تحكيم القوانين الوضعية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاةوالسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: إن الله -سبحانه وتعالى- بعث نبيه محمدا ﷺ بهذا الدين القويم ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور، وكان الناس إذ ذاك يهيمون في ظلمات الجهل والضلال، غارقين في بحر الخرافات والتقاليد الشركية المتوارثة، التي ورثوها عن آبائهم وأسلافهم في جميع أمورهم، في المعتقدات والعبادات والتقاضي والمحاكمات، فكانت معتقداتهم وعباداتهم قائمة على الشرك بالله -سبحانه وتعالى-،فيجعلون له شركاء وأندادا من شجر وحجر وملائكة وجن وبشر وغير ذلك، يتقربون إليهم بشتى أنواع القرب التي لا يجوز صرفها لغير الله، كالذبح والنذر وغير ذلك.
أما التقاضي والمحاكمات فهي لا تقل ضلالاً وفساداً عن طريقتهم في العبادة، إذ كانوا ينصبون الطواغيت والكهان وعرافين، يتولون القضاء بين الناس في جميع ما ينشأ بينهم من خلاف وخصومة في الأموال والدماء والفروج وغير ذلك، يقيمون في كل حي واحدا من هؤلاء الطواغيت، وإذا صدر الحكم فهو نافذ لا يقبل النقض ولا التعقيب، على الرغم من كونه جائرا ظالما، فلما بعث الله محمدا -صلى لله عليه وسلم- بهذه الشريعة المطهرةأبطل هذه العادات، والتقاليد وقضى عليها، وقصر العبادة على الله -سبحانه وتعالى-، وقصر التقاضي والتحاكم على شرع الله، قال تعالى: {إِنِالْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}سورة يوسف(40) وقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} قصر الحكم على شرع الله، و {أَلاَّتَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}قصر العبادة لله -سبحانه وتعالى- على عبادته سبحانه وتعالى بطريقة هي أبلغ طرق القصر وهي النفي والاستثناء..
أيها الناس: لقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع بل هو مما علم من الدين بالضرورة أنه يجب الحكم بما أنزل الله؛ لقوله تعالى: {إِنَّاأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} سورة النساء(105) فـ: “… ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله لا بين المسلمين ولا الكفار ولا غيرذلك إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} سورة المائدة(50)، وقوله تعالى: {فَلاَوَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}سورة النساء(65) يقول الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-: “وتحكيم شرع الله وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسوله هو المتبع المحكم ما جاء به فقط، ولا جُردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك، والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع…”1..
كما ثبت أيضاً بالكتاب والسنة والإجماع أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله تحاكم إلى الطاغوت، وأن سن التشريعات المخالفة لحكم الله “أياً كان اسمها” هو من الكفر البواح، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}سورة المائدة(44)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- “… فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر”2.. ومتى ما حلل الإنسان: “الحرام المجمع عليه، أو حرّم الحلال المجمع عليه، أو بدّل الشرع المجمع عليه كان مرتداً… “3.. كذلك: “… من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء عن الرسول فقد حكم بالطاغوت وتحاكم إليه، وقد أمرنا سبحانه باجتناب الطاغوت قال سبحانه:{وَالَّذِينَاجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا} سورة الزمر(17)، فالاحتكام إلى شريعة الطاغوت هو نوع من أنواع العبادة التي أمر الله بهجرها واجتنابها …”4.. و”… من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول ﷺ ، ورغب عنه وجعل لله شريكاً في الطاعة، وخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله تعالى به في قوله: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} سورة المائدة(49)، وقوله تعالى : {فَلاَوَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}5سورة النساء(65)..
معاشر المسلمين: إن الالتزام بحكم الله يقتضي هيمنة الشرع على كل نظام وقانون وهيئةومحكمة ومؤسسة وحاكم وقاض ومدير ومسؤول ومحكوم، وإقرار أي قانون مخالف للشرع حتى لو كان فرعياً أو صغيراً هو من الحكم بغير ما أنزل الله ويترتب عليه من الأوصاف والآثار الشرعية ما يترتب على الحكم بغير ما أنزل الله، قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: “كل بدعة -وإن قلّت- تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون ملحقاً بما هو مشروع، فيكون قادحاً في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً لكفر، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير – قل أو كثر – كفر، فلا فرق بين ما قلّ أو كثر …”6..
