ونطق الرويبضة

ونطق الرويبضة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .. أمَّا بعدُ:

أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ (سورة النساء:131)، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (سورة آل عمران:102)، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (سورة النساء:1)، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (سورة الحشر:18).

ثم اعلموا – أيها المسلمون – أننا نعيش في زمان كثرت فيه الفتن والبلايا، وعظمت فيه المحن والرزايا، وادلهمت فيه الخطوب، وتجلت فيه الكروب، إنه زمان ملئت فيه الدنيا جوراً وظلماً، وأسند الأمر فيه إلى غير أهله، ونطق الرويبضة، وساد السفيه، وتمكن الخائن، وقيل للحق باطل، وللباطل حقاً – ولا حول ولا قوة إلا بالله -، وهذا ما أخبر به – عليه الصلاة والسلام – مما سيقع  في آخر الزمان كما في الحديث الذي حدث به أنس بن مالك وأبي هريرة – رضي الله عنهما – حيث قالا: قال رسول الله : سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادقُ، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق الرُّويبضة، قيل: وما الرَّويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة1، قال ابن الأثير – رحمه الله -: الرويبضة تصغير الرابضة وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها، وزيادة التاء للمبالغة، والتافه: هو الخسيس الحقير2.

أيها الناس: في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام نبوته ؛ فإنَّ المتأمل والناظر في واقع الناس اليوم، وما نحن عليه يعلم يقيناً صدق ما أخبر به النبي ، ويتقين أننا في تلك السنين التي أخبر النبي  بأنها ستأتي، فلقد أتت، حيث صُدِّق في هذا الزمان – والله الذي لا إله إلا هو – الكاذب، وكُذب فيه الصادق، وائتمن فيه الخائن، وخوّن فيه الأمين، وتكلم الرويبضة في قضايا الأمة العامة، وأسند الأمر إلى غير أهله!

أيها المسلمون: لقد طعن الرويبضات في الإسلام باسم الإسلام، فكم رأيناهم يتباكون على الإسلام وهم أبعد الناس عنه، يسمون التمسك بالإسلام تطرفاً، والدفاع عن المسلمين ومقدساتهم إرهاباً، ونسوا – أو تناسوا – أنَّ التطرف هو الانحلال الخُلُقي، والمسخ الخَلْقي الذي يعيشونه، والإرهاب هو ما يمارسونه ليل نهار في حق المستضعفين في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين، ولكنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.

إنها كلمات تلقوها من أساتذتهم من اليهود والنصارى! فنعقوا بها في كل واد وناد، وبها يتيهون ويهيمون، ونقنقوا بها نقنقة الضفادع الغائرة في الطين، وليتهم عرفوا مدلولها الشرعي فهي حجة عليهم، لكن مصيبتهم أنهم لا يُحسنون إلا ترديد الببغاوات، إن هؤلاء الرويبضات ديدنهم الكذب، وشعارهم التدليس، لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، نذروا أنفسهم للشيطان، وتمردوا عن طاعة الرحمن، وفسقوا عن أمر ربهم خالق الإنس والجان، إذا رأوا عالماً أو طالب علم ولَغوا في عرضه ولوغ الكلاب في النتن، فتارة يتغامزون، وأخرى يهمزون ويلمزون، غافلون عن قول الحق: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (سورة الهمزة:1)، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ۝ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (سورة المطففين:29-30)، وقوله: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ۝ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ۝ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (سورة المؤمنون:109-111).

