التخلف عن الجمعة والجماعات

 

 

 

التخلف عن الجمعة والجماعات

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

عباد الله:

يجب على المسلم المحافظة على الصلوات الخمس، وعلى الجمعة بأدائها في جماعة المسجد، ولا يصرفه عن ذلك طلب الدنيا. ولا ينشغل عنها بالدراسة ولا الوظيفة ولا أي عمل آخر، قال تعالى‏: ‏‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ‏‏‏[‏سورة الجمعة‏:‏ آية 9‏.‏‏]‏

وقال تعالى‏:‏‏ ‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ‏.‏ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ‏‏[‏سورة النور‏:‏ الآيتين 36، 37‏‏]‏، فيجب على المسلم أن يؤدي الصلوات في الجماعة في المساجد، وكذلك الجمع.

قال الله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ(102) سورة النساء.

إن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أمر بصلاة الجماعة في حالة الخوف، فدلَّ ذلك على أن صلاة الجماعة فرض على الأعيان إذ لم يسقطها عن الطائفة الثانية بفعل الأولى، فلو كانت الجماعة سنة يجوز تركها لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف. وكم من الناس اليوم يتخلف عن الجماعة لأسباب غير شرعية ويظن أنه معذور بتخلفه هذا.

قال عبد الرحمن السعدي: “وهذه الآية تدل على أن صلاة الجماعة فرض عين من وجهين أحدهما: أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن من باب أولى وأحرى، والثاني: أن المصلين صلاة الخوف يتركون فيه كثيراً من الشروط واللوازم ويعفى فيها عن كثير من الأفعال المبطلة في غيرها، وما ذاك إلا لتأكد وجوب الجماعة لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب فلولا وجوب الجماعة لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها”1.

ومما يدل على وجوب صلاة الجماعة ما رواه أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله   قال: (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)2.

فلما هدد رسول  تارك صلاة الجماعة بالتحريق دلَّ ذلك على وجوبها على الأعيان إذ لو كانت سنة لما هدد تاركيها بتحريق البيوت.

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: أتى النبي  رجل أعمى، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله   أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه، فقال: (هل تسمع النداء بالصلاة؟) فقال: نعم، قال: (فأجب)3.

فالرسول الله   لم يرخص لهذا الأعمى الذي ليس له قائد يقوده فغيره من باب أولى، فدلَّ ذلك على وجوب صلاة الجماعة على من سمع النداء.

وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله  : (من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر) قالوا: وما العذر؟ قال: (خوفٌ أو مرضٌ لم تقبل منه الصلاة التي صلى)4.

فدلَّ هذا الحديث على وجوب صلاة الجماعة على من سمع النداء ولم يمنعه عذر.

ونحن اليوم نسمع النداء للصلوات الخمس بمكبرات الأصوات ولا نجيب داعي الله.

عباد الله: إن الصلاة هي عماد الدين، والركن الثاني من أركانه بعد الشهادتين، والمحافظة عليها من مكفرات الذنوب، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله   قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)5

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

 الحمد لله سلك بأهل الاستقامة سبيل السلامة، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه  وأستغفره، بوأ المتقين في دار المقامة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم القيامة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، فاز من جعله إمامه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والكرامة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها الناس:

اتقوا الله تعالى، واعلموا أن  الله قد أمر وحضّ على صلاة الجماعة، وأكد على ضرورة حضورها، ورغب في عظيم فضلها فعن ابن عمر – رضي الله عنهما  – أن رسول الله   قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة)6

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ  أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ: (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ – عَزَّ وَجَلَّ – عَلَى قُلُوبِهِمْ وَلَيُكْتَبَنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ)7.

وجعل  ترك الجماعة في الصلاة علامة على التهاون بشأنها، و علامة على وجود عمل للشيطان وإستيلاء له على القلوب والأعمال، فعن أبي الدرداء  قال: سمعت رسول الله   يقول: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)8

وجعل  من حافظ  على الجماعة أنه على هدي النبي   فعن ابن مسعود -رضي الله عنه-  قال: “من سرّه أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهنّ، فإن الله شرع لنبيّكم   سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم  ولضللتم ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف”9

وقد حافظ المسلمون على هذه الشعيرة المباركة على مدى الأجيال، وقد بلغ السلف في المحافظة على حضور الجماعات ما يشبه الخيال، فهذا سعيد بن المسيّب يقول: “ما أذن مؤذن منذ عشرين سنة إلا وأنا في المسجد”

وقد كانوا يعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى، ويعزون سبعاً إذا فاتتهم الجماعة.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي   قال: (من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح).10

وقال  : (أتاني الليلة آتٍ من ربي، قال: يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت:نعم؛ في الكفّارات والدرجات، ونقل الأقدام للجماعات، وإسباغ الوضوء في السَّبَرات، وانتظار الصلاة، ومَن حافظ عليهن عاش بخير، ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه)11

 وقال السعدي في قوله: أَقَامُوا الصَّلاةَ في أوقاتها، وحدودها، وأركانها، وشروطها، في الجمعة والجماعات12.

و مما يدل على فضل الصلاة في المسجد أنه  كان شديد الحب للمساجد وأخبر بأن الله تبارك وتعالى يظله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.

يقول الإمام النووي في شرح قوله: (ورجل قلبه معلق في المساجد)13 معناه شديد المحبة لها والملازمة للجماعة فيها.

ألا فاتقوا الله عباد الله، واستقيموا إلى ربكم واستغفروه، ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال عز من قائل:إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً الأحزاب:56.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الأكمل.

 

 

 


1 – تفسير السعدي – (ج 1 / ص 198)

2 – صحيح البخاري – (ج 3 / ص 32 – 608)

3 – صحيح مسلم – (ج 3 / ص 384 – 1044)

4 – سنن أبي داود – (ج 2 / ص 155) تحقيق الألباني: صحيح، دون جملة العذر، و بلفظ: “و لا صلاة له”، المشكاة (1068).

5 – صحيح البخاري – (ج 2 / ص 355 – 497) وصحيح مسلم – (ج 3 / ص 419 – 1071)

6 – صحيح مسلم – (ج 3 / ص 377 – 1038)

7 – مسند أحمد – (ج 5 / ص 57)

8 –  سنن أبي داود – (ج 2 / ص 151 – 460)  وسنن النسائي – (ج 3 / ص 363 – 838) تحقيق الألباني: حسن.

9 – صحيح مسلم – (ج 3 / ص 387 – 1046)

10 – صحيح البخاري – (ج 3 / ص 54 – 622) وصحيح مسلم – (ج 3 / ص 421 – 1073)

11 – سنن الترمذي – (ج 11 / ص 27 – 3157)  ومسند أحمد – (ج 7 / ص 337 – 3304) وصحيح الترغيب والترهيب – (ج 1 / ص 73 –  302 ) – ( صحيح لغيره )

12 – تفسير السعدي – (ج 1 / ص 539)

13 – صحيح البخاري – (ج 3 / ص 51 – 620) وصحيح مسلم – (ج 5 / ص 229 – 1712)