أيها المؤمنون: إن سنّ القوانين والأنظمة واللوائح الوضعية وإقامة المحاكم أو الهيئات التي تحكم بها هو لاشك من الحكم بغير ما أنزل الله ويترتب عليه أحكام شرعية عظيمة، يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: “… إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين والرد إليه عند تنازع المتنازعين …”7، والله -جل وعلا- قد قال في كتابه الكريم: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}سورة المائدة(50)، ففي هذه الآية: “ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيره، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد هواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ ، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير”8.
وقال الشنقيطي: “وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم”9.
قال ابن باز: “وهذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردة السافرة؛ كما قال تعالى: {فَلاَوَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} سورة النساء(65) … إلى أن قال رحمه الله: “وكل دولة لا تحكم بشرع الله ولا تنصاع لحكم الله فهي دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله، وتحرم عليهم مودتها وموالاتها حتى تؤمن بالله وحده وتحكم شريعته”10..
فـيا عباد الله اعلموا أن تحكيم النظام المخالف لتشريع خالق السموات والأرض: “في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها، وهو أعلم بمصالحها -سبحانه وتعالى- أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}سورة الشورى(21)، {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ}11سورة يونس(59).
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: إن مما يجب علينا أن نعلمه أن هناك فرقاً كبيراً بين من يقصّر حيناً،ويتجاوز حينا،ً ويظلم حيناً آخر لجهل أو لمحاباة أو لهوى، وبين من يسن الأنظمة، ويجعلها تشريعاً ملزماً للناس يفرضه عليهم، ويؤسس لها المحاكم والهيئات والمجالس ويعين لها القضاة والحكام، ومن الضروري التفريق بين الصنفين؛ لأن الصنف الأول رغم أنه جريمة كبيرة فقد لا يكون كفراً أكبر ناقلاً عن الملة، أما الثاني فهو بلا شك كفر أكبر.
“… أما الكفر الذي لا ينقل عن الملة والذي ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بأنه كفر دون كفر، وقوله أيضاً “ليس بالكفر الذي تذهبون”، فذلك مثل أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى، وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملّة فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمّها الله كفراً…”..
“..وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعداداً وإمداداً، وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً، وحكماً وإلزاماً ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك، فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيّأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم الكتاب والسنة من أحكام ذلك القانون، وتلزم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة …”12.
وفي الأخير “يا معشر العُقلاء، ويا جماعات الأذكياء وأولي النهى كيف ترضون أنْ تجري عليكم أحكامُ أمثالكم، وأفكارُ أشباهكم، أو مَن هم دونكم، مِمّن يجوز عليهم الخطأ، بل خطأهم أكثرُ من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حُكمهم إلاّ ما هو مُستمدٌّ من حُكم اللهِ ورسولهِ، نصًّا أو استنباطًا، تَدَعونهم يحكمون في أنفسكم ودمائكم وأبشاركم، وأعراضكم وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقكم؟
ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحُكم الله ورسوله، الذي لا يتطرّق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.. وخُضوع الناس ورضوخهم لحكم ربِّهم خضوعٌ ورضوخٌ لِحُكم مَنْ خلقهم تعالى ليعبدوه فكما لا يسجدُ الخلقُ إلاّ للهِ، ولا يعبدونَ إلاّ إياه ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلاّ لحُكم الحكيم العليم الحميد، الرؤوف الرحيم، دون حُكم المخلوق، الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوكُ والشهواتُ والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات فيجب على العُقلاء أن يربئوا بنفوسهم عنه، لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض، والأغلاط والأخطاء، فضلاً عن كونه كفرًا بنصِّ قوله تعالى: {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرون}13سورة المائدة(44).
فيجب أن يلتزم الحاكم والمحكوم بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله، فإن في ذلك الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وبه كمال العدل؛ لأنه تنزيل من رب رحيم عدل كريم، وبه النصر العزة والغلبة على الكافرين، وبه التمكين لعباد الله المؤمنين.. والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 الفتاوى(12/251) محمد بن إبراهيم.
2 منهاج السنة النبوية(3/12) لابن تيمية.
3 الفتاوى(3/267).
4 إعلام الموقعين(1/49) ابن القيم.
5 فتح المجيد، صـ(392(. عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
6 الاعتصام(2/61) للشاطبي.
7 رسالة تحكيم القوانين صـ(15،14،13).
8 تفسير القرآن العظيم (2/17). لابن كثير.
9 أضواء البيان(3/328).
10 نقد القومية العربية، لابن باز، صـ(39).
11 أضواء البيان (3/329).
12 يراجع: رسالة تحكيم القوانين(7- 8).
13 للمزيد يراجع: رسالة تحكيم القوانين.