بالحسبة كنا خير أمة!

بالحسبة كنا خير أمة

بالحسبة كنا خير أمة!

الحمد لله الذي شرف هذا الأمة، فجعلها خير أمة أخرجت للناس؛ تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، أحمده تعالى وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، كتب الخيرية والفلاح، لدعاة الخير والإصلاح، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، حامل لواء الدعوة والجهاد والكفاح، صلَّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على نهجه وترسموا خطاه، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب المساء والصباح.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: إن الإيمان بالله -عز وجل- والدعوة إليه، والنصح والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر، وإشاعة الخير والفضيلة بين الناس، ومحاربة الشر والرذيلة والفساد، واستئصاله من المجتمع: من أبرز سمات أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- التي فاقت بها سائر الأمم؛ يقول الله -جل وعلا-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} سورة آل عمران(110).. لذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: القطب الأعظم في هذا الدين، والمهمة الكبرى للأنبياء والمرسلين والصالحين، بل قد عده بعض أهل العلم ركناً سادساً من أركان الإسلام، كل ذلك لما يشتمل عليه من الفضل العظيم، والخير العميم، والفوائد والمصالح العاجلة والآجلة، ولما يترتب على تركه من استشراء الباطل، وانتشار الفساد، وغلبة المعاصي وهيمنتها، وهي الجالبة لسخط الله، المنذر بمقت الله وعاجل عقوبته على الأفراد والأمم.

أمة الإسلام: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أمارة الإيمان، وإن تركه علامة النفاق: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} سورة التوبة(67). {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} سورة التوبة(71).

وهما من أعظم أسباب النصر على الأعداء، والتمكين في الأرض؛ قال عزّ من قائل: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} سورة الحـج(41).. وهما طوق النجاة وشريان الحياة؛ يقول سبحانه: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} سورة الأعراف(165).

وبالجملة: فهما من أفضل الأعمال، وآكد الفرائض، وأوجب الواجبات، وألزم الحقوق، وقد جاء في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بما يؤيد ذلك: يقول أصدق القائلين: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} سورة آل عمران(104). وروى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخُدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان). وفي رواية: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، وروى الترمذي وغيره عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (والذي نفسي بيده! لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعون فلا يستجاب لكم)1. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل: كان الرجل يلقي الرجل، فيقول: يا هذا، اتق الله، ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيلُه وشريُبُه وقعيدُه، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ* وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} سورة المائدة (78-81)، ثم قال: (كلا والله! لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخذن على أيدي الظالم، ولتأطرنَّه على الحق أطراً، ولتقصرنَّه على الحق قصراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم)2.

إخوة العقيدة: أرأيتم لو أن فرداً أصيب بمرض عضال في جزء من جسمه فأهمله؛ أو ليس يستشري المرض في جسده كله، فيعسر علاجه، ويتعذر شفاؤه؟! فكذلك المنكر -يا عباد الله- إذا ظهر وترك فلم يغير فإنه لا يلبث أن يألفه الناس ويستمرئوه، وعندئذ: يصبح من العسير تغييره وإزالته؛ فتعم المنكرات، وتنتشر الفواحش، وتغرق سفينة الأمة.

وقد ضرب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- مثلاً بليغاً على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام-: (مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها؛ فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء، مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا: فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم، نجوا ونجوا جميعاً)3.

معشر المسلمين: لقد أشاد علماء الإسلام بهذه الشعيرة العظيمة، يقول الغزالي -رحمه الله-: “فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله، لتعطلت النبوة، وأضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وانتشرت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعر بالهلاك إلا يوم التناد”4.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ” الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله، وهو من الدين”5.

أيها الإخوة في الله: المعروف الذي جاء الشرع بالأمر به: اسمٌ يجمع كل ما أمره الله به ورسوله، من العقائد والأقوال والأفعال؛ كالإيمان، وشرائع الإسلام الظاهرة والباطنة، والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة ونحوها، والمنكر: ما أنكره الله ورسوله، وأقبح ذلك وأعظمه: منكرات العقائد، والأمور المبتدعة في الدين، وكبائر الذنوب، عافانا الله وإياكم منها!.

أمة الإسلام: يا خير أمة أخرجت للناس: إن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس مقصوراً على أحد بعينه من  الأشخاص أو الهيئات، ولكنه واجب كل مسلم، وكل على قدر استطاعته، بحسب منزلته ومكانته، غير أنَّ على أهل الحل والعقد -من الرعاة والعلماء والوجهاء والمختصين والدعاة- ما ليس على غيرهم: فالأب مسئول عن أسرته وأهله وأولاده، والمعلم في مجاله، والموظف في دائرته، والتاجر في سوقه، وهكذا كل على ثغرة من ثغور الإسلام، وكل راع ومسئول عن رعيته، بل المسلم الحق حيثما حل ووقع أفاد ونفع؛ لأنه عضو في جسد هذه الأمة، له مكانته، وعليه واجباته، وهو مطالب بالتفاعل مع مجتمعه، والألم لألمه، والنشاط في محيطه، نشراً للخير والصلاح، ودرءًا للشر والفساد.

يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- يا خير أمة أخرجت للناس: إنه لا سبيل إلى مواجهة التحديات، والوقوف أمام المؤامرات، إلا بالتمسك بالثوابت واليقينيات، والمبادئ والمقومات، التي يترتب عليها مع المتغيرات، وجامع هذه الثوابت: هو القيام بهذه الشعيرة العظيمة، والفريضة الكريمة، التي هي الأصل الأصيل، والأساس المتين، الذي متى ما قامت به الأمة، عزت وسادت، وانتصرت وقادت.

