العاقبة لمن؟
الحمد للّه القديم فلا أول لوجوده، الدائم الكريم فلا آخر لبقائه ولا نهاية لجوده، الملك حقاً فلا تدرك العقول حقيقة كنهه، القادر فكلّ ما في العالم من أثر قدرته، المنزَّهِ عن التغيير فلا ينجو منه سواه، مصرّف الخلائق بين رفع وخفض، وبسط وقبض، وإبرام ونقض، وإماتة وإحياء، وإيجاد وإفناء، وإسعاد وإضلال، وإعزاز وإذلال، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذلّ من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، مبيد القرون السالفة، والأمم الخالفة، لم يمنعهم منه ما اتخذوه معقلاً وحرزاً فـ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} (98) سورة مريم، بتقديره النفع والضرّ، {لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (54) سورة الأعراف.
أحمده على ما أولى من نعمه، وأجذل للناس من قسمه، وأصلي على رسوله محمد سيد العرب والعجم، المبعوث إلى جميع الأمم، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ومصابيح الظّلم، -صلى الله عليه وسلم-.1 أما بعد:
أيها الناس: إن الوقوف مع السنن الربانية المستوحاة من دعوة الرسل لأقوامهم لمن الواجبات التي ينبغي للمسلمين أن يلموا بها ويعرفوها؛ ليستفيدوا منها في تفسير الأحداث والمواقف والنوازل، ولا يستغربوها ويفاجئوا بها؛ لكونها تحدث بأمر الله وحكمته التي جعلت للأحداث والمتغيرات سننًا لا تتبدل ولا تتحول.
كما أن في معرفة هذه السنن معرفة بأسباب النصر والتمكين، وأسباب الهزيمة والخسران، وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة، وإعراض عن هدي الأنبياء، الذين ساروا في ضوء السنن الربانية؛ لأنهم أعرف الناس بالله وأسمائه وصفاته، وسننه وأيامه، وفي التفكير والتأمل في سير الأنبياء مع أقوامهم تعرف هذه الثمرة العظيمة.
ومن هذه السنن الثابتة من خلال التفكر في تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: معرفة لمن العاقبة؟ والتي تدور خطبتنا عليها في هذه اللحظات.
أيها المسلمون: لقد عاش المسلمون في أيام فرعون ظروفاً عصيبة ملؤها الخوف والأذى، ووصل بهم الأمر إلى أن يسروا بصلاتهم ويتخذوا المساجد في بيوتهم، قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (87) سورة يونس، وفى ظل هذه الظروف العصيبة أُمر المسلمون بالصبر عليها والاستعانة بالله على تجاوزها بالوسائل التالية: بالصبر، {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ} (128) سورة الأعراف، وبالإيمان بالله والتوكل عليه: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (84) سورة يونس، وبالدعاء وصدق اللجوء إليه: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} (88) سورة يونس. وهكذا كلما مرت ظروف صعبة بأمة فإن وسائل تجاوزها يكون بالصبر والتوكل والدعاء،2 لماذا؟ لأن العاقبة للمتقين.
وعانى النبي محمد صلى الله عليه وسلم في دعوة قومه إلى الإسلام، كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا).3
وهذا واحد من المظاهر الكثيرة في حياته -صلى الله عليه وسلم- التي بان فيها ما كان يتلقاه النبي من قومه، وغيره الشيء الكثير حتى جاء اليوم الذي يفرح فيه المؤمنون بالفتح العظيم -فتح مكة- والذي مكن الله تعالى فيه للمؤمنين المتقين.
وما يعانيه المسلمون في هذه الأيام من قتل وسلب وأسر وتعذيب وتهجير وسفك للدماء واستباحة للأعراض في فلسطين والشيشان وأفغانستان وكشمير والعراق والصومال والسجون العربية الموالية للغرب الكافر لهي من أعظم المظاهر التي هي بحاجة ماسة إلى الصبر والتصبر.
ومن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه نقتبس، فمن حديث خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا، قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)4
أيها الإخوة المؤمنون: إن الصراع مهما امتد أجله والفتنة مهما استحكمت حلقاتها فإن العاقبة للمتقين، لكن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة واستعانة بالله صادقة، أجل فلا ينبغي أن يخالج قلوب المؤمنين أدنى شك بوعد الله، ولا ينبغي أن يساورهم القلق وهم يصبرون على الضراء، ولا ينبغي أن يخدعهم أو يغرهم تقلب الذين كفروا في البلاد فيظنوه إلى الأبد، وما هو إلا متاع قليل، ثم يكون الفرج والنصر المبين للمؤمنين.