هل سمعتم – أيها العقلاء – أنَّ جمعاً من الرويبضات يفاوضون على تقرير مصير أمة، وتغيير تاريخ أجيال، وذلك تحت شعار: وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (سورة الأنفال:61)؟!. إنه لن يكون حال الأمة أسوأ ولا أقبح من حالها حينما يعلو الزبد، وما ينفع الناس يذهب جفاء، حينما ينطق فيهم الرويبضة، ويصول ويجول، وتخلو له الساحة؛ حينئذ: ويل للعرب من شر قد اقترب3، ويل لهم من شر غائب ينتظر، وليس لها من دون الله كاشفة، ففروا – عباد الله – إلى الله، واعملوا بالشرع وأحكامه، وبه زنوا الأمور، والأحداث، والأشخاص، وإياكم والانتكاس إني لكم نذير مبين4. وأقول ما سمعتم، واستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد الله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله بلا حصر ولا عدد، وعلى آله وصحبه ما ركع راكع لله وسجد، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المزيد. أيها المُوحِّدُون: من العجيب أنَّ الكفار أصبحوا يتكلمون بلسان أمة الإسلام، فنصبوا أنفسهم وكلاء على المسلمين، وكأنَّ المسلمين لم يبلغوا سن الحُلُم، أو ما أشبه ذلك، فلقد أصبحوا يفاوضون بل ويحكمون بأن على الفلسطينيين أن يكفوا عن عملياتهم كما يصفونها بالإرهابية، وعليهم.. وعليهم..!.- ولا حول ولا قوة إلا بالله -، فأصبح الكفار هم العقلاء، والمسلمون ليسوا كذلك!.

أيها المسلمون: إنه ما تسلط علينا أولئك الأراذل من الكفار وغيرهم إلاَّ أننا تخلينا عن ديننا، وعصينا أمر ربنا، وركنا إلى هذا الحياة الدنيا، فسلط الله علينا شرار خلقه ليذيقنا بعض أعمالنا، ولعلنا نعود إليه ونتوب، ولكننا مع كل هذه المحن والرزايا، وإحداق الخطوب بنا من كل حدب وصوب، وضيق الأرض بنا بما رُحبت، وقلَّ المناصرون، وكثر المثبطون والمرجفون، وزمجر الفساد والمفسدون، وشُجع المبطلون، وكبت أهل الحق والدين، وتخلى الأمناء الشرفاء، ورفع السفهاء، وتظاهر بالوفاء كل خوان، ونطق الرويبضة، وغدى القرد ليثاً، وأفلتت الغنم، فلنرفْع أيدينا إلى من قال جل في عليائه: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (سورة غافر:60)، ولنصدق التوبة، ولنعترف بالخطأ، ولنندم على فعله، ولْنعْزم على عدم العودة إليه، ولْنتضرع إلى الله، ولْنتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته، وبما عملناه من عمل صالح، ولْنناجيه ولْنقل:

يا من أجبت دعاء نوح فانتصـر وحملتـه في فلكك المشحـون
يا مـن أحال النار حول خليلـه روحـاً وريحاناً بقـولك كـوني
يا من أمرت الحوت يلفظ يـونسا وسترتـه بشجـيرة اليقطــين
يا رب إنـا مثلهـم فـي كربـة فارحم عبـاداً كلهم ذو النـون

اللهم إنا نسألك في هذه الساعة المباركة باسمك الأعظم الذي إذا سألت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت؛ أن تجيرنا من النار، وأن ترزقنا ألسنة ذاكرة، وقلوباً خاشعة، وأعيناً مدرارة، وإيماناً نجد حلاوته يوم أن نلقاك، رباه إن حالنا لا يخفى عليك، وذلنا ظاهر بين يديك، والمسلمون عبيدك، وبنو عبيدك، وحملة كتابك، وأتباع رسولك يرجون رحمتك، ويخشون عذابك، رباه لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين5. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


1– رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وهو في الصحيحة رقم (1887).

2– النهاية في غريب الحديث (2/185).

3– جزء من حديث أخرجه البخاري ومسلم.

4– انظر مجلة الأصالة. العدد السابع. صـ(9- 12). مع الحذف والزيادة.

5– بتصرف من شريط لفضيلة الشيخ/علي بن عبد الخالق القرني – حفظه الله – بعنوان:” هكذا علمتني الحياة (2).