8/536).
9– الاستقامة: 1/344.
10– الجاثية: 23.
11– المستصفى لغزالي: 1/ 83، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/ 76، مسلم الثبوت: 1 / 52، وشرح الكوكب المنير: 1/ 484، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 1/157- 158.
12– الأنعام: 106.
13– الأعراف: 3.
14– انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية: 1/97، 98، 14/ 328، 7/70 وتيسير العزيز الحميد (543).
15– انظر: تفسير الطبري 4 1/210-211، والبغوي: 4/ 39، تفسير ابن كثير: 3/122-123 مفاهيم ينبغي أن تصحح، للأستاذ/ محمد قطب، فصل (مفهوم لا إله إلا الله).
16– آل عمران: 28.
17–المائدة: 51.
18– أخرجه ابن ماجه كتاب الفتن باب من ترجى له السلامة من الفتن برقم (3979).
19-أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (18781).