أقول ما سمعتم، واستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، قاصم الجبابرة والمتكبرين، ومذل الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف رسله وخاتم أنبيائه نبينا محمد السراج الوهاج وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
أيها الناس: من خلال استعراض الأحداث يتبين لكل عاقل مؤمن بالله تعالى أن العاقبة للمتقين والهلاك للمكذبين المعاندين: والشواهد على هذه السنة كثيرة؛ فما سبق خير شاهد على ذلك ومن ذلك ما جاء عقب قصة نوح عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (49) سورة هود. وقوله تعالى -عن وصية موسى عليه الصلاة والسلام لقومه بعد أن هددهم فرعون بتقتيل أبنائهم، واستحياء نسائهم-: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (128) سورة الأعراف.
وقوله تعالى عن هود عليه الصلاة والسلام مع قومه: {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } (72) سورة الأعراف. وقال عن نبيه صالح عليه الصلاة والسلام: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ*وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (66-67) سورة هود. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (47) سورة الروم.
وقال تعالى بعد إهلاك قارون الطاغية: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (83) سورة القصص.
عباد الله: إن ما جرى من تحقيق هذه السُنَّة في الماضي سيجري مثله إن شاء الله في الحاضر والمستقبل، إذا تحققت أسبابها من ظهور المتقين الذين يستحقون نصر الله عز وجل. يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن كان قد نصر المؤمنين لأنهم مؤمنون، كان هذا موجبًا لنصرهم حيث وجد هذا الوصف، بخلاف ما إذا عصوا ونقضوا إيمانهم كيوم أحد؛ فإن الذنب كان لهم، ولهذا قال تعالى: {…وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (62) سورة الأحزاب. فعمّ كل سنة له…"5ا.هـ. وقد سار شيخ الإسلام -رحمه الله- في ضوء هذه السنة الربانية، وعمل بها في جهاد التتار لما احتلوا بلاد الشام، وكتب للمسلمين يحرضهم على القتال، وينبههم إلى هذه السنة الإلهية في نصر أوليائه، وهلاك أعدائه. وقال في هذه النازلة يبشر المؤمنين بالنصر، وأن العاقبة للمتقين: "واعلموا -أصلحكم الله- أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين، وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون، والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم ومنتقم لنا منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فأبشروا بنصر الله تعالى وبحسن العاقبة {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (139) سورة آل عمران6، وهذا أمر يتيقنه كل مسلم مؤمن.
فمما أصاب المسلمين في الماضي وفي هذه الأيام الحالية وما سيأتي -إن شاء الله- في المستقبل يتبين لنا التالي:
أولاً: أن نور الله مهما حاول المجرمون طمس معالمه، وأن الطغاة وإن أثروا في عقول الدهماء فترة من الزمن، واستمالوهم بالمنح والعطايا، فإن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء، وتأملوا في حال فرعون وسحرته، وكم وعِدوا لقاء مواجهتهم موسى، ومع ذلك انقلبوا فجأة عليه، واستهانوا بما وعد به حين أبصروا دلائل الإيمان ولاذوا بحمى الملك الديان، فكانوا أول النهار سحرة وآخره شهداء بررة.
ثانياً: أن وعد الله آتٍ لا محالة، وأن جند الله هم الغالبون، وأن النصر قادم، قادم، قادم، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40) سورة الحـج.
فاتقوا الله يا عباد الله، وثقوا بنصر الله إذا توفرت أسبابه من الصدق والإخلاص والاستقامة على شرعه والتضرع بين يديه ورجائه والخوف منه وحده دون سواه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المجاهدين، وأقر أعيننا بتحكيم شريعتك في الأرض يا قوي يا عزيز، إنك نعم المولى ونعم النصير.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
1 من مقدمة كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير (1/1). بتصرف.
2 من خطبة للشيخ: "ناصر الأحمد" بعنوان: "شهر المحرم" المصدر:http://www.alminbar.net.
3 رواه البخاري (2992).
4 رواه البخاري (3343).
5 جامع الرسائل: لأحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، (1/54).
6 جزء من مقال بعنوان "السنن الإلهية في الصراع بين الحق والباطل من خلال دعوة الرسل لأقوامهم" من كتاب:’أفلا تتفكرون؟!’ للشيخ/ عبد العزيز بن ناصر الجليل، المصدر: http://www.islammemo.cc بتصرف يسير.