إنه قوام هذا الدين، به نالت هذه الأمة الخيرية على العالمين. فالواجب على المسلمين: أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، ولابد من تحلي الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، والمنتسبين إليه: بالرفق والعلم، والحلم والرحمة والحكمة؛ ليكون لعملهم الأثر الإيجابي، في بعد عن التعنيف والغلظة…

فواجب الأمة جميعاً -عباد الله- تعزيز جانب الحسبة؛ فإن ضعفه وانحساره، وطي بساطه، وانخفاض لوائه، وإهمال علمه وعمله- نذر شرور خطيرة، وأضرار مستطيرة على الأمة جميعاً، وإنّ المتأمل لأحوال عالمنا الإسلامي المعاصر يدرك ما من الله به على بعض البلدان من عناية بهذا الجانب المهم؛ فرعاية الحسبة تاج على رأسها، وغرة في جبينها، جعلت له جهازاً مستقلاً، وجهة خاصة مسئولة، ورئاسة عامة، تتولى رعايتها والعناية بها، وتلك جهود مذكورة مشكورة، وعند المنصفين غير منكورة، يجب أن تروى فلا تطوى، مع ما يؤمل من تعاون المسلمين، ومزيد الدعم لأهل الخير والإصلاح في الأمة؛ فالشرور كثيرة، وجهود المغرضين وفية في خرق سفينة الأمة، والسنن لا تتغير، والمتغيرات لا تتمهل؛ والله سبحانه: {لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} سورة الرعد(11).

يا خير أمة أخرجت للناس: إنه إذا أفلت زمام هذا الأمر، وطوي بساطه، وقل أنصاره، وأخفقت رايته، وأهمل علمه وعمله- فشت الضلالة، وشاعت الجهالة، وفسدت البلاد، وهلك العباد، وإن الناظر فيما أصاب المجتمعات المعاصرة، ليأسى أشد الأسى من تفاقم المحرمات، وانتشار المنكرات، مما تعجز عن وصفه الكلمات، ويترجم عنه الحال في كثير من الجوانب العقدية والشرعية، والأخلاقية والفكرية؛ مما ضعفت معه الغيرة، وهتكت من أجله أعراض، وانتشرت الأفكار الهدامة، والمبادئ المنحرفة، وتطاول فيه الفساق من الرجال والشباب والنساء، ولا تسأل عما تضجَّ به القنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية، مما يلح بالسؤال: أين الغيرة الإسلامية؟ وأين الحمية الدينية؟ بل أين النزعة الإنسانية والشهامة العربية، والرجولة الأصيلة؟! هل نزعت من القلوب، وأضمحلت من النفوس؟! إنه إذا كثر الخبث، وانتشرت الفساد، ولم يغير-عم العذاب الصالح والطالح.. فعن أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: (نعم إذا كثر الخبث)6.

 ومع ذلك كله فلا يزال -ولله الحمد والمنة- في أرض الله من هو قائم لله بحجته، وصادع بدعوته، ولا نيأس من روح الله، بل نتفاءل خيراً -إن شاء الله- ولكن الأمر بحاجة إلى المزيد من الجهود الإسلامية المتضافرة؛ لتحقيق هذا المبدأ العظيم، ونشره في بلاد المسلمين؛ ليعم الخير وينتشر، ويوتر الباطل ويندحر؛ {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} سورة فاطر(17).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بسنة سيد المرسلين، وهدانا صراطه المستقيم، وأجارنا -بمنه وكرمه- من العذاب الأليم، وتاب علينا أجمعين؛ إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية:

 الحمد لله رب الأرباب، ومسبب الأسباب، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الوهاب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من قام بالدعوة والاحتساب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أولي البصائر والألباب، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله- وقوموا بما أوجب الله عليكم من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فقد عرفتم منزلته ومكانته في هذا الدين، والأدلة عليه، والوعيد الشديد لمن تركه وأهمله، وأدركتم ما وصل إليه الحال، وبان لكم أسباب ذلك، ونتائجه الوخيمة، ووقفتم على وصفة من علاج ذلك الأمر، وصفات من يقوم به.

فلم يبق إلا العمل الجاد المخلص المبني على أسس سليمة، وقواعد محكمة حكيمة، وترك التواني والتواكل والتلاوم إلقاء التبعة على الآخرين، فلو قام كل منا بواجبه، وعرف دوره ورسالته، وتعاون مع إخوانه-لم يجد الباطل سبيلاً، ولم يلق الفساد رواجاً، ولكنها سنة الله في خلقه؛ لينظر من يجد ويعمل، ممن يترك الحبل على الغارب ويهمل، ولكم في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة؛ فقد كان أشد الناس غيره على دين الله، وحرصاً على تبليغ رسالة الله، وغضباً إذا انتهكت حرمات الله؛ فتأسوا به -عليه الصلاة والسلام- تفلحوا وتسعدوا، ثم صلوا وسلموا -رحمكم الله- على الهادي البشير، والسراج المنير؛ كما أمركم بذلك المولى اللطيف الخبير؛ فقال عزّ من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}7 سورة الأحزاب(56)..


 


1 رواه أحمد والترمذي.

2 رواه أحمد وأبو داود والترمذي، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/308): “رواه الطبراني في الأوسط وفيه سنان بن هارون وهو ضعيف وقد حسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات”. والحديث ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، رقم(932).

3 رواه أحمد والبخاري من حديث النعمان بن بشير.

4 إحياء علوم الدين(2/306).

5 مجموع الفتاوى(28/121).

6 متفق عليه.

7 كتاب: كوكبة الخطب المنيفة من منبر الكعبة الشريفة (300- 312) لإمام وخطيب المسجد الحرام، الشيخ عبدالرحمن السديس. بتصرف.